يعدّ كتاب “جبران خليل جبران: حياته وعالمه” من تأليف خليل جبران وقرينته جين جبران ومن إصدار دار الحداثة في 732 صفحة الصادر باللغة الإنجليزية وترجمة الشاعرة المصرية فاطمة قنديل ومراجعة بهاء جاهين، وهو صحافي في جريدة “الأهرام” والمشرف فيها على صفحة الأدب.
كتاب مهم جدا صدر كذلك بمساعدة من مؤسسة رفيق الحريري، وتمت ترجمته في إطار المشروع القومي للترجمة الذي أشرف عليه الناقد جابر عصفور وحمل هذا الإصدار الرقم 920 وهذا المشروع الطموح يهدف إلى ترجمة مليون كتاب. يمثل الإهداء عتبة محيلة على مضمون الكتاب، والدور الذي لعبته ماري هاسكل في تكوين وإثراء ومساعدة جبران على البروز والتفرغ لفنه، حيث جاء على هذه الشاكلة “إلى ماري هاسكل: الهامش والبطل” في إحالة ضمنية إلى دور هذه السيدة في حياة جبران الفكرية والعاطفية والاجتماعية، فهي وإن كانت على الهامش في اهتمام مؤرخي جبران ومقاربي فكره وفنه، إلا أنها لعبت الدور الرئيس في حياته خاصة في السنوات الأخيرة. ثم التقديم من لجنة جبران الوطنية، والتصدير للناقدة سلمى الخضراء الجيوسي، ثم مقدمة المترجم خليل جبران وفي 23 فصلا بعناوين دالة وهي عتبات مهمة لإضاءة مضامين هذه الفصول على شاكلة: فقير في بشرّي، النهاية الموشكة، المريضة، للقرن، الآنسة بيبودي، حضور الأنثى الملاك، الكاتب العربي الشاب، روح متسقة مع نفسها، مولد أسطورة، غزو نيويورك، سنوات الحرب، الرّابطة القلمية، مواطن عالمي، السنوات الأخيرة، العودة إلى الوطن.
ثم كلمة ختامية وهوامش ببليوغرافية ضخمة باللغة الإنكليزية عن كل ما صدر في العالم من دراسات ومقاربات لفكر جبران وفنه وحياته العاطفية والاجتماعية والإنسانية، ما يجعل هذا الكتاب في طليعة الكتب المهمة التي تثري المعرفة بجبران مفكرا وشاعرا ورساما وإنسانا، على كثرة ما ألف عنه، فهو أحد كبار شعراء ومفكري النزعة الإنسانية، والعربي الذي عاش جدل التقاء الشرق بالغرب والمعاناة الفكرية من واقع عربي إشكالي حمل تبعاته في هجرته إلى أمريكا بحثا عن ذاته وتشكيلا لها، فالهوية كما يقول أمين معلوف ليست شيئا ناجزا، بل مشروعا ينذر الإنسان نفسه له تشكيلا وبناء وصياغة وفق سياقات العصر الفكرية والاجتماعية والحضارية، فالهوية المغلقة الناجزة قاتلة كما يلح.
وجاء في التقديم الذي حرّره رئيس لجنة جبران الوطنية أنطون الخوري، عن أهمية هذا الكتاب في كونه إضافة قيّمة للدراسات الجبرانية، تسد الثغرات وتفسر الأحاجي والألغاز في حياته، ورصد –كما تشير ببليوغرافيا الكتاب– كل ما كتب عن جبران بغير اللغة العربية في القارات الخمس، وتعقب كل ما هو جديد من دراسات ومقاربات ولا تكتفي بالقديم، ناهيك عن دقة البحث الأدبي والفني والمنهجي الصارم في رحلة البحث عن جبران الحقيقة والواقع، وليس فقط جبران الأسطورة. لقد تحولت حياة جبران إلى أسطورة ولفها كثير من الضباب والمبالغات، وقد أشار ميخائيل نعيمة في كتابه المهم عن رفيق عمره إلى كثير من المبالغات والشطط الذي يعزل جبران الإنسان عن محيطه وعن إنسانيته وينأى به عن أخطاء ونقائص الإنسان وغرائزه وهواجسه مما يعد مضرا بالبحث الأدبي ويزيد في غموض الشخصية وينأى بها عن الحقيقة وهي المقصد في البحث أصلا.
فهذا الكتاب يهدف أساسا إلى تمزيق الحجب والبحث عن جبران الإنسان لا الأسطورة وتفهم ظروف تكوينه وبيئته الأولى الشرقية والثانية الغربية والمحيط الاجتماعي والفكري والإنساني الذي أثر فيه وتأثر به ودور المرأة في تشكيل فكره وبلورة شخصيته.
أما التصدير المهم الذي أتحفت به الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي الكتاب، فقد جاء بإضاءة لظروف نشأة الأدب المهجري وتأسيس الرابطة القلمية وأثر جبران في تجديد الأدب العربي الحديث شعرا ونثرا، فالرومانسية نشأت بين نواجذ الكلاسيكية الجديدة (الإحيائية) بتأسيس طريقة جديدة في الكتابة نظرا لتصلب الكلاسيكية وأحد مظاهر هذا التصلب هو شعر المناسبات، فالتجديد أو الثورة يقتضيان الاستبطان وكشف النفس، والاستغراق العميق في الحياة الخاصة الشخصية، ويعد جبران أحد رواد الرومانسية فتكوينه الشخصي المفطور على حب الحرية والتمرد، ومواهبه الفكرية والنفسية، وحياته في الغرب معقل الذاتية وإحساس الفرد بإنّيته وتعزيزها، والفارق الحضاري بين غرب متقدم لا يلوي على شيء، ولا يكلّ من التجريب والهدم والبناء، والاستغراق في تفاصيل الحياة كشفا واستمتاعا وتجريبا، وشرق استسلم إلى التقليد وركن إلى التسليم والوثوقية واليقين والاجترار من الماضي مع تتفيه للغرب وللمادة وإعلاء للشرق وللرّوحانيات، وهي نتيجة تعكس حالة العطالة والإفلاس الحضاري، بينما حمل جبران لواء الثورة مع موهبة رومانسية خالصة وخيال محلق وقوة غنائية دافعة وتوق متقد إلى الحرية وصياغة فنية ساحرة، مع التركيز على الإنسان الشرقي رجلا كان أم امرأة، لا مجرد النبيل أو الثري أو السياسي، أو رجل الدين، بل حمل لواء الثورة عليهم باعتبارهم طبقة رجعية وظيفتها الاستغلال والسيطرة وحفظ المصالح على حساب مجموع الشعب.
المرأة والثورة الجبرانية
وتأتي المرأة في لب الثورة الجبرانية، فهي واهبة الحياة ومنبع الحب والرحمة والعطف والبوصلة التي توجه القلب نحو الحب والجمال والخير، لكنها في المجتمع الشرقي تحولت إلى آلة وظيفتها خدماتية إمتاعية تناسلية، مجردة من قيمته، وهذا أحد اسباب تخلف المجتمع العربي، وكان جبران يرى ويعاين في الغرب المكانة التي وصلتها المرأة، والدور الذي تلعبه في تمدن ورقي الغرب. بينما تأثر الأسلوب الجبراني بالكتاب المقدس، كما يظهر في كثرة استخدامه للأساليب الاستفهامية وصيغ النداء وجماليات التكرار وتوظيف الاندفاع المتموج للإيقاع الرومانسي، محدثا ما يشبه التنويم المغناطيسي لقرائه، وقد كتب مرة “إن الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر، على شفتيه، وبين أصابعه”. وساعدته أمريكا كما كتبت سلمى الخضراء في البعد عن حكماء الأدب العربي، الذين كانوا أوصياء على الكلمة محافظة وتقليدا، وهو ذاته لم يبال بنقدهم لعثراته اللغوية، وخروجه على الأساليب الجمالية التقليدية، كما أن وجوده في محيط حر ديمقراطي عادل، جعله يمعن في الثورة على التقليد والرجعية والسكون، ويهيب بالمجتمع العربي أن ينحو منحى الغرب في نشدان الحرية والتقدم العلمي والفكري والاجتماعي، مع دعوة صارمة إلى نبذ الاحتراب الداخلي والتفرقة على أساس إثني أو ديني أو طائفي، فهذه الاختلافات داخل المجتمع الواحد مصدر ثراء وتنوع له لا مصدر فرقة وتباغض واحتراب. وفي كتابات جبران بالإنكليزية توجه إلى الرؤية الكونية (وحدة الوجود) التي كرسته حكيما ونبيّا ومتمردا وختمت الكاتبة تصديرها المهم إلى أنها حين وصلت إلى أمريكا في السبعينيات لم تندهش للشهرة التي يحوزها جبران، فكثير من إنجازات الأدب المعاصر تدين له.
بينما أشار خليل جبران في المقدمة إلى أنه حين مات جبران كان هو في العاشرة، وكونه أحد أبناء عمومته، وعايش الحجب والأحاجي والألغاز التي اكتنفت حياته، شعر بمسؤوليته في تمزيقها وإظهار جبران الإنسان لا الأسطورة، وجعله هذا بمعية زوجته جين، يقدم على هذه المغامرة، بحثا واستقصاء في قراءة وتحليل الرسائل ولقاء الشخصيات التي عايشت جبران، إضافة إلى قراءة ونقد الدراسات والكتب والمقاربات، التي تناولت جبران من مختلف الجوانب وهي كثيرة جدا كما أشار أكثر من مرة. في بحثه مع ماريانا وهي أخت جبران تم إتلاف أكثر من 200 رسالة لم يتعرف على مصدرها بينما حصل من والده وبعض أصدقاء ونساء جبران ثم مكتبة جامعة نورث كارولينا على 615 خطابا و47 دفترا ليوميات ماري هاسكل، وهي تغطي الفترة من 1904 إلى 1931، كما خلص إلى أن الكتابات التي تناولت جبران تندرج إما في سياق الكتابات الهجومية، أو المبجلة وكلاهما يحتاجان إلى البحث والنقد في رحلة البحث عن الحقيقة، وهو التعاطي نفسه مع جبران في المشرق، فعلى الرغم من الشعبية التي كان يحظى بها من لدن القراء العرب خاصة، وهو يعبر عن أشواقهم إلى التحرر والطموح إلى النهضة والتقدم إلا أن النقد المحافظ تعامل معه بشيء من التحفظ والاستهانة بتصويره الفني وخيالاته المبتكرة، مرجعا إياها إلى هلوسات بتأثير من المخدر ناهيك عن عثراته اللغوية وشطحاته الفكرية، التي كرست نرجسيته وتعاليه المبالغ فيه.
يعرج الكتاب على الشخصيات التي اختلط بها جبران فساعدته في بداياته والنساء اللواتي عرفهن وعاش معهن الحب بلا تحرج، أو تعفف، وجدير بالذكر أن نعيمة انتقد جبران كثيرا على تهتكه وشهوانيته، ومن الشخصيات التي ساعدت جبران في بداياته في فن التصوير فريد هولاند داى، فقد احتضنه رساما شابا وساعده كثيرا، ثم النساء اللائي عرفهن معجبات بأدبه أو تصويره، ووقعن في حبه وفي مغامرات هذا الحب الذي لم يكن يعرف حدودا على شاكلة ماري هاسكل، إميلي ميشلين، جيرترود باري، جيرترود شتيرن وغيرهن، فقد فتح جبران بمقولته “امراة أخرى سوف تلدني” الباب على مصراعيه أمام حشد من النساء الراغبات في تجارب الحب روحا وجسدا، ليغرق بعده في ثيمة الولاءات المنقسمة إلى لغتين، وإلى مجموعة من الصلات المتصارعة والغراميات المشبوبة، فما تنتهي قصة أو تخمد نار حب، حتى تبدأ قصة أخرى وتشب نار أخرى، وكأن قدره أن يحرق الأنثى ويحترق بها ليواصل توهجه، فقد كتبت جيرترود شتيرن إلى المؤلف بمناسبة صدور الكتاب –وهي عشق جبران الأخير- بعد أن اطلعت على مضمونه (لقد قرأت سيرتكم عن خليل.. بالنسبة إليّ هي الأفضل والأكثر صدقا من كل السير التي كتبت عن خليل جبران، لقد كنت عشق جبران الأخير ولقد طلب مني بالفعل الزواج).
الأسطورة
جبران الذي ترك بوسطن حيث ظل ينظر إليه على أنه العبقري السوري إلى مدينة كوزموبوليتية مثل نيويورك، مدينة الأحلام والتخفف من الأحكام المسبقة ولقاؤه بلفيف من الكتاب والشعراء أبناء بلده الأصلي، الذين شغلهم هاجس التجديد والإبداع وقد كانوا ذواتا موزعة بين غرب مادي وشرق روحاني، بين لغة تراثية هي العربية، ولغة حياتية هي الإنكليزية، وعالم عربي طامح إلى غد مشرق متخلص من نير الاستبداد والعبودية والرجعية والاستعمار، وأدب مواكب للحياة في صيرورتها وتطورها.
لقد أغرق جبران نفسه في الحب وفي العمل حتى انهدت قواه الجسمانية واعتلت صحته، وقد كتب مرة إلى إحدى نسائه (العمل يا جيرترود هو المعبر الوحيد إلى المعرفة والفهم والحب، وهو المفتاح الوحيد لبيت الأحلام، خلال العمل يستطيع الإنسان أن يعلو فوق الناس الذين هم دون المستوى، إذا لم يرغب المرء الناس الذين هم دون المستوى، وخلال العمل أيضا يمكن أن يقترب المرء من الناس إذا رغب المرء في الاقتراب، إنه مثل السحر). إن نرجسية جبران ورغبته في الخلود وإيمانه بالتناسخ جعله يمعن في كل شيء: الشطط الفكري، الغلو في الحب، التمرد على القيم والأعراف وهذه الحياة التي ستبلى ستعرف حيوات أخرى في أشكال أخرى.
لم ينس الكاتب أن يوجه نقدا لبعض الكتاب الذين وصفهم بالمتحاملين، مرجعا ذلك إلى الحسد وهو يقصد ميخائيل نعيمة مثلا في كتابه عن جبران، في نقده لتهافت جبران أمام سلطة الجسد ومادية الحب، والمبالغة من قبل جبران نفسه في تقدير ذاته ومن قبل معجبيه كذلك، ليؤكد في النهاية كونه التأثير الأكثر أهمية على الشعر العربي خلال النصف الأول من القرن المنصرم. لقد غدا جبران كاتبا عالميا، ففي 24 سبتمبر/ أيلول صدر قرار من الكونغرس بتأسيس نصب تذكاري على أرض فيدرالية في مقاطعة كولومبيا، ثم أقيمت لذكراه حديقة للتأمل موسومة بالعديد من أشجار الأرز بالقرب من السفارة الإنكليزية عام 1989. لقد استلهم جبران الكتاب المقدس وشخص يسوع، كرمز للمحبة وللمعاناة، ولقدسية الإنسان والعنصر المأساوي في الحياة اليومية والفضيلة الأخلاقية وقيمة البسطاء ونقد السلطة الدينية وتصور إله محب للخير والنساء كمخلوقات روحية ذوات بصيرة، والموت كهاد والحب المتناسخ المقدر مصيره سلفا، والروح التي تنشد الجمال والحقيقة، ليخلص الكاتب إلى تأكيد الأطروحة التالية: جبران ككاتب للأفلاطونية الجديدة في أواخر القرن التاسع عشر ويكتب بتأكيد (يبدو من ثم أن صيت جبران المرموق، سواء تحداه المعلقون الصحافيون المنحازون، أو عزز منه جمهور العالم الذي يزداد اتساعا، أو حلله عدد يتسع من الباحثين العرب دون مساس. ستستمر كلماته تضيء وتواسي وهذا ما سيوافقنا عليه، كان ما هدف إليه).
ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر
المصدر: القدس العربي