غير ليلة وانهار (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


والشمس إطلالة نورانية بشرى يوم جديد في حياة أناس يعملون لها تخر متراجعة آخر تبعثر فلول العتمة، بين ستة وثمانية وفي الدقيقة المحددة تنطلق الكوكتة تدوس الطريق المعبد الملتوي كثعبان بين حقول بيضاء على ظل نخيل يستسقي جريده قطرات السماء، أو دفق جداول إليها يحمل السيل المزبد الدسم الترسبات هدية -عربون إخاء ومحبة- أماكن وتضاريس بعيدة، وكم تود النخلة أن تروي ظمأها وهي تتمطق كطفل رضيع زخات المطر، إلى جانب أن يستحم قدها وفرعها لأيام معدودة فضيض بحيرة حيزها الصغير المساحة.
عبر المنعرجات وشامخ أسوار وبوابات القصور الثرية الحكايات والأخذ والرد وتبادل الآراء في انشغال عن الدواستين تستغفل الكوكبة طول الطريق ومشقتة المروضة تبعا لتوالي الصباح والمساء.
تعرف الحياة وضمن تقلباتها الكثيرة المد والجزر وما بينهما من صمت ضجوج بعض الإشراقات الخاطفة المبهرة وغير المتوقعة والحافظة لوجودها في تجاويف الروح على أساس أنها لؤلؤة جادت بها يد الزمان البخيل أثناء عبور المضيق الصاعد الهابط، لا يخفت بريقها مهما كشرت الظروف والملابسات، بل إن ذلك لا تزيده الأيام والليالي إلا مزيدا من اتقاد الشعلة التي يهفو شعاعها إلى ما حولها من ظلمة دامسة، كما هو حال الرجل النحيف المرح النشيط الحركة واللسان المجافي لكل ثرثرة أو نميمة، أسمر البشرة على عينين تفيضان بريقا ورقة وشدة من المستحيل الضحك عليهما.
إبان العودة مساء والنهار تمدد وصفاء ربيعي سريع الخطو قصير النفس، به تحتفي قبة السماء الزرقاء وسكون تلويحة جريد النخيل التي تأخذ قسطا من الراحة استعدادا لعصف وعويل يلقحها ثم يرج عراجنها التي تنث حبات عسلية. إكبارا له -كأن عطبا طارئ حل بدراجته- يتوقف أمحمد بغتة محاذية للرجل الذي يدب جلبابا أبيضا على دراجة التزمت أقصى اليمين، في لمح البصر كان عناق واحتضان يرويان شوق الغياب لسنوات، لم يتبين أعبيد اندفاع وزخم لجته إلا بعد سؤاله:
-اعذرني يا ولدي، من أنت؟
مرة اخري تدافأت الأحضان وحرارة مخضة تشابكت اليدان وجرى نهر الأسئلة حول الوالدين والإخوة والأخوات والعيش والعمل وقد اتضح الحال وشريطا تفتقت واسترسلت لقطات الأمس البعيد قائلا في فرح أبوي:
كبرت يا ولدي وغدوت -ماشاء الله- رجلا، عهدي بك وأنت تنوء تحت وصلة الخبز ذات المنديل الذهبي ذي الأهداب والحواشي المزينة خطين أسودين، من الحفرة وأمام الفواهة أنجدك عبر أحد حتى تستريح من عبء أربعة/ خمسة أرغفة بين الفينة والأخرى واحدة منها تذغدغ الأنوف وتسيل اللعاب بحشوها المعطر توابل فواحة فرنا وعلى مسار السبيل إلى البيت، الذي لا أشك أن يحرجك أحد العابرين بقوله:
-خبزة مدوزة بالصحة والراحة.
على جناح أرغفة سوداء وبيضاء وصفراء ضمن أطباق ووصلات يتجدد لقاء الأطفال كل يوم في الفرن دون شغب أو مزاح مزعجين، في تتابع ينتظر الجميع أن تتورد خدود أرغفته وقد رسى بها المطرح شمال الجمر والنار الخفيفة تحت عين منخش كبح جماح نط عود رقيق لاعبه لهيب لا يجب ان يحوم لسانها نحو تعب الانسان: يقلب الرغيف مرة أو مرتين ثم ينادي عن صاحبته لتتلقى خبزها خاتما عمله وهو يلقي إليها بآخر واحدة:
-او الدار ابنتي ما تلعبيش في الطريق.
لا أحد يسبق غيره وإن فاضت خميرة طبق ما يستأذن أعبيد المتقدم -إن لم يكن لديه مانع-في آخر لحظة حتى يتعلم المعني الحضور قبل الوقت من أجل خبز لذيذ عطرته رياحين الغابة الفاتحة للشهية دونما حاجة إلى بلول أو شاي.
مع أعبيد الذي تم الاهتداء إليه في نهاية المطاف، زال عن كتفي أمحمد النشيط -كما يحكي صحبة اتراب لن يتخلف عن اللعب معهم- في ربيعه الثامن حمل ثقيل كالجبل، فلا ضجر ولا كدر ولاصفين تختلف ألوان مناديلهما المسترسلة في استرخاء إلى غاية الباب في التهام لغبطة ومتعة اللعب، ولا صراخ ولا انفعال ولا طلب للواجب الشهري وربما الشهرين وحتى الثلاثة أشهر المضنية انتظارا وعدا والمنسربة دريهمات كملح ذائب، ولا العودة إلى البيت من أجل اعواد وجريد، كما هو الحال مع سالم الرجل الصبور القليل الكلام القصير القامة على بشرة بيضاء، إلى بندورة حمراء يحيلها انتفاخ الرغيف المستغيث:
-ان كفاني نارا.
لا يكاد يظهر من الرجل إبان إدخال وإخراج الأرغفة إلا طاقية مسخ بياضها تحت العرق ودخان لم تهتد دوائره إلى المدخنة التي لا بد أنها تشتكي من ضيق التنفس. أو فرن مجاور منعطف الدرب إلى زقاق على خطوات قليلة، أوقد ناره شيخ أسمر معمم بجلباب صوفي مهترئ حلو المنطق مبشور الوجه، كبير العينين، كثير الدعابة، واتته الوضعية، يخلفه -إثر مرض- تلميذه الطويل، الخدوم، الخلاسي المحيا، الكث الشعر، المحبوب من أهل الدرب، المجبر على الانحناء باستمرار خلال نثر العجين وأثناء تغذية النار ولحظة جني الخبز المشمشي الذي لا يخلو من لسعة -معتذر عنها في خجل كبير- مؤلمة سوداء تخدش العين وإن لم تتمكن من غرز شوكتها برهة التقاط نفس ومسح عرق ورشفة شاي على جميرة متقدة منطفئة لسجارة رخيصة، بيده القوية يبعثر ذيلها الأشيب البني الملوث للمكان الضيق حتى أن الأطباق تمرح الدرب في تطلع -على أحرمن الجمر- إلى جوار المطرح عساه يلتفت إليها قبل فوات الأوان. عرف هذا الفرن في آخر حرارته رجلا قصيرا متعجرفا، لا أحد سلم من لسانه، مبالغ في حرق اللفائف البخسة الثمن، به ظمأ غريب إلى الشاي، لا يحترم تدافع الأطباق، يميز الناس ويمن عليهم، يصرف غيضه نحو كل من لا يساير هواه، بأن يدع خبزه على مقربة من طقطقات النار، مما جر عليه شكايات وخصومات عجلت بطرده.
فكانت الوجهة فرن أعبيد، فرحا مرحا تناغمت الخطى كقطرات المطر خطا تناوب -من غير عناء أو تهرب أو رفض- أخوة أمحمد وصلة حريصة على عقارب الساعة ذهابا ومكوثا وإيابا مع نسج علاقة يسودها الاحترام والتقدير المتبادلان والمتناميان مع الأيام شجرة فرعاء خضراء تستدعي السؤال والسلام على الأهل.
يطرق الفرن الغازي الأبواب وتتراجع خرجات الضحى إلى الفرن ساكن الشغاف رغم صخب وفرح الصندوق الحديدي العريض البني زينة دفتين علويتين وثالثة سفلى، المستحوذ على ركن خاص والحافظ لشذا حلويات تنامت وتنوعت مسرعة وفي غفلة من الكل تبهج المائدة لذة وإشراقة ألوان تتجاور أشكالا هندسية تثير رعشة الأصابع ومسيلة ريق لسان استحلى أن ينال منها، وفي نفس الوقت ضيق من فسحة الأقدام، ناهيك عن نسمة ولذة الرغيف التي عفت عنهما هرولة الزمان.
في السوق وأمام باب رحبة الأغنام والناس بيع وشراء استعدادا لعيد الاضحى، تواجد الرجل الخلوق أعبيد وأمحمد فطاف الحديث حول أهل الطرفين، ليحمل أعبيد محاوره التحية والسلام على الشيخين موصيا إياه كل الخير بهما، في استمرار وتواصل دورالنصح والإرشاد الذين أثمرا ثمارا حسنة تحت دفء وسخونة قاعة الفرن، فلا اعتداء أو شتيمة أو إهانة، وفي حالة الشكوى فأعبيد يتولى الأمر في حينه، بعد أن يجلو سبب المشكل، فيصلح بين الصغار مشيرا إلى ما يتعلمونه في المدرسة من أدب وأخلاق وتعاون واحترام…
يقرئ أمحمد أهله سلام أعبيد المنبجس خضة مفاجئة أعادت قراءة أوراق الماضي وكذا تأمل مسافة زمنية تربو على عقدين ونيف جرت خلالها أحداث وتطورات كثيرة، وفي مقدمتها تولي الفرن الغازي احتضان الأرغفة. بعد لحظة ذهول تكلم الحاضرون وهم يحاولون لم شتات الصورة بمساعدة كأس شاي جعل الكل يلمس أن ماء كثيرا جرى تحت الجسر.. تكلم عمي يوسف منوها بأخلاق الرجل وتصرفه الجيد قائلا:
-رجل مزيان ، الله اعمر له الدار.
في سرور صاخب غير منتظر انفجر الكلام من حاملي الوصلة، خوفا يقضم النسيان بعض مكنون صدورهم المشيدة في تداخل الأصوات بطيبة وحزم أعبيد، ثم ختمت أم الفراخ عمتي الزهرة الكلام وقد خلا لها الجو بعد أن سافرت بعيدا في هدوء تفصح عنه نظرتها، وكأنها كانت تراجع الأحداث وترتبها في انتقاء كلمات عذبة وازنة:
-ما ازيان خبزنا حتى لعند أعبيد… ما كنكلوش خبزة ما محروقة، ما عوجة حتى جينا عند فران أعبيد، اللهم تعالى يقبل ليه.
بينما بقي أمحمد يتأمل هذه العلاقة المتحدية لرحى البلى، النائمة المستيقظة الخاضعة لخدمة متبادلة ترتبت عنها محبة صادقة فتق زهورها عناق وتحميل سلام إلى الأبوين.
طورا آخر وعلى الطريق المشترك في جزء منه ينادي أعبيد على أمحمد متسائلا عن حاله وعمله والعجوزين الذين يوصيه بهما خيرا. وحتى يطمئن أعبيد رد أمحمد -مفرجا عما يمور في صدره من تضارب- والكلام على اللسانين كالماء مجرى الجدول:
-بابنا واحد، قدرنا واحد، صابوننا واحد، لهما الأولوية في كل شيء.
كموج البحر الهائج في حركة لولوبية تموج أسئلة مختلفة: ترى لماذا هذا الإلحاح؟ هل لاحظ شيء؟ هل سمع شيء؟ لا شك أن الأمر ينطوي على ما لا يساير مناه؟؟؟
ازداد قلق أمحمد فود لو يغمض عينيه ويفتحهما وهو بالبيت يفاتح والده/ والدته في إلحاح أعبيد على العناية بكما، هل ينقصكما شيء؟ هل ترغبان شيء؟
بكل صفاء وصدق ودون تعثر أو تلعثم -من نوافذهما يطل الكذب- أجابت المرأة قارئة الأعين:
الله يحفظك، انت نيتك صافية، ما تاكل علينا حتى لمرة.
ما عادت لقاءات الصدفة المتباعد مع أعبيد تحرج أمحمد بنصحها وإرشادها مع التوكيد على سعي إرضاء الوالدين، ورضاهما، فهما رحمة وضوء الله في أرضه. تلك لازمة يتلوها أعبيد على مسامع أحبابه ومعارفه باعتباره راجح العقل وواسع الخبرة، يلجأ اليه في إعادة المياه إلى مجراها إثر حبة لاكها الشد والطلق فصارت قبة، يعالجها أعبيد بتلطيف الجووكنس كل سوء فهم ثم يختم بالصلح وعدم الاستجابة لمراد الشيطان مذكرا بالصبر وقصر العمر.
في عرس آخر ابنائه توسط القاعة بعد تناول العشاء، رافعا أكفه إلى السماء في توسل إلى الله أن يلهمنا الصبر والسداد، منبها أن الحياة مهما طالت فهي غير ليلة وانهار.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *