على ضفتي الواد (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


منسابا على السفح، راح القطر خيطا يتهادى ذات اليمين وذات اليسار اقتفاء لذاكرة شقت المجرى، على ايقاع هامس يخلب الأذن ويبهج العين بين زحف مبحوح وآخر مشروخ، لا يتأخران في سقي ظمأ الفصول.
خليط قهوة وحليب متجعد ينداح الماء مرآة متلألئة في غمرة شعاع خريفي عليل إلى بارد النسمات رفقة غيوم متناثرة كخيام تلطف الحرارة.
على ضفتي الواد، حقولا صغيرة تمرح الحنطة والشعير ظلا مشمسا تظللهما بضع نخيلات متلاحقة الطول إليها يشرئب المنى سقيا، حصادا، جنيا وبيعا استجابة لحاجة لا مرد لها.
في هذا الفضاء، خضراء تنمو السنبلة شعرا مسترسلا ،وذهبية مبرومة الساق ،تجود حبا وتبنا ترعاهما ذات الجريد الأخضر، الوافر المتنوع التمر، ترعرع خالد يلهو ويلعب وينصب الفخ تلو الفخ للأجنحة الصغيرة .إلى الشرق عبر، شمال السبيل المغبر ممر دراجات هوائية ونارية قليلة تكدر طمأنية الهدوء، الذي لا تتأخر عن بتر تواصله حوافر حمار بين لحظة واخرى، تحت حمل هدايا الأرض، من تمر وزرع و شباك تبن وحطب وكَركَوب ونعناع واملوخية سقى عطشها دلو ينوء به حمار أو جمل في أحسن حال، مع ثلاث شاحنات مختلفة الألوان موحدة الاتجاه المحادي للواد جواب الحمادى، لكل واحدة منها روادها الذين لا يتجاوزون احيانا أصابع اليد الواحدة، على أن ميل الكفة لصالح الشاحنة الحمراء الخضراء.
دار الزمن على ظهره، فغابت الغيوم عن أديم السماء الرمادي الذي لم يمطر لفترة طويلة، عرف خلالها الواد ملء الفراغ رملا واتربة.. هاجر خالد كغيره من اليافعين والشباب بحثا عما يسد رمقه وأسرته المكونة من خمسة أشخاص. انتهى بها الأمر لتوالي القحط إلى الاستقرار نهائيا تلبية للعمل الشاق المذر دراهم مدبرة كفافا وعفافا.
خلودا للراحة المبكرة مع أول اقتحام الليل، كعصفور يحلق خالد منطلقه وقد اشتد عليه الشوق والحنين، قبل ان يغمض الجفن استعدادا للغد الذي يود أن يفوز بعمل جانبي.. لدى افراح واتراح الاقارب هنالك، يتقدم الأب نيابة عن الكل، مما يزيد من فيض أشواق خالد إلى مرتع الأيام السالفة. في غمرة التطلع المتعثر إلى عبير أرض الصبا، ومن غير تهييء مسبق، سلسا جرى على لسانه ذات مساء والجميع حول كأس شاي منعنع أين منه نعناع البلاد! قائلا:
-بعد العيد الكبير سأروح للبلاد واحضر عرس صاحبي حماني.
خيم الصمت لوهلة تكلمت ابانها النظرات، ليبارك الأب الذي خبر مشاق السفر، ثم أردفت الأم تقول:
-يجب أن نزور دارنا ، ونحيي الرحم مع الأهل والاحباب.
تم حفل العرس في جو من الفرح والبهجة بحضور الاهل والجيران مكرمين معززين يغمرهم فرح حضور خرجة العريس ممتطيا صهوة فرس وسط الزغاريد ونقر التعارج وبنديرين متراقصين، تساندهما انفاس قصبة تخض الروح وتكسر رتابة تسلسل حلقات الزمن، تنطلق الجولة القصيرة على ايقاع الدف والمزمار والغناء والتبرحة خلصة، زغرتوا يا الزغرتات، على مصابح كبيرة تشع ضوء ابيضا، تؤزها اخرى خافتة النور، ثم السهرة على عود بن لكبير الذي يبدأ وصلته الغنائية بالصلاة على شفيع الامة، ينتشي الجمهور مرددا ومصفقا، ومن خلف النوافذ واعالي السطوح تشارك القوارير عبر حناجرهن الدافئة، ثم في هدوء تام ينم عن انتظار عطشان يصدح بن لكبير، بعد كأس شاي يفوح عبق ريشات النعناع، احدى اغاني فريد الاطرش المخضة للمشاعر خضة سحرت المستمعين، فكان الصفير والصياح وطلب الاعادة صاخبا، فموشح يغسل أدران الزمان، فتقسيمات تحيي ليالي الأمس البعيد، وللساهرين اختيارهم الذي ترضيه الانامل الرقيقة عودا وكمنجة ودربوكة ونايا وسنترة تفتق الاحلام حوارا داخليا لا يلبث ان يسمعه صاحبه جواره في هتاف وتلويح بالرزة وشرشفها دعوة ورجاء:
-الله يحييني إلى عرس ولدي..
زغردااات -توقظ خلسة رفيف الكرى- كسيل جارف تنفجر ذوات الخمار الاسود، وحال نجواها يردد في صمت:
-عقبال لبنتي أبش ولد الناس، يا حنين يا كريم..
ومن ذلك الركن، حيث رائحة السجارة السوداء، بداية شباب، بداية رجولة، ضمن النشوة السكرى، يهتف احدهم:
-عقبالي.. عقبال اصحابي والقرنية كاملة المعبرة عن تطلعاتها تصفيقات حارة مع الصلاة على النبي، لترد عليها مجموعة اخرى تصفيقات تتوخى نفض هدوء الليل، الذي شاء الساهرون عدم الاستجابة لجفنه حتى اخر فلوله.
الان وقد فك رباط خالد، الى قريته ركب استعارة دراجة هوائية من نوع بالو، وكم كانت دهشته كبيرة! وهو يرى صفحة المحراث غابة من الاسمنت والحديد تشقها ازقة ودروب ضيقة، ولم تبق على تلويحات الجريد الا على القليل المخنوق الانفاس خلف جدار تمردت عليه خدوش في رفض لهذا الوافد الغريب البارد شتاء والحار صيفا.
وخالد يجوب اثر خطوات البارحة القريب البعيد حول ساقية ركب تيارها مركبا ورقيا مغامرا نحو الافاق المجهولة، وبجزمته السوداء متباهيا عبر الى الجهة الاخرى، فالغطس بعد تردد خفيف، التقى بالصدفة- منافسه في كرة القدم- محمد فتشعب الحديث الذي اتى الكائنات البارزة على خشبة الضفتين، من انسان وحيوان ونخلة بكرية وتينة عين الحجلة.. تمددت الاقدام الى جوار ركن على شكل زاوية قائمة ملاذ الكلبة الصفراء الغدارة المفاجئة لكثير من المارة نباحا مخيفا لا ينفع معه الا متابعة السير، المستحضر لأخرى سمراء بدينة تجر قوائمها مفتوحة الفم، مرتخية الاذنين، مما ييسر ملاحقة الجراء بها بحثا عن خبز او تمر امام هذا الباب او ذاك، ليتكرر الوقوف مرات لا تنتهي غير آبهة بعدم الالتفاتة وما يتبعها من ضجر ولا مبالاة، تصر على دوامهما وقوفا وانتظارا ثقيلين.
غرب حقل البرسيم المستطيل الشكل، واحة خضراء يقصدها العشاق والمغرمون.. والى الشمال ملعب ومجرى الفرس الأسود، يعكس شعاعا فضيا يخطف العين، رشيق القوائم، المتباهي غرة وعرفا ومسدول ذيل متوتر، متبخترا بين الفينة والاخرى يمتطيه صاحبه الكثير الانفعال هروبا من الملل، دورة تأتي ممرات القرية الرئيسية المباركة لهذه اللقطة الساحرة سليلة اخريات طواهن هدير الآلة.
الآن وكل شيء ولى ادراج الرياح، قرر خالد -متبعا نهج ابيه- الحفاظ على ارث جده مع الزيارة مرة كل سنة او سنتين على أكبر تقدير، وفي نفس الوقت ان يضاعف العمل تحقيقا لمرام دفين يبلور وجوده -مهما كان صغيرا- تحت الشمس.
إثر سهو عميق قطع خالد مضايق الافاق الضبابية، توقف أحد معارف محمد، وبعد استئناس واخذ ورد ابدى رغبته في شراء قطعة ارض صغيرة تحمي الفراخ من طرقة كل نهاية شهرا لمنسرب كالتماع البرق.
هون خالد الحال، وهو يعلم -في قرارة نفسه- انها اول مغامرة، ولا شك انها ستكون مريرة، ولكنه من جهة ثانية، ابن الميدان ولا شيء في الحياة -مهما كان بسيطا- الا من قبيل ركوب شراع الطموح، بذرة متوهجة ثنايا الاعماق، تنتظر الفرصة المواتية.
طورا اخر، بعيدا عن مرافقيه، في نزاع داخلي حاد، حلق خالد الاجواء المحفزة المؤبطة، المليئة بالشد والجذب، اللذين تعرفهما لحظة الوضع، لينبس وكأنه يخاطب ذاته وقد تخلص من عبئه الثقيل:
-سأتولى هذه المهمة ان كان الرضا، شراء وبناء وحتى كراء..
في كلمة تعلوها ابتسامة تجمع بين الجلي والخفي، رد المعني قائلا:
-سأفكر في الامر.
بحزم وحرص النملة المثابرة على نقل حبة قمح ارتوت وتوهجت وفاق حملها رقيق عضلات النملة المستعينة بإرادة لا تقهر، تحمل خالد المهمة من الفها الى يائها في مدة قياسية كانت فاتحة خير كبير.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *