في منتصف ليل صيفي حار، ومضخة الضوء طيلة بضع ساعات، مجهدة تنفث آخر أنفاسها، وقد ساد الظلام الدامس هدوء الأزقة والدروب، على سطح مرشوش أول غروب الشمس، استلقت أم وصغارها، استجداء نسمة لطيفة تجود غفوة مريحة، كدرت صفوها نغنغة رضيعة، تكالب عليها الحر و الجوع، فتحركت تطلب ثدي أمها المستجيبة همسا حانيا، أتى على ما تبقى من وهن الكرى، في عيني ابنها سعيد، الغض الأسمر، ذي الستة ربيعا، النحيف والقصير القامة… استغل يقظة الأم فزحف يسعى شربة تطفئ ظمأ الليل، وإلى جوار ممتصة قلب أمها جلس وعيناه تتأملان سكون الليل وجناحه المخيف، في زهو يلف كل أوجه الحياة… لتهربا وتحتميا بفنانيس السماء…
قبل معانقة الوسادة الرخوة، لفت نظره تواجد غريب، يطل كقط عبر ثقب الممر المنحدر، في محاولة الولوج إلى الغرفتين المتداخلتين… من بين شفتين رقيقتين، مازالتا تحتفظان ببعض البلل، في دهشة وخوف مرتعدين استنجد سعيد بأمه المتعبة الغافية، وحيث لا جواب كانت المحاولة الثانية تقض المضجع إطلالة رجل، يمد رأسه ثم يسحبه موحيا بشطحات الخيال والوهم… مذعورة، ومن ثنايا نوم ثقيل صدرت همهمة الأم وقواها خرقة متلاشية، إلا من لسان يغالب جفاف الحلق، وهو يردد البسملة تهدئة لها ولطفلها سعيد وألا شيء هناك… لكن سعيدا قطع دابر الكلام، ومؤكدا:
-انه لا يحلم، وانه رأى رجلا طويل القامة يتحين اختلاس العبور إلى الداخل.
بصعوبة، ومشقة، وبعد مدة غير قصيرة، تحركت الأم وقد أصحت بكرها، شبه الميت، نظير شغبه ولعبه طيلة النهار الممتد الأطراف، حتى إذا ما غربت الشمس، رحل في سبات عميق بمعدة تود لقمة العشاء.
كدجاجة، تقوت الأم بفراخها، فجابوا الغرفتين على دموع شمعتين ذاب نصفاهما، فتبينوا متاعهما القليل البسيط، فكل شيء في مكانه، فلا بعثرة أو نبشا، وأن حقيبة الجارة عائشة، كنف صفيحة لماعة مصونة محفوظة، لم يطرأ عليها أي طارئ، على ذراعين من نصف كيس دقيق، وتحت حبل بمثابة خزانة لملابس بالية.
استرجعت الأم بعض الهدوء، المحفز على إتيان بقية البيت، جولة متفحصة، فالباب الخشبي، دفة واحدة، سهلة الاختراق والانكسار مغلق… في حيرة واضطراب، وصمت، سال وابل من الأسئلة، فك عقالها في قلق ضجر نفذ صبره:
-ومن أين دخل…؟
حول صينية الفطور النحاسية المشعة شمسا مشرقة، يتربع براد متوسط الحجم، وأربعة كؤوس مدفون، في سند من زليفتي خشب تساعدان على تبريد الحريرة، لذة وشهية غائبتين.
أثير حادث الأمس الممثل من طرف سعيد، تمثيلا بارعا، على موطئ قدمي اللص الذي كان يروم استغفال العينين الحذرتين الثاقبتين، في استجابة لإغراء النوم.
بعد أن تبينت الأم القامة الطويلة، واستجابة لرغبة العيون الصغيرة، في المزيد من الكلام، أردفت تقول، بعد ربط حلقة الحدث بما قبله:
-زارتني ضحى البارحة، الجارة فلانة، وأنا اقطع قدح العجين وألولبه، فكلمة منها، وأخرى مني: عن الأحوال والأحباب والأهل، التفتت في صمت جاب الغرفة نظرة شاملة، ومتسائلة في استغراب شديد:
-أليست هذه حقيبة…؟ وما سبب الخوف عليها؟
بكل عفوية ردت صاحبة العجين، وهي تستودع الأمان غير محله:
-فيها أغراضهم وأوراقهم ورزقهم.
على وقع رزقهم هبت المرأة الشابة الرقيقة المحبة للهزل واقفة، وقد أدارت الفكرة في رأسها سهوا خاطفا استظل رموشها وبحر عيونها العسليتين سبح منتشيا، متدرعة: انه وقت الشغل ولا داعي لكأس الشاي رغم إلحاح صاحبتها.
خلصت دردشة الفطور إلى أن زائرة الأمس الكثيرة القيل والقال مع السؤال، والحديثة العهد بالزواج بعلا مسرفا، سجارة ولعب أوراق وسهر يستنزف دريهمات الجيب، هي من أسرت لزوجها أمر الحقيبة، ومكان تواجدها، والسبيل إليها، عساها تفرج.
تسلق باب الرحى ثم نط على جدار متوسط الارتفاع وبعد ثلاثة أمتار أوقفه سعيد قبل البابين المشرعين… تنفيسا لهمها وغمها استرسلت الأم تقول: كان سيدخل ويتسوق على مهل ولا أحد يشعر به لولا لطف الله وحق الجورة، كشفه الله وما بيننا من ملح ونار ودخان وانه لا يقبل على سرقتك إلا من يعرفك، ويعرف حاجته ومكانها واللحظة المناسبة لذلك.