عن دار قانة للطباعة والنشر والتوزيع في الجزائر صدر في عام 2022 كتاب عن شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا (1908/1977) في 176 صفحة، لعمر أحمد بوقرورة، الذي شغل منصب أستاذ الأدب الحديث والمعاصر في جامعة باتنة شرق الجزائر، قبل أن ينتقل لمتابعة العمل الأكاديمي في إحدى جامعات الخليج، كما ظهرت له مساهمات فكرية في النقد الأدبي والثقافي، وفي الدراسات الفكرية والحضارية، وفي التثاقف وصراع الحضارات، وكتابه هذا الذي يصنف في خانة الدراسات النقدية الأكاديمية مصطلحا، والعميقة مضمونا تسبر غور الروح الشعرية والأدوات الفنية عند هذا الشاعر، كما ترصد جماليات التلقي عند قارئ قصائده والمتابع لمساره الشعري منذ ما قبل الثورة إلى ما بعد الاستقلال، وترصد النبضات الفكرية والشحنات العاطفية والقلق الفني والالتزام ومحنة الانتماء بعد هوية ثورية ثابتة، وطنية تحررية لا تهادن ولا تصالح ولا تساوم، جسدتها مبادئ ثورة أول نوفمبر/ تشرين الثاني وأخلاقيات الثورة وتضحيات شهدائها العظام (1954/1962).
في المقدمة تناول المؤلف إشكالية الفن والمنتمي، وفي فصول الكتاب تناول المحاور التالية: رحلة البحث عن المنتمي إلى النص الشعري ومحددات رحلة الانتماء في الفصل الثاني إلى الكتابة بالمنتمي الفني وحضور الموروث الشعري المتمثل في فطاحل القصيدة الكلاسيكية، كالمتنبي الصوت الشعري المتمركز في الذات، وابن زيدون وأصداء صوت النونية الشهيرة وأبي فراس الذي مثل صوت البطولة المنكسرة إلى المعري في صوت الشاعر الفيلسوف وفي الفصل الرابع المنتمي المنكسر، حيث تحضر أصوات عديدة مؤتلفة مختلفة، وفي الفصل السادس والأخير تناول المؤلف محور مفدي زكريا بين سلطة الشعر وجلال العقيدة.
شاعر كبير بحجم مفدي زكريا يستحق مثل هذه المقاربة لشعره، ولسيرة حياته الخصبة بالالتزام وبالصراع كذلك، الذي لازمه إلى آخر عمره على كثرة ما كتب عنه وعن شعره ومواقفه السياسية بعد الاستقلال. فهي دراسة تقارب العبارة الشعرية عنده مضمونا فكريا وحمولة ثقافية ومنحى جماليا وللكاتب من دقة العبارة والتوفر على الثقافة النقدية والمقاربة المنهجية والحس الجمالي ما يؤهله لخوض غمار مثل هذه التجربة النقدية في كتابه هذا. مفدي الذي ولد عام 1908 في ناحية غرداية، وحفظ القرآن الكريم على عادة سكان وادي ميزاب، ثم رحل إلى تونس عام 1922 كباقي الجزائريين الذين يطلبون العلم في حواضر الثقافة العربية، بعد أن حاصر المستعمر الفرنسي معاهد التعليم في الجزائر، وأغلقها فدرس في الزيتونة ثم عاد إلى الوطن عام 1926 منخرطا في هم تدبير العيش، والبلد يرزح تحت نير الاستعمار الفرنسي والتأمل في حال الوطن ومآله وتقارع الأحزاب لينتمي إلى حزب نجم شمال افريقيا، حيث عين رئيسا للجنة التنفيذية عام 1936، ثم انتمى إلى حزب الشعب عام 1937 وتولى أمانته ورئاسة اللجنة التنفيذية فيه، وكذلك رئاسة تحرير صحيفة “الشعب”.
ليدخل بعدها تجربة السجون، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حسه الوطني ووعيه السياسي، تلك التجربة الطويلة والمريرة مع السجن، التي كانت بقدر ما هي معتمة، سالبة للحرية، ممتهنة للكرامة، كانت ملهمة له ومانحة للشاعر خلوده الأدبي، وفي السجن كتب قصائده ذات النفس الملحمي والبطولي عن شهداء الثورة، كأحمد زبانة ومصطفى بن بوالعيد والعربي بن مهيدي وغيرهم، وهي قصائد مدحت البطولة والشهادة، ومجدت الوطنية المخلصة، تتقاطع فنيا ودلاليا وتناصا مع قصائد عربية كلاسيكية باذخة، تغنت بالتضحية والموت والكبرياء والكرامة، والتي كانت تشكل المخزون الفكري والجمالي لمفدي زكريا، الذي عاش تجربة السجن (1937/1939) وفي سجن بربروس (1956/1957) في سجن الحراش لينقل إلى سجن البرواقية في 1959، وفي هذه السجون خلد مفدي بتوصيف شعري وتكثيف دلالي وبنبض الفكر وتوتر الوجدان وصرامة الكلمة الواعية الملتزمة، عذابات الجزائري في تلك السجون، حيث قال سارتر عنها وعن سيد الجلادين الجنرال لا كوست (إن جميع الناس الذين ماتوا من الألم والهول في مبنى “البيار” وفي مقصورة “س” إنما ماتوا بإرادته).
هكذا منح بربروس مفدي خلوده الأدبي بقصائد ديوان “اللهب المقد س” والعنوان ذاته يحيل على الفعل الثوري الخارق، بعد أن عجز الفعل السياسي لوحده، الذي هو ديوان الثورة الجزائرية بواقعها الصريح وبطولاتها الأسطورية وأحداثها الصارخة وهو مرآة عاكسة لإرادة شعب استجاب له القدر.
ليغادر البلد والثورة في أوجها في نهاية الخمسينيات مواصلا نضاله متنقلا بين المغرب وتونس، وفي يوم 17 أغسطس/ آب 1977 في تونس رحل عن عالمنا بعد سكتة قلبية مفاجئة، مخلفا إرثا نضاليا وشعريا كبيرا كـ”اللهب المقدس” و “تحت ظلال الزيتون” و “من وحي الأطلس” و “إلياذة الجزائر” وتعد مرحلة الاستقلال المرحلة الأشد في حياة الشاعر، حيث عاش الانكسار إلى درجة عدم الانتماء، مرحلة أملتها المتغيرات الحضارية التي تمثلت بعلاقات عديدة تشابكت بمستويات كثيرة حكمها في الغالب منطق الصراع، أو المنتمي القلق، كما أكد المؤلف من خلال قراءات عديدة لقصائده في هذه المرحلة، حيث انتقل مفدي من رصد البطولة الثائرة إبان الثورة إلى بلورة ماهية المتغير السياسي والثقافي والفني السائد في الجزائر وفي المغاربية بعد الاستقلال.
يصنف الانتماء عند مفدي وفق ثلاثة مستويات، تبعا لمراحل تاريخ الجزائر منذ الاستعمار ومرحلة النضال السياسي والحزبي إلى ثورة أول نوفمبر/ تشرين الثاني إلى ما بعد الاستقلال فهو قبل الثورة المنتمي القلق الذي أدرك خذلان السياسة لمطامح الشعب في التحرر والانعتاق، كما أدرك ووعى الصراعات المذهبية والحزبية لبعض الوجوه التي زادت الطين بلة، والمأساة تفاقما في حين يأتي الزمن الأخضر، كما يسمه أبو القاسم سعد الله زمن المنتمي المزدهي بانتمائه وعناصر وطنيته، المندغم في الكفاح والفعل الثوري، إن هذا المنتمي هو الوجه الآخر للهب المقدس والمعادل الموضوعي له، فحيث تكون الشهادة والكفاح، ونوفمبر يكون الانتماء المزدهي بهذا الزمن البطولي والملحمي، أما بعد الثورة فهو وجه المنتمي المنكسر، الذي خذلته أحلام التحرر والوحدة المغاربية بسبب إكراهات الواقع السياسي ومتغيرات الثقافة بعد الاستقلال. وهذا ما نجد صداه واضحا لا يحتاج إلى تأويل في شعر الشاعر في هذه المرحلة:
فكم عشنا تدغدغنا الأماني
فتذكي في مشاعرنا التهابا
وتنعشنا وإن لم تعد حلما
وتروينا وما برحت سرابا
لعل غوامض الأحلام يوما
تصير حقائق تجلو الضبابا
فكم ظللنا نغرد فوق غصن
بلا ثمر ونظمأ لا شرابــــا
فمفدي كما يكتب المؤلف لا ينتمي، حين يدرك أن العلاقة بين زمن الثورة وزمن الاستقلال قد حلت بها تشوهات وحزازات واختلافات حزبية وأهواء سلطوية فهو مربوط دائما بزمن الاستقلال وزمن الشهداء.
لقد كان الانكسار في تجارب الشعراء المجايلين لمفدي بعد الاستقلال واضحا، وخص بدراسات ومقاربات نقدية كما في تجربة مصطفى الغماري وأبي القاسم سعد الله، الذي كتب عن المفارقة في محنة الانتماء ووطن الهوية (المفارقة المؤلمة التي جعلت وطن الانتماء ووطن الهوية حلما انتظرناه طويلا، لكنه لم يتحقق، والسبب متغيرات حضارة سلبية حضرت بعد الاستقلال فعملت على دحر الشاعر وقهره وتغييبه. ونتيجة الغياب اغتراب يتحول فيه الوطن والحرية واللغة والحياة إلى عالم الداخل بعيدا عن الواقع).
لقد كان الصدام بين المنحى الشعري والسياسي والثقافي بعد الاستقلال فكانت المأساة كما كتب محمد ناصر (لقد استمرت الحملة ضد مفدي قاسية رهيبة، بلغت ذروتها حين وفاته بسكتة قلبية غريبا ملاحقا. وضرب حول حياته ونضاله سياجا من الأسلاك الشائكة بلغ حدا خيل للناس معه أن أي كلمة تقال عن مفدي تعد مجازفة وتهورا).
حياة غنية –كقدر لا محيد عنه لشاعر الثورة– بالمؤتلف والمختلف وبالانتماء المأساوي القلق بعد الاستقلال الخاضع للمتغيرات السياسية والثقافية، وعلى الرغم من ذلك يحاول هذا المنتمي المنكسر الانتماء الفني الذي يمثل السلامة والطمأنينة وإن تعددت أصواته وهو انتماء لشعر الشاعر وعبقريته الفنية وحسه الجمالي وذائقته الأدبية واستنادها إلى تراث شعري سلفي عربي، هيأ له نوعا من السكينة والسلوى بعد قلق الانكسار والخذلان، وكأنه يقول بلسان المتنبي:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
عايش مفدي زكريا كوكبة من الشعراء الجزائريين، وهو وإن كان ينتمي إلى مدرسة الإحياء والكلاسيكية، وكان للرومانسية التي يمثلها أبو القاسم الشابي مريدون ومتلقفون لعطائها، ومبدعون على هديها، على الرغم من تعنت الاستعمار ومنعه تعلم العربية وتضييقه على الصحافة العربية وقد كانت المطبوعات والجرائد المغاربية والعربية تهرب سرا إلى الجزائر، أيام الاستعمار، ومن شعراء تلك المرحلة المجايلين لمفدي زكريا محمد العيد آل خليفة، أحمد سحنون عبد الرحمن بن العقون، أحمد معاش، محمد جريدي، حسن حموتن مبارك جلواح، وكلهم تمثّل الهم الوطني قبل الثورة وأثناءها وبعدها، على اختلاف في الرؤية والصياغة الفنية والحمولة الفكرية، ويتميز مفدي زكريا بزمن خاص زائد عن أولئك الشعراء هو زمن الإلياذة، تلك الملحمة الشعرية التي كتبها بعد الاستقلال بسنوات عديدة والتي خلد بها كفاح الشعب في زمن الثورة، رغم الخيبات التي جاءت بعد الاستقلال، حيث تراجع الثقافي لحساب السياسي ودخلت الحزبيات والمصالح والأيديولوجيات لتحدث شرخا في مرحلة ما بعد الثورة.
(بهذه الكيفية من الحزن والألم تطفو الجمل الشعرية على سطح القصائد كلما سمحت ذات الشاعر أو سمح الانتماء الفني بذلك، إذ لا ننسى أن مفدي ينتمي بشعره إلى المدرسة الإحيائية أو الكلاسيكية، وفي الانتماء صورة لذلك الالتزام بقوانين المدرسة التي منها الانتصار لعالم الظاهر المؤيد بصوت العقل بعيدا عن سلطة الوجدان).
انتحى الكتاب منحى أكاديميا التمس العمق واللغة الاصطلاحية والجدية والرصانة الأكاديمية في مقاربته لثيمة الانتماء بأطيافه كافة، عند شاعر الثورة الجزائرية.