دراسة تحليلية لقصيدة (الوجوه التي أحب) للشاعر العراقي يونس علي الحمداني / بقلم ذة. سامية خليفة / لبنان



اقتلاع سوداوية الحدث بقالب من الرومانسية الجمالية في نقل الصور.
يبدأ الشاعر نصه بالعنوان (الوجوه التي أحب) فنتساءل ما المقصود بتلك الوجوه ولمن هذه الوجوه ولماذا يحبها الشاعر؟ فتزيدنا الفضولية تشوقا لكشف لغز هذه الوجوه.
يعمد الشاعر في نصه إلى اقتلاع سوداوية الحدث في فقده لعزيز للإضفاء على النص سمة من الجمالية رغم كآبة الموقف، بوضع النص في قالب من الرومانسية الجمالية في نقل الصور باللجوء إلى الطبيعة (الوجوه التي أحبها مشت مع القمر) كما وردت بالإضافة إلى كلمة القمر وردت عدة مفردات مستقاة من الطبيعة مثل (الفجر، الزهور، الليل، النجوم، الشمس) فبدأ يطوف بين السطور متنقلا بين أحضان تلك الطبيعة سابحا في الذكريات في وجدانية، خصوصا أن المحفز على كتابة النص هو الموت الذي أيقظ فيه مشاعر تجاه أشخاص فقدهم فلم يذكر ذلك بشكل مباشر بل حدد وجودهم بكلمة (وجوه)، كان التوجه في المخاطبة إلى الأم ملجأ الأمان ومكمن النجاوى.
الثيمة التي سلط عليها الشاعر الضوء في النص هي الموت وانطلاقا منها يتوجه الشاعر للتعبير عن الحدث الجلل وهو فقده لعزيز بأن يكون التوجه في خطابه جمعا وليس فردا لم يقل الوجه بل الوجوه ليؤكد أن الذاكرة في لحظات فقد أحد الأعزاء تعود بنا إلى كل اللحظات التي فقدنا فيها عزيزا نعيشها بكل تفاصيلها، تجذّر في الوصف متخذا من الأم الأذن المصغية لأنّات قلبه ووجعه.
الشاعر ابتعد كليا عن السرد المباشر لم يذكر في النص أحداثا وإنما اعتمد على نقل مشاعر لا على نقل أحداث. تم ذلك من خلال مناجاته لأمه وذلك عبر صور مكثفة استهلها بالوجوه للدلالة على أن الفقد يعيدنا تلقائيا إلى كل لحظات الفقد القديمة لتتمازج مع اللحظة الآنيّة.
أدوات الشاعر التي اعتمدها كانت في معرفة انتقاء مفرداته وانسجامها على صعيدي الإيقاعين الداخلي والخارجي.
في الإيقاع الداخلي نجد هذا الدفق بالمشاعر من خلال الصور الشعرية المكثفة تجعل المتلقي متعاطفا مع مناجاة الشاعر لأمه الشاعر الذي حلق بالمتلقي إلى القمر أما بالنسبة للإيقاع الخارجي اعتمد قافية الراء وكانت محببة على وقع الأذن:
عطرٌ/ القمر/ ثغر/ بصر/ زهرٌ/ قطر/ النظر/ البشر/ بالسمر/ الدهر/ العمر/ الأثر
نص شعري نثري حداثوي اتصف بكل صفات النص الشعري النثري الحديث. لتكون الترميزية من ضمن أدواته فما هي دلالة الوجوه التي راحت بضياء القمر تستحم؟ إنها دلالة على أن الأرواح ليست كما الأجساد وأنها تستحم بالنور والضياء لعلو منزلتها فاختار أن يكون ذلك النور منبعثا من القمر، في صور شعرية أخرى مكثفة يتنقل بها الشاعر من صورة إلى أخرى بسلاسة صور اعتمد فيها على الطبيعة يقول الشاعر:

“وهُناك استقبلهم كلُ فجرٍ بالأغاني
وتبسم كلُ ثغر..
الزهورُ البرية تناثرت فوق
قلوبهم وشعت الشمسُ لمقدمِهم
كأنها للعيون كحلٌ وبصر”

إنما يهدف الشاعر من خلال هذه الصور الإيجابية إلى التخفيف عن آلامه بفقدان هذه الوجوه لذلك بدأ خياله يأخذه إلى ما يمكن أن يخفف عنه من تلك الآلام فإن صاروا أرواحا تسبح في السماء لا بد أن تكون تلك السماء رحيمة معهم تتعامل معهم بكل محبة فتمازج العطاء بين السماء والأرض من شمس تشع لمقدمهم إلى زهور برية تتناثر فوق قلوبهم.
يسترسل الشاعر في مناجاة أمه قائلا:

“لو سألتهم يا أمي
لِمَ أزعجهم الندى وهم زهرٌ
وعطرٌ؟”

هنا يعتمد الشاعر على المبالغة للتعبير عن قيمة وأهمية من فقدهم هم برأيه نهر وما قيمة الندى أمام النهر؟
ليعود الشاعر ويستدرك بلو ثم يربطها ب لربما للدلالة على احتمالية اشتراطه وإن كان الرد بانحراف المقل
يستطرد بقوله “لكنهم ساروا ولم يلتفتوا ….”
هنا العودة إلى الواقع، فهل يرد الميت؟ بالتأكيد لا.
رغم ذلك يبقى هناك انمزاج الواقع بالخيال، الشاعر شبه عيونهم بالأعلام وهو تشبيه مجمل للدلالة على مدى انتمائهم للوطن وفي قوله وسراب الحزن بعيد تعبير استخدمه الشاعر للتخفيف عن حزنه وكآبته.

“وعيونهم اعلامٌ
وسرابُ الحزنِ بعيد
ما بَعد النظر..”

يتساءل الشاعر لماذا ساروا ولم يكترثوا حتى بالتفاتة أتراهم تاهوا في رؤاهم؟ ليكمل بقوله: أم ضيعتهم رؤى البشر؟
هنا تتخالط الأمور فيقع الشاعر في شك هل أن رؤى البشر ضيعتهم ويعني نفسه بكلمة البشر أم هم من تاهوا في رؤاهم للدلالة على أنه لا يحلم أو يتخيل فهم موجودون حقيقة وليسوا من الخيال.

“أتراهم تاهوا في رؤاهم
أم ضيعتهم رؤى البشر
لو سألتهم لعل حاديهم ينتبه
والطريق الطويلة ملحوقة بالسمر”

العودة من الخيال إلى الواقع بذكر كلمة الموت معتبرا أن الموت أحياهم في قلوبنا إلى أبد الدهر لكنهم تغيروا فقط بالشكل لا أكثر كانوا أشخاصا وتحولوا إلى زهر إلى هالة القمر..

“يا أمي
الموتُ أحياهم في قلوبِنا
إلى أبدِ الدهر
فانغرسوا زهرا في سويدائه
متجذرين دماء العمر”


النص:
الوجُوهُ التي أحب
يا أمي
الوجُوهُ التي أحبُها
مشت مع القمر..
راحت في ضيائه تستحم
وهُناك أستقبلهم كلُ فجرٍ بالأغاني
وتبسم كلُ ثغر..
الزهورُ البرية تناثرت فوق
قلوبهم وشعت الشمسُ لمقدمِهم
كأنها للعيونِ كحلٌ وبصر
وتاهت النجومُ في نهارهِا
وفي الليلِ احتشر القمرُ
لو سألتهم يا أمي
لِمَ أزعجهم الندى وهم زهرٌ
وعطرٌ؟
وهل يزعجُ الندى نهر!
لو سألتِهم رُبما ردوا عليكِ
ولو بانحرافِ المُقلِ.. لو…..
لكنهم ساروا ولم يلتفتوا
وعيونهم اعلامٌ
وسرابُ الحزنِ بعيد
ما بَعد النظر..
أتراهم تاهوا في رؤاهم
أم ضيعتهم رؤى البشر..
لو سألتِهم لعل حاديهم ينتبه
والطريقُ الطويلةٌ ملحوقة بالسمر..
يا أمي
الموتُ أحياهم في قلوبِنا
إلى أبدِ الدهر
فانغرسوا زهرا في سويدائه
متجذرين دماء العمر
يا أمي
الوجُوهُ التي أحبُها صارت
هالة القمر
وأثارت من خلالهِ حنين قلبي
فانشطر في أشعتهِ
وهل ثمة علامات تحت القمر؟
يستدلُ بها المسافرُ ويعرف الأثر
لو.. سألتِهم يا أمي
أو سألتِ القمر..
لو.. لو..

ذة. سامية خليفة / لبنان



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *