خيط الرمل (قصة قصيرة) / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


على ذرات رمل ذهبية منسربة من كف بيضاء قوية تتميز بالحيوية وبعد النظر والتباث، شرشف غنج برتقالي فضي يذره الهب بعصاه يرمي طريدته.
إلى خيمته يعود كطائر كاسر أتى فراخه وجبة دسمة رعت العشب الطري المتباهي بنظير الأقحوان وشقائق النعمان والرياحين المنسمة شيحا وزعترا، وماء الغدير العذب ارتوت في حذر من مباغث يطمس صفاء صفحة الماء المتجعدة وزهو رقصة نسيم يلاطف المحيا ويغازل الضفيرة.
يسلخ احماد صيده بمساعدة واحد من الجيران، الذين ينالون حقهم وهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، توقد النار لسانا مندفعا متراجعا رقة بالقطعة المشوية المستغيثة دخانا، في غفلة تنتظر لحمة سوداء الرموس وردية الطلعة.
بعد راحة قيظ كبد السماء ومنحناها، غير بعيد من سبيكة الخيام فوق تل أو منحدر رملي يرتاح الرجال في هدر ومزاح يتخطاهما الكلام إلى الاحتفاء بالطريدة المؤبنة في جو مسرحي يضج ويخفت في إضافة أخرى تغني ذائقة اللسان.
محاذاة للسكن يجتمع النسوة وحولهن يلعب ويمرح أطفالهن ورائحة النار واللحم تملأ الجو، وما يزيد من جمال اللحظة خروج أحدهم وبيده لحمة يتقاسمها وأترابه.
صهوة فرسه المسرج سرجا مطرزا زينة بقل حريرية على الصدر، البني المفتوح، خليط أحمر وأصفر لامعين، بجلبابه وسلهامه الصوفيين وعمامته الخالصة البياض وبلغته الأقحوانية وعصاه يتفقد قطيعه في جولة صباحية تخلو فيها الذات إلى أكواخها هدوء متأملا في بحث عن عشب عبق فسحة القوائم غدا.
يقبل الناس إليه في عون يتحاشى قهر الزمان أو طلب إرشادات عن جمال غابت لمدة تبعث القلق والخوف، أو عن رؤوس ماشية، محسوم أمرها إن لم يفز بها الذئب المصر على الشنعة قبل اللقمة، نشوة وخيلاء يتباهى وهو يسمع الناس يتداولون:
-بأن الذئب جسم فلانا خسارة كبيرة.
يكرم ضيوفه بذبح رفقة المتواجد من الرجال على الكبد طي شحم ثم لحم، تنفجر الأحاجي والمرويات والأهازيج والأغاني وقصائد الشعر والذكريات المنسابة شلالا يغسل شقاء الحياة في سمر بهيج يود المنى لو يستمر، لكن خلسة ارتخاء الجفن تنذر بالنوم ونهاية صخب الفرح الشبيه بالومضة العابرة.
المدى الواسع يجوب اعلي ذراع احماد مع صاحب الجمال فهو العارف بكل هضبة وفج ومورد ومرعى وكل الخيام هنا وهناك التي قد تفي بالمطلوب أو تحيل إلى تغيير الوجهة مع إطالة الرحلة كنف كرم وجوه بشوشة تزيح العياء وتنثر الأمل. عن نشاط وبشاشة تخفي إرادة لاتلين يأتي احماد كل منتظرات يومه في همة لا تعرف الفتور، لكونه يمارس رياضة الوسط، في تحد يفرج المتباري الأول عن أطرافه الأربعة، وعلى المنافس قفل وسط الأول وطرحه أرضا، أو كرة العصا ملفوف خرق وخيوط، قدمها وجوربها الدافىء اللون وحذاؤها عصا تمرر وتراوغ فتشجيع الهجوم هدف يستدعي اخر به تنتهي الفرجة الممتدة عبر الصغار، وطورا ثالثا تصدح النساء غناء رخيما أيقظ سبات أعماق فانطلقت تطوي المدى وتكمش الزمن، المتراميي الشساعة تحت فوانيس الحنجرات السريعة الانطفاء.
في السوق الاسبوعي مسافة يومين يبيع رؤوسا تدر عليه ابسطة من الثمر واغرارتين من القمح والشعير وثوبا وملاقاة الناس وأخبارهم التي تتمحور حول الغيث والكلإ غمامة خصومات لا تلبث ان تنقشع. أولى عتمة الليل إلى مطرحه كان السباق وثلاثة يشكون غبنا، بعد الحديث وملامسة التدخل المتوج بالتراضي والولائم ورجع الأهازيج والأمداح المفسحة لعنان الزغاريد المشوبة حسرة دامعة. أخذا وعطاء تسيل الحياة تجددا يكنس الرتابة في تناوب الحدين.
مرات عديدة وشائكة مختلفة وحتى عويصة يتوسط وثلاثة من المقربين، ومنثور الصدى إخاء وطمأنينة.
ذات ضحى ربيعي حل به اثنان أثناء وقفة مع جار، انتهت بوعد ثقيل لأول مرة في حياة احماد التي تنازعها التردد والتأجيل، حسم الأمر وسريعا غادر دائرة بين بين في انتصار لكلمته ساكنة العلى، فك الكبة المتشابكة بعد جهد ومشاورات أثنى عليهما الطرفان.
اعترافا وامتنانا ودع الكل احماد ومرافقيه، ليبقى معهم بعض الكبار استئناسا بأولى خطوات الطريق ذي المنعرج الضيق الذي ارتأت فراسة احماد آخر برهة عدم سلكه، لتكشف دورة الليل والنهار عن مكيدة نجت منها الشعلة المتقدة زارعة المحبة والمؤازرة إلى أن اختطفه الموت في عمر الزهور بعد وجع بسيط، لتعيش رسالته من بعده مع الاجيال.

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *