الخيبة (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


هي مجرد ضربة بفأس، فاكهة العمر كله، بعد الكثير من الأخذ والرد، أمتار تزيد على أصابع اليدين، على ثمان خطوات تمنحها الفسحة مبتغى عزوز.
إليها يغدو صباحا، وعلى دم المساء يدعوها إلى كنف عشه في رفقة طيفها حوارا يروم إرضاء المدللة تهييء وترتيب واجب الغد.
بشوشا يترنم تحية الشروق مع جوقة العصافير المنفرجة الأجنحة رفيفا ساحرا أنسى عزوز ذاته، وهو جولة تتملى الجنينة ومغروساتها التي لم يغب عنه إبان الغرس تمتعها بالأشعة على مدار المنحنى، فنظرة على مصرف الماء البلوري المنساب في صمت مختلس لا تكاد تلتفت إليه إلا الأذن العاشقة لشدو الماء مهما كان خافتا.
على أز المضخة يصدح الماء أغرودة تعانق الفضاء وصداها حيوية يد تجتث الطفيليات، يليها تسوية التربة والسماد الطبيعي ونثر البذرة وسقيها عمل نهار ثمل بعبير نعناع فواح عن بعد.
كل حلم عزوز أن يطفئ ظمأ شجيراته مرة واحدة في الأسبوع لتراجع الماء خطيطا زبديا رقيقا جد ا، ثم تعثر صبيب الفرخة الأخيرة وإن حاول أن يقتسم الصبر وجارتها الزيتونة.
إلى جهر البئر ومسح عتامة العيون، تجرد بعد تأخير نما وانتظار لعل وعسى.
في متم عمل شاق تخلله لحس دورة البئر وعمقه الطيني في أكياس بلاستيكية خماصا تنزل وبطان سائل أسود تصعد، متثاقلة في الكشف عن دموع شحيحة إلى عصية وهو ما ينذر بحفر أعمق، وإلى حين ذلك سيروي عزوز النخيلة وجارتها الفضية الخضراء الأوراق، ثم اعتماد التناوب إن تمادى الماء في طلب الأغوار.
لوت الحرارة الغريسات الشبيهة بأطفال جف ريقهم، فلم يطق أن يخيب مستقبله، أن تستحيل شجيراته حطبا بعد أن كان يمني النفس بظلالها والغفوة في دفئها الوثير عقب كد وعرق جبين يحلب المتعة المتجاهلة لسباق العقربين وامتصاص غلالها حتى آخر خفق العمر، مثله في ذلك الشيخ الهرم ابا امحمد المحتضن ضحى ذات يوم لأرضه وقد انبطح على بطنه يملأ رئتيه من أريجها ويداه الواهنتان تحشان في صعوبة برسيما طريا.
مقابل سكوت الحفار إلا من كلمة ارفع بين لحظة واخرى، صخبت المطارق والاوتاد وهي تكيل الضربات من شمس الله إلى غاية الظهر ولا بريقة أمل تريح الأجسام المتصببة عرقا بقرب سيل الماء، لتبدأ أولى نقرات اليأس في التسلل إلى الأرواح، لكن كؤوس الشاي والدردشة المستحضرة لعمليات حفر سابقة ووجبة الغذاء الدسمة والاستراحة أيقظوا العزم على استئناف المطاردة.
ساد الهدوء والنفوس دعوات تستعجل الماء تحت تواصل طق طق طق المتحامية كأسد ولبوءة وأشبالهما على الحاجز الصلد المتشظي إصرارا وتحديا، فجأة تصيح الحناجر في فرح رجولي ثناياه براءة وسرور يحتفظان بالكثير من مرح الطفولة:
-ما ، الما ، والمااااااااا يا عباد الله.
-الحمد لله والشكر لله.
اطمأن عزوز لما أسفر عليه عناء البري، واستحلى الاسترسال وشريط المنى الوردي الذي اعترض دورانه ركام الصوان مزيج ازرق غامق وأسود منقط ببقع رمادية، جعله يغلق الباب في وجه هذا الضباب معكر البهجة مرددا على مسمعه:
-اليوم ماء وغدا رجاء.
دأب على رعاية ظليلاته القصار وقد أينعن وتماهين وناي الماء العذب واهب النمو ولذيذ الثمار، إلا أن هاجس أن يفعلها السائل من غير لون لا يفارق المخيلة لقلة الأمطار وفيض الوديان الزائرة لمجراها وإن طالت السنين تلبية لنداء الذاكرة.
اثناء المنعطف الضيق على حصى ورمال التيه توقف الحفر فأرخت الخيبة مسدولها الدامس وبات عزوز فريسة الفراغ والوحدة وباتت الجنينة نهشا للجفاف والريح.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *