قراءة في ديوان شعر “للقصيدة ظل آخر” للكاتب والشاعر العراقي يونس علي الحمداني / بقلم: ذة. باسمة العوام / سوريا



صادر عن دار أوستن ماكولي للنشر م.م.ج / الشارقة 2020

لكل شيء ظلّ؛ وكل الظلال تقتات من رغيف الشمس إلا الظل الذي لم تكشفه شمس وكما يقول شاعرنا في قصيدة “الظل” التي ربما أستمد منها أسم عنوان مجموعته:
مع ظلي.. أتبعه
بحثا عن آخر لم تكشفه
شمسٌ
وكل ظلّ يزول، إلا ظلّ حروفٍ تقتات خبز الأماكن وخضرة الحقول؛ هذه كالمدن مهما تلاشت، يبقى شيء منها ذخراَ للأبدية. هي كالقصائد تعتصر الروح، تشرب الندى، تنشر رائحة الزمن العتيق بظلاله وشمسه، بصمته وظلامه، بفراغه وزحامه وأصابعه المغروزة فينا، تستلّ من كبد السطور سيفاً على غمده أشياء لا يقولها إلا الشعراء الحقيقيون. فأيّ ظلّ مختلف للقصيدة في ديوان شاعرنا “يونس علي الحمداني” / للقصيدة ظل آخر /؟ وأية قصيدة تلك التي تحتفظ بظلّها؟ ومن هو صاحب ذاك الظلّ؟ وأية معانٍ مختبئة وأي فضاء سيحمل مشاعرنا وهي تجول بين السطور أو ما بعدها؟ فالشعر كما عرّفه “ديلان توماس”: “هو ما يجعلك تضحك، تبكي، تحترق، تصمت، هو ما يجعلك تلمع أظافرك أو تسنّها، هو ما يجعلك تريد أن تفعل هذا أو ذاك أو لا شيء. هو ما يجعلك تعلم أنك وحدك في العالم المجهول. هذا نعيمك والمعاناة مشتركة للأبد، والأبد ملكك بالكامل هذا هو الشعر”.
” للقصيدة ظل آخر” ديوان شعر أهداه كاتبه “يونس علي الحمداني” كما قال

الإهداء:
إلى الحب الأول في حياتي…”
تلك المرأة التي زرعت أيامي بالشعر، وجعلتني أهواها رغما عني، وأنا مكبل بالقيود
والغموض”
من الإهداء ، نستشعر أننا سنحلّق في عالم الحب الحقيقي، عالم الجنون والهدوء والجمال والزهد؛ نقرأ عن أرواح مكتوبة بحروف وأبيات، نتذوق صوتها، نفككها، نركبها، نتبع ظلها المتمدد بكل تصوراتنا؛ وبعد قراءة المقدمة التي يخبرنا فيها الشاعر ذاته عن ثيمات قصائده، وهي قصائد كتبت في فترات مختلفة من حياته وتجربته حاول أن يغطي تجربته منذ ان شهق القصيد موهبة، عن زمانها ومكانها ومعانيها المختبئة خلف المعاني البارزة بالأحرى عن ظلالها، عن توحد الشعر بالفلسفة فيها ربما بالزهد اكثر، نبحر بين سطوره لنكتشف تلك الرؤية التي ألبسها لقصائده، والفلسفة العميقة التي تحث القارئ على البحث والتدقيق والانفتاح على عوالم فكرية وقيم جمالية ليست مقيدة بحدود الذات كونها تشمل الحياة، بل واعية للآخر والمجتمع ولكل ما هو محيط. ومع أولى القصائد، نتذكر شكسبير ولغة شكسبير؛ نقرأ الفلسفة والحكمة ونكتشف آفاق دلالية مختلفة بقصيدة حوارية لها ظلها المختلف “الشاعر والكاهن”:

“قصيدة” الشاعر والكاهن في:

الكاهن:
نشيد هذا.. أم حكمة عتيقة؟
الشاعر:
نشيد أناشيدي إذا ترنّمتُ بها
دموعٌ ضاحكة من غير تعبيس
أرتلها ترتيلا صارخا وأشدو بها
فهي في قلبي سرُّ حبيس…….”

وفي مكان آخر من القصيدة نفسها يقول الشاعر للكاهن:

“أتدري أن أعظم البكاء صمت
لا تحضره النداباتُ والنائحون
إن من يمت ويدري ما الممات
لا يستحق البكاء من النمّامين”

ثمان وتسعون صفحة، ضمت بين طياتها ثمانية وثلاثين نصاً بصور مكثفة تكشف عن دلالات مختلفة في بناء شعري جميل، يترك القارئ على شواطئ التجريد تارة، وتارة يلقي به إلى العمق الموغل. نقرأ مثلا
ص22.. قصيدة “مرايا”:

عندما كنا صغارا
ابتسم الكبارُ
في وجوهِ مرايانا
فكانتْ تلك المرايا
لوجوهِنا قنديلا
كانت للحياةِ وجوهٌ
تنبض في مرايا
الماء.. كانت
شعلة في صدرِ أمي
تشق الحجرَ الصوان…..”

وبين ظلال المعاني، نتوقف لنستظل بعطر سيسبان وآثل (أشجار شوكية مقاومة للجفاف، تتكيف مع عوامل الطبيعة وجذورها ضاربة عميقا في الأرض)، نبحث عما يخفيه الزمن، نتحسس نعومة المكان ولمسة الخلود في الذاكرة كما في ص25 من قصيدة ” عالم الزهاد:

“دع الجَبِينَ الوضّاء يدسُ أنفه
في حكمة الآتي يتفصد
يخرجُ من رمادِ تجاربه ناراً
بصيصا لمَن لم يعيشوها
وفي ملامح الوجوهِ
وفي الذاكرة عِطر سيسبان
وأثل..
لم يعد كما كان يتردد على
دهاليز الأحلام”

ويبدو أن ظل القصيدة ما هو إلا انعكاس ذات الشاعر وكل الأشياء التي رافقته في مراحل حياته.
قصائد تمحورت حول حقول دلالية وفلسفة عميقة شكلت فيها الصور والأفكار العميقة والحكمة بنيانا شعريا مفاتيحه الذات بماضيها (كذكريات) وحاضرها (بالمعاناة والوجع والأحلام) ومستقبلها (بالقلق والتوجس والأمل) وكل ما يؤثر بها من انفعالات وعواطف وتحولات، وتبقى ثيمتها الأساسية الحب وهو يرفل بالفلسفة. حوارات بين ذات الشاعر وقصائده لتدجين تجاربه، وسيل كلماتٍ متداخلة فيما بينها وبينه، تتخللها موسيقى داخلية لها وقعها وأثرها على النفس؛ وكلها يرتدي ثوب الفلسفة والحكمة المزخرفة بالشاعرية والعاطفة الصادقة والمشاعر الهادئة المتزنة والهادفة وربما هو هذا الذي قصده الشاعر بالظل الآخر أي ما يمكن تصوره من وراء المعنى الظاهر فلسفيا. صور جمعت الحسي والمجرد لتكون وسيطا بين القصيدة وقضايا الشاعر والكشف عن الطبيعة الحاضنة للحياة والتي تمسك بتلابيب العقول، ولا يمكن للمتلقي إلا الوقوف عندها طويلا ليكتشف أنه كان يستشعرها في حياته لكنه عاجز عن احتوائها ومجاراتها والتماهي بها. نقرأ في الديوان، مزيج من الحقيقة والخيال، وفلسفة الوجود والحياة في كل زمان ومكان. نقرأ بإحساسنا أكثر مما نقرأ بعقولنا، نقرأ شيئا للحب، للوطن، للطبيعة، للجنون، لعالم الزهد، وللإنسان، كل إنسان

في ص59 … قصيدة “رثاء”:

أحبكِ
وأنتظر حُبكِ كأنهُ
وكأنكِ لم تولدي
كأنه لم يولد شعاعٌ سرمدي
يشق صدري……..”

وفي ص57… قصيدة “قلب الشعر”:

لا أقولُ الشِعر لتقرئيه”
فالشعر وجداني
وإنكِ يوما ستقرئيه
لا أنشد القصيد لتكتميه
تشربه عيناكِ زمان تيه
سافري فيه مثل أغاني الغَجَر”

ص63 … قصيدة “عراق 2007”: وفي

“يا عراق
حزني عليك حُزن ثكالى
مرّوا عبر القناطر
وسلكوا المُنحدرات الوعرة
عرّجوا شمالاً ويمينا
تحت المطر والدموع……”

وفي ص79\80… قصيدة “فيما قال الهدهد”:

كان الهدهدُ جذلاناً.. قال:
إن الهوى حرامٌ على طيورنا
حلالٌ على طيورِ الظلام
وقال: ما أحلى وادينا
لكن غادرته الغزلانُ
وما أحلى الأصيل
لكنه طعن خاصرة النهار”

وفي قصيدة “ايها المجنون” ص 93:

“أيّها المجنونُ بحبِ الجنون
وأنت أحلم من صابرٍ مفتون
أنا أباري براري شطحاتك
فربّما أرى فلسفة وجودي
قُبالة دارك”.

الخاتمة
“للقصيدة ظل آخر” مجموعة شعرية أو ديوان مليء بالإيحاءات والدلالات، بالتخيلات والتأملات، بالخواطر والتصوف والفلسفة والصور المرسومة بكلمات مغموسة بتجربة عميقة. قصائد مشحونة بالعواطف والانفعالات منغمسة بتفاصيل الحياة الخاصة بالشاعر والشاملة للآخر الذي من الممكن أن يرى نفسه او ظله فيها. ولم يكن عنوان هذا الديوان “للقصيدة ظل آخر” إلا سيمفونية لغوية تفاعل فيها الشكل والمحتوى؛ القصيدة وظلها، والكلمة ومعناها.
وكما النرجس.. لا يعرف أسراره إلا بائعه؛ والأماكن.. لا يعرف سحرها إلا من حضنته شغفا؛ هكذا القصيدة.. لا يعرف غوايتها إلا من قدّ حروفها وتفيّأ بظلها؛ ويبقى منها شيء مختبئ في قلب الشاعر إلى الأبد، ربما شيء من ظله أو ظل قصائده.

ذة. باسمة العوام / سوريا



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *