محمد زفزاف: شاعر الرواية المغربية وفيلسوف الأدب الواقعي / بقلم: ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر




محمد زفزاف (سوق أربعاء الغرب 1945/ الدار البيضاء 2001) بلحيته الكثة غير المشذبة وكوفيته الفلسطينية، التي ترمز إلى التزامه بنضال الإنسان من أجل العدالة والحرية والخير، ونظرته الملغزة التي يحار المرء في تفسيرها، هل هي نظرة سخرية من تهافت الإنسان وتكالبه على متاع الدنيا الزائل؟ أم نظرة تعكس الألم الداخلي الناجم عن مقاساة الكاتب أيام الطفولة، من يتم مبكر إلى حالة إملاق الأسرة؟ وكان صديقه الأثير محمد شكري يسميه الشيطان بسبب لحيته غير المشذبة، وكلاهما بوهيميان في الهوى وأسلوب الحياة.
هو شاعر الرواية المغربية ودوستويفسكي الأدب المغربي، وقد شكل مع محمد شكري وإدريس الخوري ثلاثيا وطالما وسموا بالفرسان الثلاثة، تمردوا على الأدب الكلاسيكي ذي النبرة التعليمية، أو الأيديولوجية والفخامة اللفظية والجزالة التعبيرية والثيمات المكررة، فهم رواد الأدب الشطاري، الذي تمتح لغته من معين الحرمان والفاقة والتمييز والظلم والتهميش، وتفضح التجاوزات الطبقية والاستغلال الذي تنمي به البرجوازية ثراءها، وتقوي مركزها، وتديم سيطرتها على الطبقة الكادحة العاملة.

شكلت الطفولة القاسية لزفزاف كدمة عاطفية وصدمة نفسية لازمته طوال عمره، فالفقر واليتم وإن كانا ورمان يمتصان حيوية المرء وسعادته وإحساسه بكينونته الكاملة، إلا أنهما لا يمنعان من التميز والتفرد، والبروز على أبناء جيله، وهكذا درس زفزاف بتفوق ونال إجازة في الفلسفة ليبدأ مشواره المهني مدرسا في إعدادية في القنيطرة، حيث أفادته مكتبة المدرسة في العب من الثقافة والأدبين العربي والعالمي، ثم ممارسة التعليم الثانوي في الدار البيضاء، التي اختارها للإقامة الدائمة، وفي منزل متواضع في إحدى الشقق، وقد وصفه إلياس الخوري بالمنزل المهجور، في حي المعاريف عاش زفزاف متنسكا راهب فكر، منصرفا إلى القراءة والكتابة واستقبال ضيوفه، خاصة من الأدباء الشباب الذين كان يسعد بتوجيههم وتشجيعهم زاهدا في متاع الدنيا من شهرة ومال وملذات، حتى إن جيرانه من سكان الحي كان يسمونه الفيلسوف.
بدأ زفزاف مساره الإبداعي شاعرا، والشعر كما يقول فتحي المسكيني «إمكانية مستحيل قائمة في قدر أي واحد منا، لكن بعضنا فقط ينجح في إثارة اهتمامها نحوه». لكنه سرعان ما أدرك أن الشعر لا يفي بالغرض في تناول المجتمع في معضلة تفاوته الطبقي، وتفسخ وانحلال القيم وتدهور الشرط الإنساني، أمام وطأة الاستغلال والإقصاء الاجتماعي والظلم والقهر في العوالم السفلية ومجتمعات القاع، فاتجه إلى السرد دون أن تختفي تماما الروح الشعرية، فهي دائما قارة في متونه السردية، ما أعطى لواقعيته بعدا صوفيا ولمسة روحية تنزهه عن مجرد نقل الواقع بتفاصيله إلى عالم من الدفء الإنساني والمودة والإخاء.

أصدر زفزاف أولى مجاميعه القصصية «حوار في ليل متأخر» عام 1970، وقد شرع باكرا في كتابة القصة القصيرة، ونشرها في المشرق في مجلات معتبرة كـ«المجلة» ليحيى حقي و«الآداب» البيروتية و«المعرفة» السورية، حيث لفت انتباه النقاد والأدباء المشارقة، وشكلت روايته الأولى «المرأة والوردة» 1972 تذكرة العبور إلى ساحة الكبار، وقد اعتبرت ضمن أجود مئة رواية عربية وهي رواية شطارية، سعى الكاتب فيها إلى التعمق في نفسية البطل (محمد) الشاب المغربي الذي يدفعه الفقر والحرمان إلى العبور إلى الضفة الأخرى إسبانيا، حيث جنة الشهوات والمتع الحسية، فغرق فيها، لكن في النهاية يتساءل عن هويته، فهي تتمثل جدلية الأنا والآخر، والشرق والغرب، والروح والمادة، وهي الجدلية التي قاربتها روايات «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، إنما اللافت هو خرقها للممنوع وتجاوزها للخطوط الحمر، في حرية التعبير والتناول بكل مرونة وانسيابية، وتناول أمكنة مثل الحانات والشرب والتحشيش والجنس، ولغة سوقية أحيانا خشنة، والقصد من وراء ذلك تعرية النفس وفضح الخلل في المجتمع، وكشف أورامه ونفاقه تحت يافطة التخلق أو التدين والمحافظة، في حين إن الواقع ينطوي على مفارقات رهيبة وتناقضات عجيبة وإلى زفزاف يعزى الفضل في اكتشاف اللغة الثالثة كما سمّاها، وهي لغة وسطى بين العامية والفصحى بتفصيح الدارج، مهمتها التبليغ والوضوح والإفهام كما صرح في أحد حواراته، يفهمها المثقف والطالب والعامل، بحيث يكون الحوار كاشفا لمتاهات النفس وسراديبها وعقدها ومكبوتاتها، وتداعيات اللاوعي، ويكون الحوار بناء متناميا مع تصاعد الأحداث في المتن السردي، حتى يتبين المستوى الفكري لكل شخصية روائية.

اللافت كذلك في روايات زفزاف أنها روايات قصيرة، فهو ليس من هواة التطويل، فرواياته تقرأ في سويعات قليلة وهو الشاعر الذي أبدع في تكثيف المتن القولي، وتركيز اللفظ، ومن أهم رواياته «أرصفة وجدران» 1974 و«قبور في الماء» 1978 و«الأفعى والبحر» 1979 و«بيضة الديك» 1984 و«محاولة عيش» 1985 و«الثعلب الذي يظهر ويختفي» 1989 و«أفواه واسعة» و«الحي الخلفي «.
وتأتي رواية «محاولة عيش» في طليعة الروايات المهمة، وقد أقرتها وزارة التربية في مناهجها الدراسية، ما أثار حفيظة الإسلاميين، كون الرواية تتناول الممنوع والمحرم من خمر وتحشيش وبغاء وعقوق الوالدين، لكن الرواية، كما يفصح العنوان، هي رفض للانحراف ومتاهات العوالم السفلى وبيوت الصفيح، وما ينجم عنها من خلخلة طبقية وتفسخ أخلاقي بسبب الوضع المزري، وتدهور الشرط الإنساني تحت وطأة الاستغلال الطبقي وظلم الإنسان للإنسان، فالبطل (حميد) ضحية أسرة متشتتة أمام لا مبالاة الوالد وضياع الأولاد الذين كانوا عرضة للسخرة والاستغلال في حين انجرف حميد نحو تيار الانحلال تحت وطأة ظروفه حتى إذا حاول الاستقامة غلبته ظروفه وأعادته إلى وضعه الأول وفشلت محاولة العيش الكريم.

ومن أهم روايات زفزاف كذلك رواية «أفواه واسعة» وهي رواية لا تسمى فيها الشخصيات مع نقد للأوضاع السياسية والاجتماعية وهي رواية الكتابة وأسئلتها ورواية الموقف، لم نقل، ما جدوى القول، وكيف نقول؟ وهناك ضرورة للحد من كثرة الكلام بلا جدوى، فهذه الأفواه حقا واسعة ترطن وتسخف أمام خشونة الواقع ومأساويته. أما رواية «قبور في الماء» فهي نقد سياسي لاذع للاستغلال وعلاقة بعض الفاسدين بالنخب السياسية، وظاهرة الاستغلال، حيث ضاع مركب صيد لأحد الموسرين يعمل فيه صيادون بؤساء وعوض دفع الديات حرف الموسر القضية إلى إقامة زردة ترحما عليهم بعد هلاكهم في عرض البحر، والمفارقة وروح السخرية واضحتان في نهاية الرواية الممتعة.

وفي رواية «الحي الخلفي» تناول الكاتب ظاهرة الفساد، وفي «بيضة الديك» تناول الانحلال وفساد القصر تحت وطأة الاستغلال والانجراف نحو المجون والفجور، وتعتبر رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» رواية هيبية مغربية (الهيبي) وقد كتبها أيام انتشار فلسفة العدمية والعبثية وامتداداتها إلى العالم العربي، حيث وجد الشباب أنفسهم منساقين إلى الانحلال الخلقي واقتناص المتعة بلا روح مسؤولة واعية تحت ضغط عنف السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، والخواء المعرفي والروحي والأخلاقي. وعلى الرغم من أن زفزاف لم يكتب سيرة ذاتية إلا أن الطابع الأوتوبيوغرافي كامن في متونه السردية، بدلالة استخدام ضمير المتكلم والأوتوبيوغرافية تنهل من تفاصيل الذات لإعادة إنتاجها تخييلا، كما لا يختفي صوت المثقف في سرده، ما يكرس البعد السير ذاتي، كما أن كثيرا من التفاصيل ووجهات النظر كما سمّاها، كل ذلك يؤكد أن زفزاف بتفاصيل حياته قار في متونه السردية، ولا يغيب البحر عن عوالمه ورمزيته في هروب الكاتب إليه، لما يمثله من صفاء ومرونة وتحرر وآفاق رحبة أمام إكراهات الواقع وخشونته وجبريته.

ولا يخطئ قارئ أعماله كذلك في رصد كمون الموت في متونه السردية والتركيز على الموت هو تشبث بالحياة، على الرغم من سرعة زوالها وفناء متعها، فهي كما يقول دائما فانية والعبرة بعمل الخير ونضال الإنسان من أجل تحقيق الخير والحب والسعادة، كما تتعدد الأمكنة في أعماله بين مغربية مثل القنيطرة، الصويرة، الدار البيضاء، وأجنبية مثل إسبانيا وفضاءات رواياته متعددة كالمقهى والحانة والفنادق والأحياء الشعبية، والقصد من التركيز على مختلف الآفات الاجتماعية، هو فضح التناقضات الاجتماعية والتواطؤ بالصمت من قبل الجميع، والنفاق الاجتماعي إلى درجة استخدام اللفظ الخشن تارة والبذيء تارة أخرى، تحت وطأة الظروف من تفشي البغاء والتحشيش والسكر، وملفوظ تلك الشخصيات يطابق الحالة النفسية والوضع الاجتماعي، فالبلاغة والتأنق والتحلي بالخلق المتصنع، يجعل النص متكلفا غير واقعي بالمرة. فهو ليس كاتب الأحلام المخملية ولا الروايات العاطفية ذات النهايات السعيدة، إنه كاتب يمتح من معين حياته الخشنة ووعيه الطبقي، وإنسانيته ونظرته الرحبة، وإصراره على هتك الممنوع وتناول التابوهات، قصد تعرية المجتمع والكشف عن مستوره تحت يافطة التحلي بالخلق، أو الزواجر الدينية، التي لا يعترض عليها بقدر ما يعترض على لا تجانس المجتمع واستغلالية طبقته البورجوازية والصمت السياسي إلى درجة التواطؤ كذلك.
عمر القصة والرواية في المغرب هو من عمر محمد زفزاف، الذي ولج باب العالمية، حتى وإن لم ينل جائزة مغربية في حياته، وكأنه حق عليه قول القاص التونسي المغبون هو الآخر علي الدوعاجي:
عاش يتمنى في عنبه
مات جابولو عنقود
ما يسعد فنان الغلبه
إلا من تحت اللحود
وقد تدارك المغرب هذه النقيصة فطبعت وزارة الثقافة مجمل أعماله، ويروى أنه لما استلمها وهو على فراش المرض أجهش في البكاء، ثم تم تدارك الخلل كرة أخرى بتكريس جائزة محمد زفزاف تمنح كل ثلاث سنوات خلال مهرجان أصيلة، وهو اعتراف بمكانة هذا الروائي الكبير في تحديث وتطوير الأدب المغربي، ذلك الأدب الذي كرسه لسكان القاع والهامش وبيوت الصفيح –وليس أدب الأبراج العاجية أو الأحلام الوردية على الوسائد المخملية– ووصف العلاقات القائمة قبل وصف الأوضاع لتقديم الخفي على الظاهر وإدراك العام من الخاص والكلي من الجزئي لتتكرس قيمة زفزاف ككاتب واقعي انتقادي لا تكتفي واقعيته بنقل الواقع في عطالته وتناقضه ولا إنسانيته، كما تنقل آلة التصوير صور الأشياء، بل نقل الواقع بلمسة شاعرية ودفء إنساني صوب ممكن اجتماعي أكثر رحابة وإنسانية وحرية وعدالة.

ذ. المصطفى البحري / المغرب



المصدر: القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *