في زحام وتدافع وصخب أصوات مبهمة يقتني رباط النعاع وهو يسيل عرقا وأنفاسه لهاث مضطرب، على هامش متموج الهواء رويدا رويدا يسترجع هدوءه المعطر نعناعا يغمض جفنه حضن عربة يدوية تحت قطر كيس يحفظ الطراوة.
تدور العجلتان تلبية لإرادة شيخ حوالي عقده الثامن يعشق زهرة الحياة المتفتحة كل صباح وخدها طل بلوري فاتن.
قصير القامة، منحني الظهر، رث الثياب، على نظارة طبية تخفي معالم الوجه الدائري، المتجعد البارز الوجنتين، المطلتين على حفرتي الخدين المنكمشين، بدفع من معروقتين نديتين تساندهما قدمان في نعلين قديمين مهترئين بردا وسلاما يفوح النعناع.
بين الأزقة يشهر النعناع بصوت جهوري يطمس ثقل عقدين من الزمن، لا يلبث أن يعود أدراج ضعفه المبحوح أحيانا مع تناسل الأزقة وسيل عرق وعربة وإن خفت قبضات خضيرها تحت العياء تجرجر ذاتا تلوذ بشجرة وهي تردد النعناع، النعناع، ثم تستأنف الجولة اليومية.
في سؤال حول واحدة او اثنتين يرق قلب أحدهم قائلا:
-احتفظ بالباقي.
-اعله، ملي انا!!!، لا ينقصني شيء.
شدو مقطع غير مسترسل خلال استراحة خاطفة يتغنى ميزة بضاعته:
-انعاااانع، لحروووش اهنا.
ثم يستمر في دفع عربته وسط رجال وشبان سريعي الحركة أبت ورقته الصفراء إلا أن تشاركهم فضاء الحياة الجميل عملا يزيدها نظارة وهو لا يستكين للخمول والموت البطيء.
ينال منه الجهد مع تقدم أشعة الشمس المتقاة بمظل من سعف النخيل وشربة ماء تشفي الغليل موالا يترنم المودة:
-هااا صحبكم لقديييم جا ألي عندو شي حاجة كينا اهنا.
يسمعه مرتين مختلفتي الوقع ثم ينطلق في همة قبل أن تشتد الحرارة وترمي بلهيبها الطلعة الممشوقة القد صاحبة الرموش الساحرة، يتجاهل التعب ويكثف من خطو جولة تطرق ازقة اخرى وهو يشنف الاسماع:
-النعناع، والحروس، ها النعناع، ها الحروش،،،
ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا يقبل عليه الناس في ربطة أو ربطتين يصحبهما بعدم نسيان الدعاء له بعد الشاي ذي العمامة البيضاء المتباهية بنسمتها.
مع انسراب القبضات، مطواعة تسير العربة ويتناقص همها كلما استوقفه أو ناداه أحدهم وهو يكلفه أن يختار له الطرية المشعة خضرة دافئة.
أقدام كثيرة على كمنجة تشيد بذات الخضير ولا نافذة أو باب يفتحان من أجل واهبة الكأس مذاقه ومعناه رشفة فاستزادة معهما يحلو ويطيب الحديث،،، انتبه إلى داخله في أمر بالعودة قبل تراجع الظل مؤجل الالتواء، أتى نصف الدائرة مع احتكاك العجلتين وأقفل راجعا عبر أزقة نادرا ما اتجه نحوها ويبدو أنها كسالفتها وهو يحدث نفسه التي دب إليها بعض اليأس انزاح فجأة من طالب لعدة عرائس مزنرة فتحت الباب على مصراعيه في تصريف الباقي الموجب للسرعة في الطواف.
قادته عربته في ممرات إلى أن توقفت أمام مقهى حاز وبعض رواده الكثير مما أرهق الشيخ صعودا ونزولا، ليتخلص مع الظهر أثناء سبيله إلى بيته من
حبيب الجلسة برادا وصينية وكؤوسا مجففة قد تغني، قد ترقص، قد تنشد الأشعار وتفخيما رقيقا جيئة وذهابا تنبجس الأهازيج.