الثنائيات الضدية في قصيدة “أبكي على فرحي” للشاعر المغربي عبد الصمد الصغير/ بقلم: ذ. سعيد محتال / المغرب



الثنائيات الضدية من المفاهيم المهمة التي أثارت انتباه العديد من النقاد والشعراء، نظرا لتواجد متضادات كثيرة في الكون لها مفعول كبير على مسيرته الإبداعية، من بين هذه الثنائيات: خير/ شر، نور/ ظلام، فرح/ حزن، أمل/ ألم، حب/ كره، مدح/ ذم… حيث يعيش كل طرف إلى جانب الطرف الآخر؛ بينها اتحاد وصراع، وهذا يعد بمثابة مصدر توالد ونماء للعديد من الصور الشعرية، التي تجسد طابع التضاد والتقابل والتوازي بين الأشياء، يشير إلى تفاعل وتكامل
الثنائيات الضدية، لها دور كبير في إعطاء دينامية إبداعية للنص الشعري وإيقاعاته، جيث تسهم بدورها في التنويع الموسيقي والدلالي..
ولعل أهم الثنائيات الضدية الواردة بكثرة في النص (أبكي على فرحي) للشاعر المغربي عبد الصمد الصغير: ثنائية البكاء/ الفرح، والتي انبثق عنها ثنائيات مقترنة بها وسائرة في فلكها كثنائية الأنا/ الآخر، الحاضر/ الغائب، الماضي/ المستقبل، الخير/ الشر… والتي شكل بها ومن خلالها العديد من الصور الشعرية والثنائيات الضدية الموازية لها، جعلت من التضاد بنية متماسكة أكثر ارتباطا وتلاحما بين جميع أبيات القصيدة.. وأكثر جذبا للمتلقي، ورغبة في خوض غمار الكشف عن جواهرها المخفية بين ثنايا الأسطر..
لقد لعب البكاء والفرح دورًا بارزًا في حياة الشعر العربي والشعراء منذ العصر الجاهلي، حيث اعتبر البكاء تعبيرًا عن الحزن والألم النفسي للشاعر العربي، كما استخدم البكاء كوسيلة للتعبير عن الحنين والشوق إلى الأوطان والأماكن المفقودة.
ويعد البكاء على الأطلال وعلى الأحباب الذين رحلوا من أكثر المواضيع شيوعًا في هذا السياق.
ومن بين الشعراء الذين اشتهروا بقصائدهم الحزينة والمشحونة بمشاعر البكاء امرؤ القيس وطرفة بن العبد وجميل بثينة..
في المقابل، كان للفرح أيضا حضور مهم في الشعر العربي، خاصةً في مناسبات الأعراس والانتصارات الحربية، وعن الفرح والبهجة بالطبيعة والحياة كما في شعر المتنبي وأبي تمام وأبي نواس وأبي فراس الحمداني.
-كما كان للشعر الصوفي نصيب كبير من التعبير عن الفرح الروحي.
ومن هنا يتضح أن البكاء والفرح شكّلا معا جزءاً أساسيًا من الخبرة الإنسانية التي عبَّر عنها الشعر العربي عبر العصور، وجزءا من تجربة الحياة البشرية وطريقة للتعبير عن العواطف والمشاعر. ويمكن رؤية هذه الجوانب العاطفية كمصادر بلاغية وأدبية ثرية:
فالبكاء مثلا لا يعبر عن الحزن والمعاناة فقط، لكن أيضًا عن الرحمة والتعاطف في الأدب عموما والشعر خصوصا.
والدموع قد تكشف عن عمق الشخصية أو لحظات التحول العاطفي.
وكذا الفرح لا يعكس دائما السعادة والامتنان، بل قد تأتي لحظات مفرحة تضيء مشهدا مشحونا بالسخرية والاشمئزاز والحسرة..
بشكل عام، التعبير عن العواطف -سواء بالبكاء أو بالفرح- يمكن أن يضيف عمقًا وجمالًا للغة، لإنشاء مشاهد قوية وممتعة للقراء.
فالبكاء والفرح هما جزء لا يتجزأ من تجربة الحياة والخبرة الأدبية
-عتبة العنوان
أَبْـكي عَلى فَـرَحي
لاحظنا كيف أن البكاء والفرح يعبران عن مشاعر الإنسان العميقة والداخلية، ويحملان دلالات بلاغية تعبر عن الحزن والسعادة بشكل مباشر، ويمكن استخدامهما في الأدب والشعر لتعزيز المشاعر وإيصال رسائل عاطفية قوية.
ومن خلال هذا التعبير البلاغي -أَبْـكي عَلى فَـرَحي- يمكن القول ابتداء إنه تجسيد لحالة الصراع بين الفرح والحزن، وبين ما يريده الشاعر وما يحصل له فعلاً.
وقد ورد في قواميس اللغة العربية
“بكى على” بمعنى ذرف الدَّمعَ حُزنًا عليه،
ولما كان العنوان مرتبطا بالشاعر نفسه (أبكي- فرحي: ضمير المتكلم + ياء المتكلم)، ببكائه على فرحه، قد يشير إلى عدة معان:

1-قوة الحزن والألم في نفسه تجاه أمر معين أو حدث طارئ، إلى حد أنه حول فرحه إلى حزن وبكاء.
2-عدم استقرار الحالة النفسية، والانتقال السريع بين الأحوال المختلفة.
3-التأكيد على شدة التأثر والحساسية العاطفية لدى الشاعر.
4-الإشارة إلى عدم الرضا عن واقع معين، والرغبة في إصلاحه أو تغييره أو تجاوزه.
5-التعبير عن حالة من الحزن والأسى على فقدان أو ضياع شيء ثمين، حتى وإن كان هذا الشيء هو الفرح (السعادة) ذاتها.

وبشكل عام، يعكس هذا التعبير حالة من التضارب والتناقض في المشاعر الإنسانية، مما يضفي عليه بعدًا فلسفيًا وجماليًا مميزًا. وقد استخدمه الشعراء العرب بإبداع في سياقات متنوعة.
هذا التعبير البلاغي “أبكي على فرحي” يمكن أن يعكس حالة الإنسان المعاصر بعدة طرق:
-الصراع النفسي والعاطفي: كثيرًا ما يعاني الإنسان المعاصر من صراع داخلي بين الفرح والألم، السعادة والحزن، القنوط والاغتراب.. فرغم تحقيق بعض الأهداف والنجاحات، إلا أنه قد ينتابه شعور بالقلق والاكتئاب، نظرا للاضطرابات الكثيرة التي صارت تشهدها الأوطان العربية والإسلامية من ذل وهوان، وتهميش، وتضييق..
-عدم الاستقرار النفسي: الحياة المعاصرة تتسم بالتغير السريع والضغوطات المتنوعة، مما ينعكس على حالة الإنسان النفسية وانتقالها من حال إلى حال؛
-الحساسية المفرطة: الإنسان المعاصر أكثر حساسية وتأثرًا بما يحدث حوله، إلى درجة قد تجعله يبكي على فرحه أو سعادته نظرا لكثرة ضغوطات الحياة التي لا تكاد تتوقف او تنتهي؛
-رفض الواقع والرغبة في التغيير والإصلاح: نتيجة عدم رضا الإنسان عن الأوضاع الراهنة وطموحه في تغييرها أو تجاوزها؛
-الشعور بالاغتراب: في ظل الحياة المعقدة والمتغيرة، قد يشعر الإنسان المعاصر بالحرمان من السعادة والمتعة التي كان يتوقعها أو سمع بها من قبل، فيبكي على ما فاته أو ضاع منه؛
من هذا المنطلق أصبح التعبير الشعري والأدبي للإنسان المعاصر متنفسا لما يعانيه من تناقضات وصراعات داخلية، فصارت الكتابات الموازية تمثّل نموذجا للتجربة الإنسانية في زماننا، ولعل هذا ما افتتح به الشاعر قصيدته:

أَرْتـابُ فيكُـمْ وَفي حُـزْني وَفي فَـرَحي
أَسـيرُ بي جَـسَـداً يُـفْـضي إِلى شَـبَـحي
أَرْتــابُ في أَيِّ شَيْءٍ لَـيْـسَ يُـقْـنِـعُـنـي
أَنْبـاءُ قَـلْـبـي … رَأَتْ كَـيْـلاً إِلى طَــفَـحِ

وكأن الشاعر يريد أن يبين لنا سبب الحالة النفسية التي أفرزها العنوان، والتي يمر بها حاليا، مستعينا بفعل مضارع تكرر مرتين في البيتين الأولين (أَرْتـابُ)، والذي يشير إلى أحداث ووقائع حدثت في الزمن الحاضر، تكرر معها حرف الجر (في) عدة مرات وفي زمن قصير، زمن الحاضر المشحون بالتوتر والأسى..
كلمة “ارتاب” تحمل من الدلالات والمعاني ما يفيد الشك والريبة، بمعنى أن الشاعر أصبح لديه شك وريبة في أمر معين (فيكُـمْ وَفي حُـزْني وَفي فَـرَحي). فهو لم يعد واثقًا في الجهة المخاطبة (فيكم) العائدة إلى جماعة أو فئة معينة وفي أحواله غير المستقرة (وَفي حُـزْني وَفي فَـرَحي).
والى عدم اطمئنانه على شيء معين، وهذا يشير إلى حالة من القلق والاضطراب:

أَسـيرُ بي جَـسَـداً يُـفْـضي إِلى شَـبَـحي

وكأننا أمام حالة من التوتر والانفعال التي ولدت لدى الشاعر مشاعر عميقة، فصار جسده يقوده الى المجهول الذي عبر عنه بالشبح ونسبه لنفسه للحديث عن التخوفات المضمرة وليس بالضرورة عنه شخصيا، فالشبح قد يقصد به الكيان المجهول للإنسان، وليس المظهر الخارجي..
وكأن الشاعر يخبرنا عن حالة انتكاس وتقهقر في الأفعال التي لم تعد تسره، فما الجسد المجهول هنا الا تلك الأداة التي تربطنا بالعالم الحقيقي الذي لم يعد يسر الشاعر:

أَرْتــابُ في أَيِّ شَيْءٍ لَـيْـسَ يُـقْـنِـعُـنـي

فالارتياب والشك كما يلاحظ ليس مقصورا على علاقة الشاعر بالآخرين فحسب، بل يمتد ليشمل حتى مشاعره الداخلية من حزن وفرح، مما يوحي بحالة من عدم الاستقرار النفسي لأسباب موضوعية.
وهنا تظهر لنا ثنائية الجسد/ الشبح، التي تعكس حالة من الانشطار النفسي التي يعيشها الشاعر.
فنحن هنا أمام تجربة وجودية، وكأننا أمام ذاك الشك الديكارتي الذي جعله يشك في كل شيء، حتى في الوجود الشخصي (الشك في أي شيء)
الشك في كل ما يحيط به، بما في ذلك حواسه، وجسده الذي يصله بالعالم الخارجي. بل صار عند الشاعر أداة للبحث عن الحقيقة.. (لَـيْـسَ يُـقْـنِـعُـنـي)، كأن الشك سيساعده على التخلص من كل ما هو مشكوك فيه وصولا إلى ما هو مؤكد، وحقيقي:

أَنْبـاءُ قَـلْـبـي… رَأَتْ كَـيْـلاً إِلى طَــفَـحِ

صورة شعرية تبين حجم المعاناة التي يحملها الشاعر في قلبه، وحاليا يظهر لنا سبب بكائه وحزنه.
جملة -طفح الكيل- جملة كثيرا ما نسمعها، ونتداولها فيما بيننا، وتعني: امتلأ حتى فاض…
والكيل هو الإناء أو الوعاء، انه لم يعد هناك صبر أو مقدرة على الاحتمال، وبأن الأمر زاد عن حده وبلغ منتهاه..
فقد وصلت نفسه درجة الفيضان والغليان، حتى انه لم يعد عقله قادرا على استيعاب ما يجول في قلبه.
لكن الشاعر لم يخبرنا هنا بما أنبأه قلبه، أو ما رأت عيناه، بل انتقل مباشرة إلى الحديث عن حالة الفرح التي كان عليها من قبل:

أُحِــبُّ أَرْضـاً… أُنـاديـهـا فَـتَـعْـرِفُـنـي
تَـقُـولُ لي: هـاكَ مِنْ تَـمْري وَمِنْ بَلَـحي

في هذا البيت، يعبر الشاعر بطريقة رائعة عن حبه العميق لأرضه ووطنه. باتت الأرض كائنا حيا يتفاعل معها، تستجيب له بإعطائه من ثمارها،
تصوير حسي ومجازي يظهر مدى التجانس والتكامل الذي كان حاصلا بين الشاعر وأرضه، التي تتفاعل معه وتلبي رغباته. ولم تعد فقط مجرد مكان جغرافي بل هي في نظره كيان حي تتقاسم معه العديد من الأسرار والذكريات، تتكلم معه، وتؤنس وحشته..
كأن الشاعر يحن إلى تلك اللحظات الرومانسية السابقة التي كان عليها قبل أن يحدث ذاك الانقلاب القوي في المشاعر (البكاء/ الفرح)
تقابلات دلالية بين فترتين من الزمن (الماضي/ الحاضر)، تجسدت في استحضار العديد من الصور البلاغية كالتقابل والتضاد، وجناس وطباق… كل ذلك للتعبير عن حنين الى زمن العطاء والاستجابة:

هَـرَبْــتُ مِـنّي، وَفي كُـلُّ الْـوُجُـوهِ أَرى
أَشْـبـاهَ بَـعْـضٍ، كَـما ضَـوءُ بِـلا وَضَـحِ
أَخْـرَجْـتُ مِـنِّي غَـريـقـاً كـادَ يَـبْـلَـعُـني
وَقُـمْــتُ خـارِجَــةً رُوحي مِـنَ الــرَّشَـحِ

أبيات يعبر من خلالها الشاعر عن شعوره بالاغتراب والضياع والشعور بالفقدان لذاته، في الأرض التي يحبها وتحبه. فهو يصف كيف “هرب منه”، أي فقد إحساسه بهويته وذاته الحقيقية، في هذه الأرض الطيبة المباركة بعطائها.
وان الوجوه التي يراها “أشباه بعض”، لا يكاد يعرفها، أو يتعامل معها. فالواقع أمامه أصبح كـ”ضوء بلا وضح”، مشوشًا وغير واضح بالنسبة له،
حالة من الانفعال الداخلي الحاد، أُخرج من داخله قهرا “غريقًا كاد يبلعه”، أي أن جزءًا من ذاته كان يغرق ويكاد يبتلعه. للدلالة على حالة من التوتر والقلق النفسي المستمر. وهذا يتطلب منه التحرر والخروج من هذا الوضع المتأزم “خارجةً روحي من الرشح”، أي أنه قام بإخراج هذا الجزء المكبوت من ذاته، حتى يتمكن من التنفس من جديد وينجو بذاته من ذاته.. وكأن الشاعر يشعر بضيق واختناق من شيء يتطلب مواجهته والتعبير عنه شِعرا حتى لا يبقى دفينا بذاته.
هل يمكن استنتاج أن مطالع هذه القصيدة المشحونة بالضيق والقلق أنها تعكس عمق المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشاعر، وأنه يسعى جاهدا للتخلص من جوانب مظلمة في ذاته وفي وطنه…:

أُصـافِـحُ اللَّـيْـلَ مَـوْعُـوداً بِـوَصْـلِ غَــدٍ
فَلَـمْ أَرَ الصُّـبْـحَ يَـأْتي مٍنْ لَـظى الْجُنَـحِ

انتقل الشاعر ليُصوِّر لنا حالة من الانتظار والترقُّب للصباح، بعد ليلة طويلة من الحسرة والحزن. فهو يُصافح الليل “موعودًا بوصل غد”، أي يلتقي به ويتواصل معه، متوقعًا أن يأتي الصباح الموعود.
ولكن الشاعر لم يره يأتي “يأتي من لظى الجنح”، أي من شدة الظلام والاكتئاب الذي يحيط به. فالفجر لم يُشرق كما كان متوقعًا.
كلمة اللَّظَى في (المعجم المعجم الوسيط) معناها
اللَّظَى: لهبُ النار الخالص لا دُخانَ فيه.
ولَظَى: اسم جهنم، نعوذ بالله منها، وسميت بذلك لأَنها أَشد النيران.
جُنْح اللَّيْل: ظلامه
تحت جُنْح اللَّيل/ في جُنْح اللَّيل: في ظلامه.
قد يلاحظ القارئ كيف يصف الشاعر انتظار قدوم الصباح بعد ليلة طويلة، غارقة في الظلمة والقسوة.. ترقب طويل مشحون بالحيرة والانتظار، حيث عجز عن رؤية قدوم الفجر من وهج الظلام الحالك. وهذا يرمز إلى معاناة الانتظار والشوق في قلب الشاعر. الذي يعاني حالة من الآمال المعلقة والخيبة الممتدة والإحباط الذي يأبى الانكسار..
وفي عبارة “من لظى الجنح”، نلاحظ كيف شبّه الشاعر الظلام الحالك بلهيب أو لظى النار. هذا التشبيه يعكس حالة الحزن والقلق التي يعيشها الشاعر في انتظار الصباح تم تجسيده “يأتي”، كأنه كائن حي يتحرك. هذا التجسيد يضفي حركية وحياة على الصبح، ويعبر عن شوق الشاعر لقدومه.
كما استخدم الشاعر التكرار في عبارة “فلم أر الصبح”، ليؤكد على حالة الانتظار والحيرة التي يعاني منها. ليجسد الشاعر لنا مشاعر ممزوجة بالحزن والأمل، والانتظار والشوق.. كأنه يريد إثارة مشاعر المتلقي ليجعله مشاركا له هذه التجربة الشعرية:

أَرى حُــرُوفـــاً، بِــلا إِذْنٍ، تُـغــادِرُنـي
وَقَـدْ أَبَـتْ أَنْ تَـرى فَـرْحـي كَـما تَـرَحـي

بيت من الشعر يعكس بصدق حالة شعورية عميقة. يصوّر من خلاله مشاعر الحزن والألم التي تنتاب الشاعر بسبب رحيل الحروف (أو الكلمات) عنه دون إذن، وعدم قدرتها على رؤية فرحه كما ترى حزنه.
ولا يزال الشاعر متشبتا باستخدام أسلوب التشخيص حين وصف الحروف بأنها “تغادرني”، كما لو كانت كائنا حيا لها إرادة تختار الانحياز الى عكس ما يتمناه الشاعر. هذا التشخيص يعطي الحروف صفات إنسانية، تواجه قدره من خلال التقابل بين “فرحي” و”ترحي”، هذا التقابل الذي يحمل شحنة شعورية مضطربة، كيف أن حروف الشاعر لا تستطيع أن ترى فرحه مثلما ترى حزنه.
باستخدام ألفاظ مؤثرة كـ”أبت” و”ترح”، والتي تعطي إحساسا بعمق المشاعر التي يعيشها الشاعر حول واقع قريب منه، لا يكاد يفارق مخيلته:

تِـطْـوانُ عُـدْتُ… وَشِـعْـري كُـلُّـهُ أَمَــلٌ
أَنْ لا يَــراكِ بِـهــذا الْـهَــرْجِ وَالْـقَـبَــحِ
يـا لِلْـمَـديـنَةِ…! صـارَتْ تَـغْتَـوي عَـجَـبـاً
وَتُنْـشِئُ الـدُّورَ كَيْ تَـأْوي ذَوي الْجُنِـحِ

هنا يظهر لنا جليا مَن المقصود بكل هذا القلق الذي خيم على قلب الشاعر، إنها مدينة تِـطْـوانُ التي صارت تغوي بطريقة عجيبة، تأوي فئات اجتماعية معينة (ذَوي الْجُنِـحِ). هذا الوصف هو الذي أثار قلق الشاعر حول التغيرات التي طرأت على المدينة وأثرها على النسيج الاجتماعي والمجتمعي (الْـهَــرْجِ وَالْـقَـبَــحِ)، استاء الشاعر كثيرا من هذا الضجيج المخيم على المدينة الهادئة، وكله أمل أن تعود إلى عهدها الأصيل، تلك المدينة الساحرة التي تجلب العديد من الزوار والسياح للاستمتاع بمناظرها الطبيعية الجميلة، وشواطئها الهادئة، لكن يبدو أن مدينة تطوان تحيا على إيقاع الهرج والمرج.
وقد أتى الشاعر بأسلوب النداء، والغرض الرئيسي من أسلوب (النداء) التنبيه والاهتمام بمضمون الخطاب، وقد وضع هنا موضع التعجب والتحسر على مدينة تطوان، التي أصبحت أجواؤها تقلق بال الشاعر (يـا لِلْـمَـديـنَةِ…! صـارَتْ تَـغْتَـوي عَـجَـبـاً)، مدينة تغوي الناس بطريقة عجيبة ومثيرة للاهتمام، بسبب التغير المفاجئ..
واستخدام كلمة “تغتوي” يوحي بأن المدينة أصبحت تمارس نوعًا من الإغواء أو الجذب الذي يثير العجب والدهشة “عجباً”، شيء خارج المألوف ساهم في تردي الاوضاع بالمدينة (الـدُّور … تَـأْوي ذَوي الْجُنِـحِ).
ذوو الجنح: ذوو السوابق، الأشخاص الذين يقومون بأفعال ينظر إليها على أنها منحرفة غير اجتماعية..
الشاعر صريح في ألفاظه، صادق في مشاعره، من باب الغيرة والدفاع عن حياة كريمة لأهل المدينة القريبة من قلبه ووجدانه:

أُصـالِــحُ اللّـيْــلَ مَـوْصُـولاً إِلـى سَـحَـرٍ
حَـتّـى يُـبـيـنَ صَـباحٌ لَـوْنَـهُ الْـقُـزَحـي
لَقَـدْ تَـعِبْـتُ مِـنَ الدُّنْـيا، وَمِـنْ تَـعَـبـي
وَمِنْ كِفاحي وَمِنْ رَكْضي وَمِنْ كَـدَحي

وبعد استطراد الشاعر في ذكر أسباب حزنه وقلقه على مدينة تطوان، نجد الشاعر يتنفس الصعداء، محاولا إصلاح علاقته مع الليل الذي طال أمده (أُصـالِــحُ اللّـيْــلَ مَـوْصُـولاً إِلـى سَـحَـرٍ)، وانتظاره لظهور الصباح بألوانه المشرقة (صَـباحٌ لَـوْنَـهُ الْـقُـزَحـي).
وأنه كيف يداوم على التواصل مع ليله الطويل، منتظرا بصبر قدوم فجر، يرقبه باشتياق، رمز الأمل والحياة الجديدة. معتمدا على تصوير كل هذه المشاعر بأساليب بلاغية متنوعة كالتشخيص (أُصـالِــحُ اللّـيْــلَ)، والاستعارة (يُبين صباح لونه القزحي)، والجناس (أصالح وموصولا ليؤكد على استمرارية التواصل والمصالحة مع الليل)
بالإضافة إلى الاعتماد على أسلوب التكرار: كتكرار لفظ “الليل” وربطه بكلمة “موصولاً” ليؤكد على استمرار التواصل والحوار الداخلي للشاعر مع الليل، رمز القلق والتوتر والانفعال الشديد المصاحب لطول الليل، ليعبر عن حالة من الإرهاق والتعب النفسي والجسدي
(لَقَـدْ تَـعِبْـتُ مِـنَ الدُّنْـيا، وَمِـنْ تَـعَـبـي)
تكرير كلمة “مِنْ” أكثر من أربع مرات في بيت واحد كان له دور كبير في تمديد أجواء التوثر والانفعال السابقين..
معززا هذا باستعمال ألفاظ متقاربة في المعنى مثل “تعبت”، “كفاحي”، “ركضي”، “كدحي”، لتعزيز فكرة الإرهاق والجهد المبذول. مع اختيار ألفاظ مادية ملموسة مثل “الدنيا”، “كفاحي”، “ركضي”، “كدحي” مما يضفي على الصورة الشعرية حركية حسية واقعية للدلالة على حالة التعب المستمرة، موظفا (لقد)
اللام في لقد. …
اللام واقعة في جواب قسم مقدر محذوف تقديره والله لقد، و “قد” مع الماضي تفيد التحقيق، وهذا للتأكيد على الحالة النفسية التي لا تكاد تفارق الشاعر منذ بداية النص، ورغبة منه في جلب انتباه المتلقي لتصديق القول.
كل هذه الأبعاد البلاغية والدلالية ساهمت في رسم صورة شعرية تبرز مدى حالة الإنهاك والتعب التي بات يعاني منها الشاعر، رغبة في إثارة تعاطف القارئ مع الحدث وجذب انتباهه إلى قضيته الأساسية، ولكن حين وجد الشاعر نفسه وحيدا أمام هذا الحدث المقلق والمفزع، التجأ إلى بارئه:

وَقَـدْ لَجَـأْتُ إِلـى الْمَــوْلـى، لِأَرْفَـعَـنـي
قَــدْراً، بِـنَــظْـرٍ إِلى آيـاتِــهِ الـصِّــحَــحِ

بعد طول ترقب وانتظار حلول فجر صباح مشرق فضّل الشاعر اللجوء إلى الله سبحانه القادر على على أن يبدل الأحوال، قال الشاعر: لِأَرْفَـعَـنـي قَــدْراً وليس ليرفعني مع أن المقام يقتضي ذلك،
فالله هو القادر على رفع قدْر الإنسان ومنزلته،
وكأن الشاعر يريد أن يقول للناس: إن رفعة القَدْر عند اللَّه تعالى ليست بالمظهر ولا بالسلطة، وإنما هي بالإخلاص والصدق والتقوى، والقرب من الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). الحجرات: 13.
فكما صرح دوستويفسكي” إن في وسع المرء، في كل ظرف من الظروف، أن يتصرف تصرفًا يحفظ له كرامته. إن الكفاح يرفع قدر الإنسان ولا يخفضه.” رواية المقامر.
فالالتجاء إلى اللَّه والتَّعلق به يعد الطريق الأَمثل لِرَفع مقام الانسان، وهدايته إلى جادة الصواب. وهذا لن يتحقق إلا بالنظر والتدبر في آياته الكونية.

تَـرُدُّ خَـطْوي نِـياتُ الصَّحْـبِ غـامِضَـةً
قَـدْ ظَـلَّ مُـرْتَبِكـاً، لِلـنَّـفْـسِ مُـنْبَـطِـحِ

لكن الشاعر يستدرك موقفا كان سببا في تراجع خطواته إلى الخلف “نِـياتُ الصَّحْـبِ غـامِضَـةً”: فنوايا الأصحاب والمقربين غامضة وغير واضحة. مما زاد من حيرة الشاعر وارتباكه. فأثّر ذلك على نفسه وأوقعه في حالة من الانكسار والاستسلام.
فالنوايا عندما تكون غامضة، قد يؤدي إلى إعاقة الخطوات وعدم القدرة على السير قدما، وهذا ما جعل الشاعر يتريث في اتخاذ أي قرار أو الخوض في سبب انهياره بالبكاء،
صورة حركية شبه منعدمة بعدما أخذ العزم على سلوك الدرب القويم، رغم استخدام فعل “تَـرُدُّ” يضفي حركية ودينامية على المشهد العام.
وقد استخدم الشاعر تشبيها ضمنيا، يصور من خلاله نوايا الأصدقاء كأنها “غامضة”.
هذا ما يخلق جوا من الغموض والشك، ويزيد من شعور الارتباك والتردد المستمر “قَـدْ ظَـلَّ مُـرْتَبِكـاً”،
فعل “ظَـلَّ” يؤكد على هذه الاستمرارية.
ووصف الشاعر نفسه بأنه “مُـرْتَبِكـاً” يرسم صورة واضحة لحالته النفسية “لِلـنَّـفْـسِ مُـنْبَـطِـحِ”
وهنا استخدم الشاعر تشبيها بليغا، حيث يصور نفسه “مُـنْبَـطِـحِ” أي منهار.
مجموعة من الصور الشعرية البلاغية متماسكة ومترابطة فيما بينها ترسم الحالة النفسية المضطربة، بدءا من الإحباط والعجز، مرورا بالغموض والشك، ووصولا إلى الارتباك والاستسلام:

تَـرَكْــتُ رُوحي وَقَـلْـبـي عِـنْـدَ أَسْـئِـلَـةٍ
تَـرَكْـتُــهـا، وَأَنــا أَبْـكـي عَـلى فَــرَحِـي
الصراع الداخلي ظل مستمرا حتى نهاية القصيدة
” تَرَكْتُ رُوحي وَقَلْبي عِنْدَ أَسْئِلَةٍ “

نلاحظ كيف تم تشخيص الروح والقلب وجعلهما الشاعر كائنات ثانية مستقلة عن ذاته ومنفصلة عنه، “تَرَكْتُهَا” الضمير “هَا” يعود على الروح، المقصود بها النفس مما يؤكد على تجسيدها مع قلبه الجريح الذي لا يكاد يتوقف بكاؤه: -وَأَنَا أَبْكي عَلى فَرَحي-
ثنائية الحزن والفرح ظلت متلاصقة تأبى الانفصال: رغم التناقض الحاصل بين الحزن الذي يبديه الشاعر والفرح الذي تركه وراءه. هذا يعكس حالة نفسية معقدة، ومرهقة لفكر الشاعر المشحون بالتضادات التي خلفتها صورة واقع تطوان الحالي في قلبه، في غياب المعين للحد من تفاقم مثل تلك الأوضاع التي شلت حركة المدينة وأفقدتها جمالها..، وتظل الاسئلة قائمة تنتظر جوابا -عِنْدَ أَسْئِلَةٍ- إذ لم يحدد الشاعر طبيعة هذه الأسئلة، مما يضفي نوعاً من الغموض والالتباس على المعنى. ومما أعطى للنص دينامية جديدة تتمثل في ثنائية “الحركة والسكون”
ف- تَرَكْتُ- فعل حركة عَكَس انفصالَ الذات عن روحها وقلبها.
-تَرَكْتُهَا- حالة السكون والثبات بعد الانفصال.
هذه الصورة المتداخلة عكست الحالة النفسية المتوترة للشاعر.
تميز النص طوال أبياته بالحزن والتناقض والغموض، تاركا مجالا واسعا للتأويل والتفسير.
وقد وجد الشاعر في أسلوب التكرار القائم على الثنائيات الضدية والتقابلية خير معين لرسم معالم قصيدة (أبكي على فرحي)، حيث جدلية الصراع القائمة على الريبة والتردد بين الذات (أبكي) والموضوع (فرحي)
وبين الأنا (الشاعر) والآخر (بعض أهل تطوان)
وبين الداخل (المشاعر الدفينة للشاعر) والخارج (يتجسد في الواقع المفضي الى البكاء).
ترتب عن كل هذا عجز في مصارعته والاستسلام له،
الاستخدام المكثف للطباق والطباق الخفي الذي لا يصرح بإظهار الضدين فقط من خلال الاعتماد المكثف على الأصوات والألفاظ المتقاربة والمتجانسة والجناس والتشبيه الضمني والتراكيب المتشابهة.
في نهاية المطاف القصيدة التي بين أيدينا طرحت العديد من الثنائيات الضدية التي خلقت جوا نفسيا وشعوريا مليئا بالتوتر والصراع مثل
-ثنائية الارتياب والشك مقابل اليقين والتساؤلات المستمرة، وهذا يظهر منذ انطلاقة ابيات القصيدة. مما يدفع القارئ إلى التأمل في معانيها المتعددة والتفكير في الحالات النفسية المتكررة والوجودية المضمرة التي تعكسها.
-ثنائية الجسد والنفس: صراع بين الجسد المادي والكيان الروحي أو النفسي. التقابل الحاصل بين الصور الحسية المادية والصور المعنوية الفكرية.
-الانتماء مقابل الهروب والغربة: حب الوطن والغيرة عليه والشعور بالاغتراب النفسي والانفصال عنه،
تضاد بين الهروب من الذات والرؤية المتكررة لأشباهها.
-الوضوح مقابل الغموض والظلام: البيت الأخير يعبر عن هذه الثنائية بين الضوء والظلام، الوضوح والغموض.
كل هذا خلق جوا من التوتر والتفاعل داخل النص الشعري، مما عكس حالة الشاعر النفسية والوجدانية، وحتى الإيقاعية.
تنتمي القصيدة على المستوى العروضي إلى بحر البسيط، الذي يحتل المرتبة الثانية في الشعر العربي بعد الطويل، من حيث نسبة الشيوع،

أَرْتَاْبُفِيْ كُمْوَفِيْ حُزْنِيْوَفِيْ فَرَحِيْ
مسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ فعِلُنْ

” بحرُ البسيط هو أحد بحور الشعر، وسمي بسيطا (لأنه انبسط عن مدى الطويل، وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن). قيل: سُمِّي الْبسيط بهذا الاسم لانبساط أسبابه، أي تواليها في مستهل تفعيلاته السباعية، وقيل: لانبساط الحركات في عَرُوضه وضربه في حالة خبنهما؛ إذ تتوالى فيهما ثلاث حركات.” وكيبيديا
والبسيط كشكل إيقاعي قابل لاحتواء صفات وأحاسيس ومعاني متناقضة ومتضاربة كما هو في قصيدة أبكي على فرحي،
ونحن هنا من أجل معرفة مدى ملاءمة هذا البحر لمضمون القصيدة.
يمكن التأكيد على أن البحر البسيط باعتباره بحراً طويلاً، أتاح للشاعر إمكانية إيجابية لإيصال معان معينة، ومنحه نفساً تركيبياً ودلالياً (مستفعلن / فاعلن) لكي يشحن باقي تفاعيله بتجربة شعرية وشعورية مركبة
صحيح أن البحر كشكل إيقاعي هو محايد، قابل لاحتواء تجارب شعرية وشعورية مختلفة، ولأنه كذلك فالشاعر هو الذي يمنحه إياه، انطلاقاً من تجربته الشعرية، وقدرته على توظيف هذا البحر توظيفاً موفقاً وإيجابياً للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره.
تأسيساً على ذلك فالشاعر هو الذي يؤكد ويربط بين الانفعالات النفسية وطبيعة البحر على المستوى العروضي، لأن ما يميز البحر البسيط هو المرونة الإيقاعية بسبب تنوع تفاعيله ومقاطعه الصوتية التي تمنح للشاعر لتمرير تدفقات شعورية متنوعة ومختلفة، للتعبير عن الحيرة والاضطراب النفسي كما أشرنا الى ذلك سابقا.
ولسنا هنا من اجل الخوض في تفاصيل بنية القصيدة، بل فقط لإظهار مدى تلاؤم البحر الشعري الذي اختاره الشاعر مع الجو العام للقصيدة من حيث تعدد الثنائيات الضدية التي تم استخلاصها من خلال تحليل مضامينها والكشف عن دلالاتها العميقة، لنؤكد على التجانس الحاصل بين الإيقاع الصوتي والدلالي الذي أفرز لنا قصيدة نابعة من أعماق شاعر متمرس مدافع بشراسة على هذا النمط من الشعر العمودي والذي يعشقه حد الجنون كعشقه الكبير لوطنه والغيور على مدينته تطوان، والتي دافع عنها بكل صدق وإخلاص.

ذ. سعيد محتال / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *