كنت اعتقد أن صباح 28/ 9 / 1970 سيكون صباحاً عاديا، شنطة المدرسة جاهزة والملابس مكوية والحذاء يلمع، هذا هو الطقس المدرسي اليومي، ووالدتي تعتبر هذا التجهيز والاستعداد ليس طقساً أمومياً فقط، بل جزءاً من الانتصار، فحين تكون المنافسة بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء حادة لابد أن تكون التجهيزات كاملة، خاصة نحن في مدرسة تطل منها ساحات الاستعراض وتحاول تكبير صور الفقر وتسليط الأضواء على الملابس والأحذية التي تتمسك ببقايا الألوان أو تتشبث الخيوط مع بعضها البعض خوفاً من التفسخ والاهتراء الكامل. نهضت من النوم واذ بأمي قد ربطت جبينها بمنديل أسود وكنا نعرف أن أمي حين يؤلمها رأسها تربط جبينها، وكان لها طريقة في الشد تبقى تشد المنديل حتى تصبح عيناها أشبه بالنساء الصينيات أو اليابانيات.
أمي لم تحضر طعام الفطور وهذا يخالف برنامجها اليومي الذي يبدأ بالتحضير للفطور، والدي يجلس قرب الراديو ويدخن بشراهة وهذا يخالف يومه، فهو يسافر يوميا إلى مدينة حيفا حيث يعمل، وجدتي الحازمة الصلبة كالصخرة تبكي بصمت، ستي شو في؟؟ سألت جدتي فوالدتي تنظر إلي أنا وإخوتي كأنها لا ترانا!
أجابت جدتي وهي تمسح دموعها – جمال عبد الناصر مات! كنت أعرف أن اسم جمال عبد الناصر يشكل قيمة كبيرة في بيتنا وصورته معلقة في غرفة الضيوف، وايضاً له صورة مع أولاده الثلاثة، وعندما كنت اتأمل الصورة اكتشفت أن هناك بعض الشبه بين وجه جمال عبد الناصر ووجه خالي اللاجئ في أحد المخيمات في لبنان، ولا أدري لماذا كنت أربط بينهما، يمكن لأن جدتي كانت تتكلم عن جمال عبد الناصر بلغة المنقذ والقوي والقادر على تحقيق المعجزات، وحتى يرجع خالي الغائب إلى حضن أمه لابد من معجزة، وقد تأتي المعجزة على يد جمال عبد الناصر… ارتديت ملابسي على عجل، لم تنظر أمي إلي كالعادة ولم تهتم بتمشيط شعري أو النظر إلى أظافري وجواربي البيضاء، خرجت من البيت متوجه إلى المدرسة في منطقة العين في مدينة الناصرة، في الطريق وأثناء المشي للوصول إلى المدرسة، رأيت عشرات الرجال يقفون أمام المحلات والدكاكين وعلى الأرصفة، هدوء يتخلله بعض الزفرات أو شتيمة تخرج من فم أحد الرجال تريد تلخيص فكرة العجز أمام الموت، ودخان السجائر حلقات تتغلغل بالوجوه العابسة، التي تنطق بتقاسيم الاستغراب والشك وعدم التصديق.
وصلت ساحة العين وإذ بجميع طلاب المدارس يقفون هناك، يغطون عين العذراء والشارع الرئيسي والأشجار والبيوت والدكاكين، وفجأة يبرز أحد الطلاب الكبار ويصرخ بصوت عال:
كل واحد يروح على البيت ويشلح أواعي المدرسة ويلبس أسود بدنا نعمل كمان ساعتين جنازة رمزية… ولا واحد يروح على المدرسة ولا واحد يرد على حدا.. ما بدنا نتعلم..!!! عبد الناصر مات وأخذ يبكي، من بعيد رأيت مديرة المدرسة وبعض المعلمين يلتفون حولها، لأول مرة لا أرى العصا بيد المديرة، ثم رأيتها تدخل المدرسة وتغلق البوابة الحديدية.
رجعت إلى البيت كي أرتدي الملابس السوداء وجدت الجارات يبكين وإحدى النساء تقف في الوسط وترقص رقصة الموت وتغني بصوت حزين وتعدد صفات عبد الناصر.
فتشت في الخزائن عن قميص أسود، لم أجد إلا قميص أخي الذي يصغرني بعدة سنوات، أغلقت أزراره بالقوة، رجعت إلى ساحة العين وإذ ببحر من البشر يموج بالسواد ونعش رمزي يحمله بعض الشباب ولم تعد المسيرة طلابية فقط، بل اختلطت السنوات والاعمار، رجالاً ونساءً، شباباً وشيوخاً، كيف أتوا ومن أين؟ لا أعرف، قامتي الصغيرة تزاحم الكبار وتحاول الوصول الى قرب النعش، سرنا ببطء، والنعش يتوسط الجنازة والجنازة تقطع الشوارع والطرقات، وخلال القطع ينضم العشرات.
تمر هذه الأيام ذكرى أكثر من نصف قرن على هذا اليوم الكئيب الحزين ومازال الحدث يخرج من البوم الذاكرة مجللاً بالمشاعر الحزينة، وكلما كبرت سنة أتساءل بيني وبين نفسي كيف استطاع هذا الموت أن يدفع الطلاب والشباب والشيوخ والنساء إلى رفضه والخروج في حالة هستيرية باكية متحدية البعد الجغرافي حاملة وجه القائد؟ كنا نشعر أن هذا الموت فيه موت للكثير من القضايا والهمم.
ما زالت صورة جمال عبد الناصر معلقة مكانها مع أنهم جميعهم رحلوا، أتنهد.. أذكر كلما كانت أمي تمسح عنها الغبار تردد الله يرحمك يا ابو خالد، وإذا أرادت أن تعبر عن قرفها من وضع العرب، تتنهد وتشير للصورة (بس لوكان جمال عبد الناصر موجود) توفي خالي الذي كان يشبهه ودفن في الغربة وتوفيت جدتي التي كانت تحلم بعودة ابنها، وتوفيت والدتي ووالدي ومعظم رجال ونساء الحارة، وكلما مرت ذكرى وفاة “جمال عبد الناصر” أشعر كأنها البارحة أتخيل لو يموت اليوم أحد الرؤساء العرب هل ستغلق المدارس وتقوم الجنازات الرمزية ويفيض النهر البشري؟ لا أظن …