النص الشعري “خلوةٌ مع الفكرة” عبارة عن تأملات شاعرية عميقة في قضايا الوجود والإبداع والحياة.
يسعى من خلاله الشاعر إلى البحث عن ذاته وهويته أثناء ممارسة الكتابة والشعر.
استخدم الشاعر في نصه مجموعة من الرموز القوية التي تساهم في بناء المعنى. فالشجرة اليابسة ترمز إلى حالة الشاعر الإبداعية، وهي تعكس حالة شعورية مليئة بالعقم والإحباط، لكنها في ترقب وانتظار دائم لما هو جديد.
عتبة العنوان
يشكل العنوان الوحدة الرئيسية التي تجمع بين كل أجزاء القصيدة. فهو يشير إلى الحالة التي يعيشها الشاعر، والأفكار التي تدور في ذهنه، قبل بناء النص.
و “خلوةٌ مع الفكرة” عنوان يعكس حالة من العزلة والتأمل.
الخلوة تعبر عن انسحاب إلى الذات، بعيدا عن الضوضاء والارتباطات الاجتماعية. هذا يتماشى مع الشعور بالوحدة الذي يتكرر في النص، مثل “رجلٍ أعزل” و”الشجرة العاقر”.
تُظهر الشاعر كأنه في صراع مع فكرة ما، معروفة لديه (جاءت معرفة بأل) او ربما فكرة عامة معروفة لدى الجميع. تُجلي الصراع والتناقض الحاصل بين الحياة (الطبيعة، الأمل، الفكرة) والموت (الشجرة اليابسة، العزلة).
وهذا ما جعل العنوان “خلوةٌ مع الفكرة” يعد بمثابة مفتاح يتناغم بشكل عميق مع مضمون النص، حيث يمثل رحلة إبداعية نحو فهم الذات، كما يعكس الصراعات والأمل الذي قد يتولد من الخلوة مع فعل الكتابة.
كشجرةٍ يابسة
تتثاءبُ أنفاسي
دونَ حياةٍ
أقشرُ جلدي
بـشيء من الحظ
الذي علقَ بي
يوم اشتدتِ الريح
قبل أن أكونَ قصيدة
فمن يقرأُ نصًا
لرجلٍ أعزل؟
بدأ الشاعر بشطر ربطه بحالة خلوته مع الفكرة فشبهها بشجرة يابسة، مما يعكس حالة من الجفاف والعطش للإلهام. وهذا ما جعله يصرح قائلا: “تتثاءب أنفاسي”
استعارة تعبر عن الملل والفراغ الذي يشعر به الشاعر قبل ولادة النص.
الشجرة اليابسة تمثل الفقدان، بينما أنفاس الشاعر تشير إلى وجود الحياة رغم الخواء. هذا يعكس الصراع بين الرغبة في الحياة والواقع المُحبط.
تتعقبها لحظات من الترقب والانتظار المتمثل في تكرار كلمة “قبل”، وهذا أعطى إحساسا بالانتظار والتوق إلى لحظة الإلهام الشعري..
وكأن الشاعر يذكرنا بأيام العصر الجاهلي حين كان الشاعر يترقب تدفقا شعريا من طرف شيطانه الشعري.
مشهد حقيقي يعبر عن أزمة إبداعية يعاني منها أهل الكتابة الذين يتعجلون في إنتاج نصوصهم، ولادة النص يتطلب مواصلة البحث تحت قشر قديم لتجد تحته شيئًا جديدًا.
“أقشرُ جلدي بشيء من الحظ” يُظهر رغبة الشاعر في التجديد والشفاء. القشرة هنا تمثل الحواجز التي تمنع النمو، والحظ يُشير إلى العوامل الخارجية التي قد تساعد في التغيير.
-الخلوة كحالة إبداعية :
عملية الإبداع تتطلب حالة من الانعزال والتركيز، بعيدًا عن ضوضاء الحياة اليومية. وهذا يتجسد في صورة الشاعر وهو “يقشر جلده” و”يقصر ثياب السطور”، أي أنه يعمل على تجريد فكرته من كل ما هو زائد.
وهنا يطرح الشاعر سؤالًا حول قيمة النص الذي يُكتب، وهذا ما دفع الشاعر الى الشك في قيمة الإنتاج الأدبي في ظل الظروف المتعجلة.
فالخلوة ما هي إلا لحظة تواجه فيها الذات نفسها، وتستكشف أعماقها بحثًا عن الإلهام والمعنى. وهذا يتضح في صورة الشاعر وهو يتحدث عن “نصٍ لرجلٍ أعزل”.
أقصرُ ثيابَ السطور
لتشهقَ اللغةُ بألفاظ المعاني
الفساتينُ القصيرة
وسيلةٌ لكسبِ المارة
غالبًا ما يسيلُ لعابهم
خلفَ بياضِ الملابس الشفافة
لا لشيء سوى النظر لسحرِ الخياطة.
صورة شعرية شبه فيها الشاعر قصر للسطور واختصار الكلمات بفساتين النساء القصيرة، وهي استعارة تعكس الرؤية النقدية لشعراء يستخدمون اللغة بشكل سطحي لجذب الانتباه.
وبالتالي فهو يسخر الشاعر من اولئك الذين يلجؤون إلى فعل الكتابة بشكل سطحي ومتعجل، وكيف أنهم يركزون على الشكل الخارجي دون الاهتمام بالمضمون، وإيصال رسائل حقيقية إلى كل متلق ومتتبع..
ربما لهذا السبب لجأ الشاعر الى استعمال السرد المباشر كوسيلة لإيصال الفكرة بدل اللجوء إلى أسلوب شعري انزياحي.
الأسلوب البلاغي حاضر لكن الفكرة وصلت بشكل تلقائي وعفوي، كقوله مثلا:
(الفساتينُ القصيرة وسيلةٌ لكسبِ المارة)
(غالبًا ما يسيلُ لعابهم خلفَ بياضِ الملابس الشفافة..)
هذه الصور تعكس الواقع، ومألوفة لدى الجميع، لا لبس فيها، ولم تتزين بأي قناع انزياحي، أو ربما تسترت وراء صورة شعرية رمزية تبرز كيف يمكن للجمال أن يتواجد حتى في الفوضى والخراب، كما في عبارة “فساتين قصيرة” و”بياض الملابس الشفافة”..
وهذا يتماشى مع قوله:
أقصرُ ثيابَ السطور
لتشهقَ اللغةُ بألفاظ المعاني
لهذا تسلح الشاعر بفكرة إيصال الفكرة بشكل مباشر نتيجة تأثره بواقع أو حالة معينة..
المرابونَ في الماسنجر
يأكلون نونَ النسوة نيئةً
ثم يقهقونَ كثيرًا
سيبعثونَ عراةً
فالأوراقُ الربوية غيرُ صالحةٍ
في المعاملاتِ الإنسانية!
الصالحونَ في الحبِّ
يجلسونَ في المقاهي؛
ليرتشفوا غزلَ الصمت
من خلال هذه الفقرة يأتي الجواب ويتضح المقصود من الكلام عن القميص القصير وعن اللُّعاب والملابس الشفافة
الفقرة تميزت بكثافة صورها البلاغية التي تعكس رؤية الشاعر الساخرة والنقدية للمجتمع.
“يأكلون نونَ النسوة نيئةً”: هذه صورة مجازية قوية تحمل دلالات متعددة.
“نون النسوة” يرمز إلى شرف المرأة وكرامتها، و”أكلها نيئةً” يشير إلى استهانة هؤلاء الأشخاص (المرابونَ في الماسنجر) بقيمة المرأة واستغلالهم لها بطريقة وحشية.
مما سيكون مصيرهم أنهم “سيبعثونَ عراةً” هذه الصورة تحمل دلالة رمزية على الفساد والانحلال الأخلاقي. “العري” هنا لا يعني العري الجسدي فقط، بل يشير أيضًا إلى العري الفكري والأخلاقي.
“الأوراقُ الربوية غيرُ صالحةٍ في المعاملاتِ الإنسانية!”: هذه الجملة تحمل طابع الحكم القاطع. “الأوراق الربوية” ترمز الأمور المادية والمالية والعلاقات المشبوهة. “المعاملات الإنسانية” ترمز إلى العلاقات الإنسانية القائمة على الاحترام والتقدير. الجملة تؤكد على أن الأمور المادية والوقائع المشبوهة لا يمكن أن تحل محل القيم الإنسانية. حيث التضاد واضح بين صورة “المرابون” الذين يرتكبون الفواحش وبين “الصالحون” الذين يجلسون في المقاهي، لكن همهم واحد، وهذا ما يبرز نفاق المجتمع.
سخرية لاذعة لتوجيه انتقاداته إلى الأشخاص الذين يتظاهرون بالتقوى والصلاح وهم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن ذلك.
وهذا ما يبرر لجوء الشاعر إلى استخدام الخطاب المباشر القريب من الجمهور، ليجعل النص أقرب إلى الناس ويضفي عليه طابعاً واقعياً.
الحروفُ لن تشيخَ
قد تلوذُ بالسكون
حتى تنضج فاكهةُ المعنى
فلا طعمَ لزرعٍ قُطِفَ قبل حصاده.
الخلوةُ مع الفكرة
كـعروسٍ باكر
تأنسُ بالمرآة
لتعكسَ صورتها
قبل أن تلجَ ليلتها الأولى
في مخدعِ الرغبة
تتصل هذه الفقرة ارتباطا وثيقا بالأفكار التي طرحها الشاعر في الفقرات السابقة. فهي تعمق الفكرة الأساسية حول الأزمة الإبداعية ودور الخلوة في إنتاج ولادة إبداعية حقيقية، محاولا أن يقدم رؤية أكثر تفاؤلاً حول كيفية التغلب على هذه الأزمة.
الشاعر هنا يشبه الحروف بفاكهة تحتاج إلى وقت حتى تنضج، بمعنى أن الأفكار تحتاج إلى فترة من النضوج والتأمل قبل أن تتحول إلى نص مكتمل. كما يقارن الخلوة مع الفكرة بعروس في ليلتها الأولى، وهي صورة تعكس حالة الانتظار والتوق التي يشعر بها الشاعر قبل أن يبدأ في الكتابة.
تشبيه الحروف بالفاكهة يعطيها حياة ونموا. والسكون هنا لا يعني التوقف عن العمل، بل هو فترة من التراكم والتأمل التي تسبق الإنتاج الفني.
ويعتبر الزمن عنصرًا حاسمًا في عملية الإبداع، فأي فكرة تحتاج إلى وقت حتى تكتمل وتتحول إلى نص، وهذا يتجلى في صورة الحروف التي “تلوذ بالسكون” حتى “تنضج فاكهة المعنى”.
فبعد أن عبر الشاعر عن شعوره بالإحباط والعجز في الأسطر السابقة، فإنه هنا يقدم لنا رؤية أكثر إيجابية، وهذا ما بؤكد على أهمية الخلوة مع الفكرة كما جاء في العنوان..
فقرة تتجانس وتتلاقى مع الكتابة الشعرية الجقيقية، حيث الإبداع، وحضور المشهد العميق والمتأني في صياغة فكرته، التي جاءت غنية بالصور الشعرية البلاغية والفنية القوية.. تقابل الوجه الآخر للمرابين والمتطفلين على الإبداع عموما..
وهذا ما دفع الشاعر من خلال هذه الفقرة التأكيد على أن الجودة أهم من الكمية في الإنتاج الأدبي، وأن النص الجيد هو ذلك النص الذي ينضج ويتكامل بمرور الوقت.
نهاية مفتوحة للنص، حيث ترك الشاعر للقارئ مساحة للتأمل والتفكير في العلاقة بين الإبداع والوقت. كما أنها تعكس رؤية الشاعر للإبداع كعملية مستمرة تتطلب الصبر والمثابرة.
الشجرةُ العاقر
هجرتها الطيورُ
غادرتها صباحاتُ الشتاء
الجذعُ المصلوبُ بجريرة التزلفُ للغروب
أحرقتهُ مساءاتُ الانتظارِ
ألفُ مساءٍ يدقُ أبوابَ أيلول
دونَ رطبٍ أو سلة.
خاتمة تنسجم مع باقي مكونات النص بوصف مؤثر لشجرة عاقر هجرها كل شيء، وصف مؤثر لشجرة عاقر هجرها كل شيء، صورة رمزية تعكس حالة الشاعر النفسية والإبداعية.
هجرة الطيور وصباحات الشتاء تبين مدى شعور الشاعر بالعزلة والوحدة، وكأنه شجرة وحيدة في صحراء قاحلة.
وصف الشجرة بأنها “عاقر” يرمز إلى فشل في تحقيق الأهداف. ووصف الجذع بأنه “مصلوب” يشير إلى حالة من المعاناة والعقاب نتيجة لأخطاء سابقة، ربما تكون التزلف للغروب (أي محاولة إرضاء الآخرين).
وتكرار عبارة “ألف مساء” و “مساءات” بصيغة الجمع التي تفيد الكثرة، يعكس حالة من الانتظار الطويل والعقيم، حيث ينتظر الشاعر شيئًا ما (ربما الإلهام أو النجاح) دون جدوى: “دون رطب أو سلة” يشير إلى حالة من الفقر والعوز، سواء على المستوى المادي أو المعنوي.
وهنا تستكمل الصورة التي رسمها الشاعر منذ إطلاق المص، عن الحالة النفسية والإبداعية التي تعكس نتائج الأزمة التي وصفها في بداية القصيدة كونه رجل أعزل، وكيف أن العزلة والفشل قد تركا آثارًا عميقا في نفسه.
وقد تميزت هذه الفقرة بكثافة رمزية، حيث استخدمت الشجرة كرمز للحياة والإبداع، والطير كرمز للأمل والحركة، والغروب كرمز للزوال والفناء. هذه الرموز تعطي للقصيدة عمقًا إضافيًا وتجعلها تتجاوز المعنى الحرفي، لدعوة كل مهتم بالحقل الأدبي الى التريث في الكتابة الأدبية وتحسين مستواها لنصل الى المستوى الذي يليق بالإبداع.
وأن نترك للقارئ مساحة للتأمل والتفكير في معنى الحياة والإبداع.
عموما يمكن التنويه أن القصيدة تعكس واقعا معينا معروفا لدى المتتبعين، وليست فقط للتعبير عن تجربة شخصية، بل هي تعكس قضايا اجتماعية وأخلاقية تسود الفعل الإبداعي عموما، لتعالج ظاهرة بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للنظر، ربما هذا ما حفز الشاعر الى تناول الموضوع من هذه الزاوية الإبداعية، لنشر ثقافة الإبداع المتزن والمسؤول. بدل السعي وراء المظاهر الخادعة والمشبوهة..
لأن أهمية الشعر تكمن في تبني واقع المجتمع وقضاياه، والتعبير عن تطلعات الناس وآمالهم..
ذ. سعيد محتال / المغرب
خلوةٌ مع الفكرة
كشجرةٍ يابسة
تتثاءبُ أنفاسي
دونَ حياةٍ
أقشرُ جلدي
بـشيء من الحظ
الذي علقَ بي
يوم اشتدتِ الريح
قبل أن أكونَ قصيدة
فمن يقرأُ نصًا
لرجلٍ أعزل؟
*******
أقصرُ ثيابَ السطور
لتشهقَ اللغةُ بألفاظ المعاني
الفساتينُ القصيرة
وسيلةٌ لكسبِ المارة
غالبًا ما يسيلُ لعابهم
خلفَ بياضِ الملابس الشفافة
لا لشيء سوى النظر لسحرِ الخياطة.
*******
المرابونَ في الماسنجر
يأكلون نونَ النسوة نيئةً
ثم يقهقونَ كثيرًا
سيبعثونَ عراةً
فالأوراقُ الربوية غيرُ صالحةٍ
في المعاملاتِ الإنسانية!
الصالحونَ في الحبِّ
يجلسونَ في المقاهي؛
ليرتشفوا غزلَ الصمت
*******
الحروفُ لن تشيخَ
قد تلوذُ بالسكون
حتى تنضج فاكهةُ المعنى
فلا طعمَ لزرعٍ قُطِفَ قبل حصاده.
الخلوةُ مع الفكرة
كـعروسٍ باكر
تأنسُ بالمرآة
لتعكسَ صورتها
قبل أن تلجَ ليلتها الأولى
في مخدعِ الرغبة
*******
الشجرةُ العاقر
هجرتها الطيورُ
غادرتها صباحاتُ الشتاء
الجذعُ المصلوبُ بجريرة التزلفُ للغروب
أحرقتهُ مساءاتُ الانتظارِ
ألفُ مساءٍ يدقُ أبوابَ أيلول
دونَ رطبٍ أو سلة.