على مر الزمان، فوق بساط الخمائل جنوب شرق سبيكة الرمال، وثلاثينات المئة المنصرمة، تمخر نهر الحياة، وراء الكلإ، اثر نث رج مكنون الأرض، كان وتد الخيمة، استراحة قصيرة، ضمن فضاء فسيح ممتد، تتعانق فيه الأرض و السماء قبلات دافئة، يحفها عبير نسمات طرية عبقة، استعدادا لترحال في الافق، يروم العشب الأخضر الخفيف الظل، المدر لحليب ولبن و زبدة وسمن، ثغاء رعي، على قفقفة برد و سيل عرق، و رياح بين الفصول، دون حواجز تلطف من حدتها.
ارقية وبعلها اعلي، شخصان مختلفان مؤتلفان، يتقاسمان الفراسة والصبر والمواجهة سلاحهما في وجه شظف الايام.
ابتسمت الدنيا لارقية، بقدوم مولود ذكر، اُختير له اسم عمر، سيكون السند الأول، ثم ابراهيم مؤنس وحدة أخيه، وطورا ثالثا تشرق أسارير الأم والزهرة نغنغة تصدح، وكمنجة المنى أن تضيء الليل وشعلة النهار بعث نار الموقد، جمرة تحت الرماد … كل شيء في الرمال البرتقالية ابتسامة شريط مزركش سرعان ما يذبل، يأتي الحسين والأب توارى التراب جراء غدر ماكر.
ارتبط الصغار بأمهم، فهي الأب الذي لا تحتفظ رفيفات ذاكرة البكريين، بأية صورة، ولو باهتة القسمات، وهي الأم التي إسناد إليها الأولاد وكل متاع الاسرة، على مر الزمان.
عمرت غمامة سوداء مترامية الأجنحة سماء ارقية وفراخها، اللذين لا يعرفون معنى موت أبيهم الذي بكته عيون كثيرة.
تجردت الأرملة واعتمدت على ذاتها في تربية الأهل والذود عنهم، وتدبير يومها المضني بالأعمال الشاقة، على حراسة منها، يرعى القطيع المتناقص، إليها يؤول توريد القِرَبِ شربة ماء ولقمة عيش، والمغزل أنفاس ناي يشدو رقصة دائرية، تدندن أوتار نسيج، حمى برد، غطاء وجلبابا، ومع صياح الديك تطلب الحطب، شعلة لا يجب أن تخمد، إلى لسانها تمد الأيادي وتزحف الأقدام.
ترعرع عمر وابراهيم، وباتا يرعيان الجديان، ثم التناوب على ما أبقاه الجدب والذئب واختلاس الغفلة والعثرة وكسر حجر طائش، والبيع تلبية للضرورة اليومية، من ثمر وحنطة، وتقادم أسمال طرزتها الأم رقعا، تفي بالحاجة إلى حين الإطلالة النادرة للجديد. والسماء مرآة صافية، استقرت العائلة جوار مناجم الرصاص، تلتقط وتغربل فتات الكثل الصغيرة والمتوسطة، عمل تهافتت عليه الأرامل واليتامى والعجائز والشيوخ.
بعد غياب لسنوات طوال، بدأ الفرح خجولا متعثرا يختلس إطلالته الخاطفة إلى بيت ارقية، في غرفة متوسطة وأخرى كمطبخ صغير، خطفتهما السواعد من فم الواد عملا مشتركا بين الأقران، قطرا انزاح على سفح الجبل الصخري.
في سباق ورفيف الزمن، وحفاظا على الزرع والزريعة، وبريق اليدين كحل على كل اردية الجسدين الغضين، من الوجهين الى أخمص الأقدام، وتوددا لفرح يكنس عبوس الرحلة، في عرس جماعي خفيف، زوجت ارقية عمر وابراهيم والزهرة.
تبقى الأم وحيدة، وقد حلق تباعا أولادها، خلف عملهم هناك وهنالك، وهم تطلع مستمر نحو والدتهم مكتوبا أبيض باطنه بحر يكمش ورقة ترابية اللون مع سطور رمادية، بصعوبة يتهجى أحدهم كلماته القارئة السلام ودراهم قليلة في الطريق إلى الأم الحنون… ثم الزيارة عما قريب، وأحيانا أخرى إلى أقربهم فالذي يليه تطرق الباب، لتعيش لحظات مريحة، يكدر صفوها عدم وجود مجايلة لها، بينهما يسيل الكلام حكايات وحكايات، ما يجعلها فريسة انطواء فتستعجل العودة.
عجزت ارقية القوية، فهب إليها الحسين محتضنا إياها، مع تواصل زيارة باقي الأخوين و الأخت… كأن الزمان لم يستنفد غيظه نحو هذه المرأة العظيمة، فأبى إلا أن يعضها بنابه الحاد، و كبريائها يكسر مرضا عضالا، انتقاما من تحديها الكبير و نجاحها الباهر، وقد بلغت أيتامها شاطئ النجاة، و صغارهم يسعون حروف المجد هدية لها، و هي المدركة لسحر الحروف و الباحثة عمن يفك مدلولها أول أمس ، انقض عليها المرض و أرداها مشلولة، تماما كما يأتي الوحش الضاري فريسته، و قد أسقطها أرضا لينهشها على مهل… جالت المكان نظرة أخيرة، و ابتسامة ارتياح حلوة تزين محياها النظير، وفي هدوء و اطمئنان أغمضت حدقتيها الحالمتين دوما بما هو أحسن و أجمل.
بين الآباء والأولاد يسترسل على مر الزمان إكبار رميم ارقية، وهي الغائبة الحاضرة منذ ما يربو من نصف قرن وإلى الأبد، وكأنها حية ترزق، فلا يموت أبدا من يرعى الورود والأشجار..
نامي…
نامي أمّا ارقية
يا من
لا توفيها الكلمات
مهما تهاطلت
سبائك ودرر
يا أيكة كبرى
لروحك السلام
يا اغنية الأمان والسلام
رحلة ألم وأمل
نامي وارتاحي
فكبة الحياة
خيط منصرم
ينثر شموخك
بزوغ كل ليمونة
وبنفسج القمر
وهج رمان
يشتل دروب الزمان.