علم فريدريك دوغلاس أن معرفة القراءة والكتابة هي الطريق من العبودية إلى الحرية، هناك أنواع عديدة من العبودية وأنواع كثيرة من الحرية، لكن القراءة لا تزال هي الطريق. “كارل ساجان”
القراءة متعة وللنص لذته كما ارتأى بارت في مؤلفه المشهور، فهي تحررنا من آصار الواقع وقيود الضرورة وبقدر ما يمارسها المرء بقدر ما يمارس إنسانيته ويستشعر مضمونها. يحررنا العلم من هيمنة الطبيعة ويمنحنا حرية، فهو ييسر حياتنا ويحفنا بالرفاه، لكنه لا ينطلق بنا إلى آفاق عليا في دنيا التأمل وسماوات الروح، حيث المعنى الحقيقي للإنسان وذاك ما يتيحه الكتاب، اللوحة، اللحن، الشكل، نتحرر بكل هذا الإبداع من جاذبية المادة وكثافتها إلى رهافة الوجدان ودقة الشعور ونبالة الحس.
وبقدر ما يقرأ الواحد منا ويقبل على مختلف أشكال الإبداع، ويرهف السمع لمقطع موسيقي يراكم خبرات، يختزن أفكارا أخرى ومشاعر، وكل ذلك يبني ذاته ليكون متفتحا قابلا للآخر المختلف لا المؤتلف فقط، إنه يصنع هويته فالهوية صناعة وليست شيئا ناجزا، وكما كتب أمين معلوف، فالهويات الناجزة المغلقة قاتلة. فهي تبنى ومواد بنائها الاختلاف، التعدد، التناغم التسامح، قبول الرأي المضاد، روح السؤال والتحري، التواضع العلمي، لا التنميط والواحدية والجاهزية والقولبة والرتابة والسكون فكل ذلك موات في موات.
فالرحلة في الكتاب وفي اللوحة وفي الشكل وفي اللحن، ترينا صورتنا في مرآة الآخر فالآخر ليس إلا ما كنا سنكونه مثلما يرى هو صورته في مرآتنا، فتغدو المعارف والأحكام تتسم بطابع النسبية والتواضع المعرفي والاحترام، لا منطق الإلغاء والإقصاء والتعالي، ومن زمن كتب باشلار أن العلم ليس إلا سلسلة من الأخطاء والتقويمات ومن الندم بالمعنى الأبستمولوجي لا الأخلاقي، وصدق كيليطو حين عنون أحد كتبه، وهو يتناول سيرته الفكرية بـ «في جو من الندم الفكري» فبفعل القراءة ينحو المرء نحو التحول والسيرورة والصيرورة معا، وتغدو المطلقات والأحكام الجاهزة والقبلية بتأثير المحيط والتربية والمناهج الدراسية والمواعظ الدينية، أشياء قابلة للصرف والتحويل أمام منطق العصرنة والحداثة والنزعة الإنسانية، فمن لا يتجدد يتبدد، وتلك سنة الطبيعة وناموس الكون المطرد.
فالمطلقات ولى زمانها حتى في العلم الطبيعي، فمنذ طلع على العالم أينشتاين بالنظرية النسبية وهايزنبرغ بمبدأ الارتياب، انسحب ذلك على العلوم جميعها، فإذا كان قدر العلوم الطبيعية هو النسبية لا الحتمية فلا جرم أن يشمل كذلك الدراسات الحديثة في علم الإناسة أو الأنثروبولوجيا، فما كنا ندعوه ثقافة متوحشة وحضارة همجية لم يعد له في علم اليوم الحديث وجود، فقد نص كلود ليفي ستروس على أن الحضارات بنيات مغلقة لا تتفاضل بينها، إنها معطى جغرافي وتاريخي وإناسي تغني وجود الإنسان على هذه الأرض، وإن كان هناك تفاضل فلن يكون إلا في الفكر العلمي وفعالية الحياة السياسية، أما الثقافة فهي غير خاضعة لمنطق التفاضل.
وفي مقدمة كتابه الرائع «ساعات بين الكتب» نص العقاد على أن الكتب تتفاضل فيما بينها فهي كالناس منها الوقور ومنها الخائن والجاهل، وينبغي أن لا يقول الموجهون لمن يرغب في القراءة «اقرأ ما ينفعك بل انتفع مما تقرأ» وحدها القراءة التي تزيد معارفنا وتثري تجاربنا وتعزز إنسانيتنا وتوصلنا بالآخر المختلف، وفق جدلية الأخذ والعطاء وبذلك تتوسع حريتنا خارج المحلية ومنطق اللغة الواحدة والأفكار المكررة والمعرفة الجاهزة ومنطق التبجيل والتقديس وتستعيض عن ذلك كله بمنطق السؤال والشك والبحث.
وبقدر ما تمتنع المجتمعات عن فعل القراءة مهما كانت الأسباب –موضوعية أو مختلقة– بقدر ما ينمو لديها ورم التعصب ومنطق الجزم واليقين والتعالي والإلغاء، فيتسطح الوجود وتشح الخبرات، وليست العبرة بالرفاه ولا بالكماليات وعالم الأشياء كما يدعوه مالك بن نبي، فتلك حضارة «نصف إنسان» لا حضارة الإنسان.
تبقى الرحلة بين الصفحات من أمتع الرحلات فبفضلها ينسلخ المرء مؤقتا عن محيطه، ويتحرر من قيود الواقع وآصار الحس وقيود المحلية والعرف والتقاليد، ليندغم في تجربة فريدة، إنه يبتعد عن محيطه وناسه ليزداد معرفة صحيحة بهم أقرب إلى الموضوعية والصحة، حين يرى الصورة في مرآة الآخر ويرى ما عند الآخر المختلف من خبرة ومعرفة وثراء، ومن زمن كتب صلاح عبد الصبور لناس وطنه:
وحين يغور نجم الشرق في بيت السما الأزرق
إلى بيتي
لأرقد في سماواتي
وحيدا.. في سماواتي
وأحلم بالرجوع إليكم طلقا وممتلئا
بأنغامي وأبياتي
أجافيكم لأعرفكم
فهذا البعد بالمعنى المجازي، وليس شرطا أن يكون غربة مكانية، بل هو ترحال بين المعارف والشعوب والثقافات يتيح مزيدا من المعرفة الصحيحة والنسبية والموضوعية ومشاعر الاحتفاء بالآخر باعتبار ذاك المنجز إنسانيا.
ذ. إبراهيم مشارة / الجزائر
المصدر: القراءة تحرر (alquds.co.uk)