المفتاح (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


إلى روح بابا في الذكرى التاسعة لرحيله.
وهن انحدار أصفر مالت الشمس، على سواد أفق، يرنو إلى ضياء شتات غيمة كسرب حمام بعثره مخلب جريح، وكريم هامش ضيق يروم ان يؤثته لامع مضايق السبيل.
سقط فريسة مرض ثقيل كصخرة دحرجها السيل المكفهر المنهمر الجارف ارتجاجا قويا، تجرع عذاباته المريرة كأسا.. كأسا.. هون من علقمها كونها أضحت مع الأيام صديقة محترمة لا يجب تعكير صفوها، مع تلبية حاجاتها بشاشة تفيض ودا، يحدوه الأمل في تخطي الفجوة والوقوف ومد اليد نحو سود رموش الإبداع شطحات زاهية، عماده في ذلك شعلة الأعماق الخامدة إلا من بقية جميرة شبه متقدة تحت الرماد.. بعد النفخ المتواصل، انتعشت رويدا رويدا زحفت أحراش النفق المظلم الطويل الوافر المنعرجات.
احتفاء بالحضور الذابل الكامش على أنين حلم مدرك سلفا ان كثيرا من الماء قد انساب في شدو أسفل الجسر،
هب يسعى هنا وهناك، يبحث في ركنه الصغير، في رفوف الذاكرة، إلى أن تبدى في عينيه عمل سيشفي قصره الغليل.
في استرخاء مريح أراح الجسد العليل، تفتقت ذاكرته حديثا مسليا وضحكا وقراءة بضعة صفحات من رواية تؤنس وحدة علي إبان تماثله للشفاء على سرير المستشفى بطيء عقربي الليل والنهار جراء مرض مضطرب عبوس..
في هذا الجو العاصف،
استنجد كريم بصديق طفولته عزيز ذي القامة المتوسطة الطول، المكتنزة، اللطيف، الطموح إلى بلورة مداركه ومعارفه التي تبيض تفسيرا، توضيحا، يعطران صخب اللقاءات المحسوبة والمتقطعة يعشب كريم كوة المنى، وهو يردد في قرارة نفسه: قد لا تخلو مشترياته من شيء يثلج الصدر.. ضمن حرارة مفرطة، وتجاوزا لكل تسويف ونسيان.. وحرصا على عدم ضياع الوقت، تعاون عزيز في نظارته الطبية ومفرق مدخن مزيج دخان ابيض يعتريه خافت ملفوف أسود على حركة رزينة وكريم متوسط البنية، لطيف، حاسم يهوى المطالعة والهدر والنوادر، يدب على مقلتين زجاجيتين.. خذله المرض، بعد موعد يقطر عرقا بلوريا اتى على كل المنادل.
مرة ثانية انبجس الأمل خيطا ورديا شبيها بأزيز نحلة تتطلع الى زهرة بعيدة.. أمام الدفة المطبقة بأسنان حديدية زاد من قوتها الغفلة والصدأ والغبار والانصراف الى رتابة العالم المتعقبة دورة الرغيف الشقية، إضافة إلى انتظارت أخرى وأخرى للعيون الصافية صفاء القمر الفضي على القمم الشامخة، عدم العثور على مفتاحها المضاعف للغيض المتراكم خلال الليالي الطوال، فأبت إلا أن ترد الصاع صاعين، في نشوة ولذة وحال لسانها يسرد في تبختر وتمختر: هذا جزاء من ينسى الصداقة والعشرة وملح اطباق الجوار البسيطة الشهية.
تم تلمس المفتاح ضمن مجموعتين أحسن سلكان في لونين مختلفين وثاقهما، في كأسين تخلفا عن عصير البن وجر الكراسي، لتزعج اخرى حرة طليقة خلدت إلى نوم القبور، وفي كل مرة كانت أغوار كريم ساحة يتبارى فيها كل من الرجاء واليأس الذي استطاع أن يحسم النزال لصالحه تحصينا وراء ركن بين أربعة جدران يبدو أن كل متاعها طريق استراحة أبدية.
وتحديا للإحباط تكاثفت الأيادي، بإعادة المحاولة مع كل المفاتيح بالتي هي أحسن، إلى جانب استجداء مفتاح تخطى العتبة مبديا مرونة في دورة عنيدة عبر دهنه زيتا لعل وعسى، فالتعرج على درج طاولة تنوء حملا متلاشيا.. رن صليل خافت لمفاتح ملقاة كالأخشاب في هدوء ظلمة دامسة.. وفلول الفتور أوصدت المنافذ في وجهي جسدين منهكين، أجلا الأمر وهما يتوقان إلى نسمة باردة تلويحا بقطعتي قماش يحثانهما على تموج الهواء عبر لازمة: تعالوا، تعالوا… وشربة ماء تروي ظمأهما قربة أبريك البعيد عن ندائهما، القريب منطاجا في المخيلة بطربوشه المطرز خيوطا حمراء تفننت فيها اليد الماهرة قطعا مرآوية مربعة رأسية التثبيت ثنايا بقل خضراء وزرقاء وصفراء تشع من بينها حليقات المزون الخاطفة للنظر بلمعانها المتراقص جنبات سير او توقف ابريك المتباهي بأهداب متمايلة تلقي ببريقها على قميص أحمر يطل على الركبتين وبرواد قربته اللذين لا يغفل عن منحهم قربة في حلقة من الصغار والكبار.
في مقابل القربة البليلة الشعر، المترنمة دفقا يكاد يطمسه رنين الجرس النحاسي أغرودة طاستين نحاسيتين مصقولتين بقدر ما تعكسان الجوار الملاصق تنثران عبق نسمة طرية تنعش الروح، لا ترتوي من عذوبتهما الشفاه والحناجر، واشهار: الما برد الما.. برد يا عطشان.. يرحم ولدك أ مول اسبيل.
على اليد اليسرى، تموضعت محفظة جلدية واجهتها نواة متحف صغير يحفظ قطعا نقدية مختلفة الرسوم والاحجام والفترات التاريخية من قضم التلف.
والغروب ذيول متسللة، مرهقا يهتف كريم:
-هل هناك من جديد أخي عزيز؟
-نعم لقد عثرت على كتابين.
ثم أردف يقول في نغمة متعبة خجولة:
-كان القفل عقبة شديدة، تعبنا وتحممنا.. جعله الله من مغفرة الذنوب .
-نعم.. الأشياء الجميلة لا تهب نفسها بالساهل.
كانت المكافأة رواية ومسرحية قصيرتين وهبتا ارتياحا خاطفا كخطف غمامة الصيف العابرة، ذلك أن خطة ابنة كريم وردة الرامية إلى تخصيص حيز من وقتها من أجل القراءة، باءت بالقشل قبل البداية نظرا للحرارة صنوة الكسل والسفر.
لكن كريم لم يتماه وكمنجة اللحظة التي لا يجب أن تثنيه عن هدفه.. وينقشع الضباب تاركا السرور الطفولي يسقي تجاعيد الزمان في نط ورقص نفضا أتربة السنين عما بقى من رشاقة وخبل يعاندان رياح الحر والبرد وما بينهما.
التجأ كريم إلى الاستعانة بصندوق العجائب في بهاء أوراقه ذات النقش المتداخل الألوان… تم تحميل العمل الإبداعي كتابة ترعى الراحة المدارية لجفاء سباق الليل والنهار.. كم هو جميل أن يتملي كريم بياض وسواد الصفحة!، أن يتفيأ في مرح الظلال المشمسة!، ان يتأمل أبهاء وغرف وممرات وقاعات نسجتها الكلمات بناء معماريا شاهقا!، كم هو مريح أن يتلو حرفا في هدوء ينتشي وتجلي الجمال!، أن يعيد مداعبة الفقرة إشباعا للرغبة وإرضاء للدهشة!، أن يحترم علامات الترقيم المستقطرة رحيق المعنى!.. كان الله لك يا شاعر الفلاسفة.. يا قاهر الظلام.. يا تورخيس…
-آسفة يا أبي، سأفي بوعدي ريثما تسنح الفرصة.
-لا عليك عزيزتي، ارتاحي وانبسطي قليلا.. فقد تحسن الحال والحمدلله .
بعد غياب طويل عاد فرس كريم رشيق القوائم يقلب صفحات عالقة تنتظر الجني كعراجين نخلة عالية كثيرا ما يتم تأخيرها، حتى الانتهاء من اللواتي في متناول اليد، لتتطلع العين إليها في دربة تمتص النوى جوعا فجوعا، لطف من ألمه وافر أوراق صندوق العجب، السريع الاستجابة، الحافظ لما جرفته اللحظة والندرة الحارجتان.. فغدا يجلس إلى خير أنيس غيبته العلة التي كسر قيدها الإصرار على سندان متابعة الرحلة غير المجهولة الآفاق منذ أمس الأول، تغيرت الوسيلة حفاظا على اتقاد الشمعة، استدراكا لمنثور كثيرا ما راود الخيال، فكان يؤجل كل مرة سعيا وراء ارتواء عطشان.
..الآن والجعبة دفق يشرئب التحبير والحكي سيسيل النبع بعد أن تجدد ماؤه المناغي لأزهار لم تذبل مع توالي الايام الحاضنة للبذرة الحبلى…

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *