السرد بنية متجذرة في الخطاب الأدبي نثرا كان أم شعرا وإن كان بشكل أقل، ولا يقتصر على جانب دون غيره، لأن الإنسان منذ القديم يميل إلى الحكي وإلى الإفصاح عما يجول في خاطره للكشف عن رؤيته للأشياء وتحديد علاقته بمحيطه. والرغبة في البوح مسالة فطرية في الإنسان لا يمكن تجاهلها، هذا ما يجعل الشاعر أحيانا يلجأ إلى اعتماد السردية في خطابه لما لها من إمكانيات للبوح بكل عفوية وتبليغ رسائله بكل تلقائية خصوصا إذا كانت كتابته تميل إلى النزعة الدرامية، والغرض من ذلك هو توسيع آفاق النص(1).
منذ الوهلة الأولى يتضح أن النص سلك مسلكا سرديا، إذ كما هو ثابت أن هذا المكون لم يعد مقتصرا على العمل الروائي والقصصي بل عرف امتدادا حتى شمل النص الشعري أيضا.
والسرد كما هو معلوم يستمدّ مفهومه من الحكي، ولا يمكن أن نتكلم عن السرد إلا في ظلّ قصّة،
حدد جيرار جنيت السرد بأنه “عرض لحدث أو لمتوالية من الأحداث حقيقية أو خيالية بواسطة اللغة”(2)، خصوصا المكتوبة منها.
وقد أطلق كريس بالديك Baldick Chris على هذا النوع من الشعر “الشعر السردي”، وعرفه بأنه “ضرب من القصائد التي تحكي القصة بطريقة مختلفة عن الشعر..”(3)
أما ابن طباطبا في كتابه: “عيار الشِّعر” نجده يقول:
“وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في شعر، دبَّرَه تدبيرًا يسلس له معه القول، ويطرد فيه المعنى، فيبني شعره على وزن يحتمل أن يُحشى بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به، أو تقصٍّ يُحذف منه، وتكون الزيادة والنُّقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غَيْرَ خارجة من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه”(4)
وهذا ما لاحظناه من خلال ما تبناه الشاعر حين تحول إلى راو يعرض علينا الوقائع التي مر بها منذ بداية التعرف على الحبيبة من خلال تصويره لمجموعة من الأحداث وما خلفته في نفسه من انفعالات باعتماد إيقاع موسيقي خاص وأساليب فنية جعلت من النص يحافظ على طابعه الشعري
بل نجد أن الطابع السردي يظهر جليا من العنوان ذاته “خانكِ الوقت” الذي شكّل منذ البداية بؤرة النص(5)
لما يختزن في جوفه من دلالات تستفز المتلقي لمعرفة ما سيأتي في أحضان النص من إيحاءات ودلالات لفهم المقصود من هذه البنية الصغرى والتي تعد بمثابة مفتاح لولوج عالم النص.
مع هذه الانطلاقة يضعنا الشاعر أمام تساؤل جوهري ما الذي حدث لهذه السيدة المخاطبة المحصورة بين بعدين زمنيين الماضي المتجسد في الفعل الماضي “خان” والحاضر المتمثل في الوضعية الجديدة التي تسبب فيها “الوقت” وكأن النتيجة باتت محسومة ولا كلام بعد ذلك.
العنوان هو عبارة عن جملة فعلية مكونة من فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر
قدم المفعول به باعتباره ضميرا مخاطبا مؤنثا وأن الخطاب موجه إليها خصوصا أما الوقت فيعود إلى الوقائع والأحداث التي مرت بها قبل أن تعود إليه.
البنية التركيبية للجملة تفيد بشكل تام أن بؤرة الحديث هي المرأة المعشوقة سلفا ولا يريد الشاعر أن يجعلها موضوع اهتمام بل من باب المحاسبة والمساءلة، والذي يؤكد ما ذهبنا إليه هي الرسالة التوجيهية التي تلفظ بها الشاعر عن قصد أو غير قصد بداية القصيدة خلال أول فترة دُوّنت فيها سنة 2019، دون أن يترك لنا لحظة تأويل أو استنطاق لمضامين النص حيث قال: (حين تأتي الحبيبة معتذرة بعد أعوام من الصدود).
فكيف يمكن لهذه الواقعة أن تتحول إلى بعد درامي داخل بنية القصيدة
وكيف يمكن أن تجسد لنا حقيقة الصراع القائم بين الشاعر والحبيبة
كلمة دراما يونانية الأصل تعني الحركة تمثلت في حدث للتعبير عن حركة هادفة ومقصودة لتبليغ رسالة معينة تجسد واقع الصراعات الإنسانية
وظهور الدراما في العصر الحالي جاء تلبية لمتطلبات الحياة الصعبة والمعقدة واندحار القيم الإنسانية وتمزق الأفراد والشعوب وهيمنة الصراعات المحلية والإقليمية والدولية. لذا وجد بعض الشعراء فيها ملاذا قويا للاستئناس بتقنياتها للتعبير عما يجول في خاطرهم باستحضار الأصوات المتعددة المتناغمة مع شدة التوتر والصراع الذي هو جزء مهم من العمل الدرامي، فالصراع هو الذي يحرك المشاعر ويثير الانفعالات سواء الداخلية أو الخارجية.
تعتبر جملة (حين تأتي الحبيبة معتذرة بعد أعوام من الصدود) بمثابة الفكرة العامة التي تناولتها القصيدة بشيء من التفصيل، هذه الجملة الحدث تلخص لنا التفاصيل التي ستلي فيما بعد والتي تظهر من خلال دمج العنصرين، المركزي الذي هو العنوان “خانكِ الوقت” والفرعي الذي هو الجملة التوضيحية التي يعود نشرها كما قبل ثلاث سنوات، والتي اختفت تماما مع التغييرات والتعديلات التي طرأت على النص في شكله الأخير الذي بين أيدينا الآن.
تتشكل القصيدة التي مطلعها صنتُ عينيكِ وردةً في سطوري، والتي نحن بصدد دراستها، من أربعة مشاهد تتشابك فيما بينها دلاليا وزمانيا، مكونة من مجموعة من الدوال المتلاحقة والمترادفة إيقاعيا رغم التنافر الحاد بين مشهد والذي يليه من حيث المعنى والدلالة، لكنها تتقاطع ثانية حين يعود الشاعر إلى المحطة الأولى التي رسمها من قبل فنجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام بناء لولبي زمنيا ومعنويا بين المشهد الأول والثالث اللذين خُصّصا للحديث وسرد وقائع وأحداث ومواقف تتعلق بالحبيبة التي عادت وهي تعتذر عما صدر عنها من صدود ونفور، ثم اعتذار ورغبة في تجديد الوصال بعدما كانت لا تولي أي اهتمام للشاعر، أما المشهد الثاني والرابع فهما مغايران تماما ومتقابلان مع المقطعين السابقين، تداول فيهما موقفه من ذاك الصدود وعدم الرغبة في الحوار والحديث عن الزمن الذي مضى آخذا معه كل الذكريات التي كانت بينهما، وما عاد متعطشا للقياها كما كان في السابق، مشيرا إلى البديل الذي أنساه كل ما كان يربط بينهما في السابق.
هذا ما جعل من النص بؤرة توثر منذ الوهلة الأولى بين شخصيتين، شخصية الراوي بصيغة المتكلم، العارف لكل ما يحدث، فهي التي تتحدث وتسرد وتقرر وتتنبأ لما هو آت، وشخصية صامتة غائبة لا دور لها في صنع الأحداث، ظلت حاضرة منذ انطلاقة النص في صوت المخاطب، تسمع وتتلقى الخطاب وان كانت هي بؤرة النص فكل الأحداث تدور حولها. أهم صفاتها رغم العتاب ونفور المتكلم منها أنها ذات جمال تقتني رداء الكبرياء. ورغم انقضاء زمن طويل عادت كالربيع.. لا تملك حق الدفاع عن نفسها، أما السبب الذي كان وراء صدها للشاعر وما سرّ عودتها هذه التفاصيل ظلت غائبة عن النص ويبقى للقارئ تأويلها كما يشاء، ورغم ذلك يبقى للمرأة دور قوي في نفسية الشاعر وتأثير واضح على شخصيته، يميل إلى الأنثى بشكل قوي من خلال الصفات الخارجية التي نسبها للمرأة، وكأنه يراها ملهمته الأولى التي تجعل شعرا متدفقا كخرير الماء العذب. فهي التي سببت له الحزن والبؤس في مرحلة شبابه، وهي التي جعلت منه أميرا يرى الحياة جمالا. ليبقى الشاعر أسير العشق الذي لا يكاد ينتهي، تقوده عاطفته إلى الجمال والى البحث عنه أينما كان.
ينطلق النص الذي نحن بصدد دراسته بمرحلة زمنية مهمة تعود إلى ما قبل الحدث:
يمثل صنتُ عينيكِ وردةً في سطوري
فاستبدَّت بعطرها المسحور
بينَ ريح العناد والصدِّ أو قل
بين ناريِّ زهوةٍ وغرورِ
ظلَّ طَرْفي على سبيل التمنِّي
زمناً يستشفُّ لحظةَ نورِ
قَدَري أن أظل في شفة الغي
بِ سؤالاً ولي كمالُ الحضورِ
هذا المقطع الفترة الخفية عن أنظارنا، أراد الشاعر أن يبرز هذه المرحلة عنوة بعدما كانت مهملة في النسخة السابقة من القصيدة، والشاعر هنا على وعي تام بما أقدم عليه الآن فله “كمالُ الحضورِ” ليعلن نهاية الأحداث التي مرّ بها والتي تركت انفعالا قويا في نفسه، بسبب الصدّ والعناد اللذين لقيهما من معشوقته السابقة ولفترة طويلة، أصابها الغرور، بل تمادت في فعلها مما أوجع قلبه أكثر (استبدت.. ريح.. صد.. غرور..) ورغم كل هذا العناد ظل صابرا، فعاد بنا إلى الوراء، وحدث هذا الاسترجاع بالاستعانة بأفعال الماضي التي هيمنت بالكامل على هذا المقطع، ليسرد لنا بعد الذكريات المريرة التي خلفت جرحا قاسيا في قلبه، ويكاد يحترق من شدة الوجع (ناريِّ زهوةٍ وغرورِ)، كل أمانيه أن (يستشفُّ لحظةَ نورِ) والجملة الفعلية هذه جاءت خبرا للفعل الناقص “ظل” للدلالة على ديمومة الانتظار والترقب زمنا طويلا، وكأن قدره أن يظل على هذه الحال: (قَدَري أن أظلَّ في شفة الغيب..) يتردد بين فينة وأخرى يسترق النظر لعله يحظى بالحضور الذي تمناه.
تميزت جمل هذا المقطع بطول النفس واستحضار بعض الكلمات التي تفيد الاستمرارية، معتمدا على التكرير الصوتي لبعض الحروف وكذا المدود الطويلة، معززا كل ذلك بقافية ذات إيقاع ممتد.
حتى وإن ظل هذا الغياب (الصدّ) حاضرا بقوة، وطال أمده، لكن الأمور ستتغير دون ذكر سبب العودة الذي يقتضيه السرد القصصي، وما الذي جعل الحبيبة تعود دون أن تتخلى عن غرورها وكبريائها:
وتعودين كالربيعِ بثوبٍ
مخمليٍّ مُنَمْنَمٍ بالحرير
وتبثينَ ما تجود قوافي
كِ بياناً على المدى المنظورِ
خانكِ الوقتُ ما أظنُّ طيوري
تَنْشُدُ الماءَ في الأوَانِ المَطيرِ
هنا يسرد لنا عودة الحبيبة:
(وتعودين…)
في الوقت الذي افتتح فيه القصيدة بفعل ماض يعود على المتكلم الذي هو الشاعر، نجد المقطع الثاني يتصدره فعل مضارع للدلالة على الحاضر مسبوق بواو العطف الذي يفيد التراخي بعدما انقضى زمن الماضي المثقل بالانتظار والتربص، مُشبها عودة الحبيبة بالربيع، هناك مقولة مفادُها أن “شخصية المرأة تتغير بتغير فصول السّنة”
فما الذي جعل مزاج الحبيبة يتقلب كل هذا التقلب لتعود في زي ربيعي؟
أصلا الربيع يعطي المرأة نوعا من الإحساس بالحيوية والاستقرار النفسي، والربيع يعني بداية موسم التخلص من الحواجز والعوائق التي خلفها كل من فصل الخريف والشتاء، يزداد الشعور بالأمل والتفاؤل، فالانفتاح على الطبيعة في فصل الربيع يخلف آثارا ايجابية في المتلقي وفي النفوس، وتتكاثر فرص خلق بداية حياة جديدة، عادت هذه المرة مزهوة بمظهرها الخارجي وطاقتها الحيوية المتجسدة في ثوبها الحريري اللافت للنظر، مقدمة اعتذارها عما صدر عنها سابقا، متلطفة بأعذب العبارات التي لم تلامس مشاعر الشاعر نظرا للجرح الذي لا زال يكتوي بناره:
(خانكِ الوقتُ ما أظنُّ طيوري
تَنْشُدُ الماءَ في الأوَانِ المَطيرِ)
هنا العلامة الفاصلة بين ما قيل في البداية وما جادت به قريحة الحبيبة كما يقول الشاعر بعد عودتها معتذرة له، لم يعد ذاك الشخص الشغوف بتتبع خطواتها والرغبة في معرفة مستجداتها، كيف يُنتظَر قدوم الطيور في اليوم المطير، هي في حاجة إلى الاختباء أولا، والهروب من واقع هول المطر الذي قد يسبب لها الهلاك والدمار..
هنا نرى بكل جلاء المفارقات والتقابلات الضدية التي ولدّها الصراع الناتج عن الصدود الأول، بدل أن تأخذ القصيدة منحى الصلح والعفو والاستمرار في التغزل باللحظة التي كان ينتظرها الشاعر من قبل، تتحول اللغة إلى شفرة رمزية ودلالات إيحائية ومعان مجازية (……. ما أظنُّ طيوري/ تَنْشُدُ الماءَ في الأوَانِ المَطيرِ)..
في هذه اللحظة بالذات – لا ندري كم استغرق هذا اللقاء من وقت، هنا بدأت تتشكل البنية الدرامية بوضوح، بروز جانب الصراع، والتباعد بين الزمنين زمن مضى بأوجاعه وحاضر أحيا حرقة المعاناة، بعدما كنا نتحدث عن المشبه والمشبه به (تعودين كالربيع..) نجد اللغة تتخذ منحى جديدا ضرب المثل واللجوء إلى الرمزية (.. طيوري..).. لما تحمله من مشاعر الحب والشوق أو مشاعر الحزن والألم، ويبقى ذكر الطيور بصيغة الجمع لتتسع توقعات الناس وتعدد مشاعرهم على اختلاف أنواعها ودرجاتها حسب تنوع أشكال الطيور ووظائفها الرمزية. فالشاعر كالطائر يعشق التحليق وارتياد آفاق جديدة، ولا يقع إلا على ما تهواه نفسه، فهو لم يعد ينظر إلى الوراء ولا إلى مغريات الحياة بكل مظاهرها، فهل هذا يعني أن الشاعر متأثر ومتوتر من البيئة التي أحاطت به بعد عودة الحبيبة، فأصبح من جديد محاطا بالأوجاع والآلام ..!؟
أَوَ ما زلتِ تحسبين سكوتي
عن جراح الماضي جواز عبورِ
يومَ كُنْتِ الرَّواءَ في ظمأِ العمر
تَعَدَّاكِ ألفَ شوطٍ مروري
وخُطا الشوق كان شرقاً هواها
صار غرباً بلحظةٍ من نفورِ
نزل الخطاب على المعشوقة كالصاعقة، يذكرها بجراح الماضي، لكُم أن تتخيلوا كم سيستغرق هذا العتاب من وقت.. ليس الآن وقت السكوت والتغافل عما عانه من قبل، بلا شك ستكون ردّة فعل الشاعر صدمة لها، وسينقلب فرحها إلى جحيم، إنها صرخة في وجه امرأة أنساها الزهو بأفعالها، ظنا منها أنه بمجرد عودتها سيظهر لها نفس الاهتمام يوم كانت الرّواء
الرَّواءُ: بفتح الراء، والمدّ، يقال: ماء رواء أي عذب
والرّواء: من أسماء بئر زمزم، روي عن عبد المطلب: أرى في المنام أن احفر الرواء على رغم الأعداء.(6)
نلاحظ كيف عاد مجددا للاستعانة بضرب المثل لأن المقام “الكتابة الشعرية” لا يتطلب الإطناب، فالتكثيف اللغوي يفرض نفسه، ولا غنى للشاعر أن يستعين بالرمز والإيحاء، فالصورة الشعرية هي المطلوب وليس سرد الجزئيات…
كما أن البطل لم يعد ذاك الشخص البسيط من عانى من (ظمأِ العمر) يوم كان في حاجة ماسة للارتواء من النظر إلى الحبيبة ولو خلسة.. الملاحظ بالنسبة للبناء العام للنص يستشف منه أن الشاعر فعلا يحكي عن تجربة شخصية، تمثل لحظة شعورية مفارقة بين زمنين بعيدين:
زمن الشباب المتعطش لإشباع رغباته وزمن الحاضر زمن النضج الفكري والشعوري
صدود يقابله صمود:
تَعَدَّاكِ ألفَ شوطٍ مروري
وخُطا الشوق كان شرقاً هواها
صار غرباً بلحظةٍ من نفورِ
تمثل هذه الأسطر الحد الفاصل بين الشاعر وحبيبته التي كانت تشغل باله في الزمن الماضي، والتي كان يوليها اهتماما كبيرا،
اتضح ذلك من خلال سيطرة الفعل الماضي على المقاطع السابقة من القصيدة، وفي ذلك دلالة إيحائية قوية تتمثل في حنين الشاعر إلى الماضي واستذكار لأجمل اللحظات التي عاشها في صباه، رغم الصدود الكبير الذي عانى من مخلفاته كثيرا بدليل أنه صبر على هذا الحال لعدة سنوات حيث كانت بمثابة الرواء التي تمده بالصمود في وجه ذاك الصدود، هذا النوع من الصراع الداخلي والمواجهة المباشرة يمثلان بشكل ملحوظ بنية درامية للقصيدة والتي باتت لا تسير في اتجاه واحد فقط، مما أكسب لغة النص نوعًا من الحيوية والحركية في اتجاهين متقابلين (شرقا/ غربا)..
يرى عز الدين إسماعيل أن: “الدراما تعني في بساطة وإيجاز الصراع والتفكير الدرامي الذي لا يسير في اتجاه واحد، وإنما يأخذ دائما في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة، فإذا كانت الدراما تعني الصراع، فإنما تعني في الوقت نفسه الحركة من موقف إلى موقف، ومن فعل قائم بذاته داخل حركة النص الشعري نفسه”(7)
وهذا ما لاحظناه في النص شكلا ومضمونا، تعددت التقابلات الصوتية واللغوية وحتى الدلالية امتدت على طول مدى النص، وهذا ما يشير إلى قوة الصراع، ومواجهة في تصاعد تام بين الطرفين: (صنتُ/ استبدت – نار/ نور – الغيب/ الحضور – الشرق/ الغرب – الشوق إلى العبور/ النفور..)؛
بل تجلى ذلك حتى في البنية الصوتية والزمنية.
لينتقل بنا الشاعر إلى مقطع رابع وأخير، مستعينا للمرة الثانية بواو العطف للعودة إلى زمن الحاضر:
وأنا الآنَ يمطرُ الحسنُ أحلامي
بعشقٍ يَهز عمقَ جذوري
هو وحيُ السماء أنزله الله
بوجهٍ ملائكيٍ غريرِ
وردةٌ للندى لضحكةِ حقلٍ
لفراشِ الصباحِ للعصفور
صَيَّرتني على الزمانِ أميراً
وهي التاجُ والجمال أميري
قدم ضمير المتكلم العائد على الشاعر نفسه،
وهذا ما يبين لنا مدى حركية النص الذي تعددت فيه الأصوات المتباينة من حيث مخارجها وصفاتها، وتنوعت فيه الإيقاعات التي باتت تشكل سيمفونية إيقاعية يترأسها صوت الراء بهاجس حضوره المتكرر والممتد حتى نهاية كل بيت شعري.
لاحظ سيبويه في حرف الراء سمة تميزه عن سائر الحروف، فهو حرف منفرد لا يشاركه على صفته حرف سواه، وهي التكرير الصوتي، قال: “ومنها المكرر. وهي حرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام، وهو الراء”.(8)
وحسب الدراسات المعاصرة يعد حرف الراء الوحيد من الصوامت المكررة
وهو صوت جهوري مكرر وهذا التكرير ولد إيقاعا تردد بين درجتي الانخفاض والارتفاع. وهذا ما أدى إلى انسجام الدلالة، فالشاعر يرتفع حين يواجه المعشوقة وكبريائها، وينخفض بصموده وعزة نفسه وإظهاره محاسنه
كما تكررت حروف المد وتسمى حروف اللين، بل هي الطاغية على القصيدة المدروسة، والمقصود بذلك أن هذه الحروف قد امتازت عن غيرها من الأصوات بصفة المد التي تعد صفة قوة لها، والمد عند أهل التفسير هو “نفس يمتد، بعد مضي نفس الحرف، ولذا فإنّه يعد بمنزلة حرف متحرك” مما يزيد في حركية النص وامتداد الإيقاعات لتناسب صوت الشاعر ومشاعره الممتدة على طول مدى أحزانه وآلامه وآماله،
هذا التنوع لاحظناه في حضور وهيمنة أحرف العلّة، سمّيت حروف العلة بهذا الاسم لكثرة تغيرها وتبدلها من حال إلى حال بالنقص وبالزيادة، وبالحذف وبالإبدال، وبالقلب، وغير ذلك، قال الرماني: حروف العلة هي التي تتغير بقلب بعضها إلى بعض بالعلل.
وهذا ما يعكس فعلا واقع حال أفعال القصيدة وصفاتها، حيث المشاعر مضطربة والأفعال متفاوتة..
مما يجعل النص تتعدد أصواته وتتجاذب، فقد لجأ الشاعر إلى خاصية التولّد؛ أي الانتقال من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال ليشكل سلسلة مترابطة، سلسلة مشهدية متحدة، تلعب كلها دورا في التكثيف الدلالي، والبناء الدرامي، إضافة إلى أدوات الرابط والتكرير، التي جعلت من هذه المقاطع متواصلة ومنسجمة مع السياق العام للنص.
لذلك لجأ الشاعر إلى تقنية السرد في القصيدة، والتي ارتكزت على التشفير، والانزياح، والرمز
مما زاد من حدة دينامية النص وأعطاه بعدا قصصيا يُسرِّع الأحداث، ويزيد من وضوح معناها، دون إغراق في التخييل والتجريد.
واتخذ السرد شكلا لولبيا منفتحا منذ انطلاقته على الحاضر ليظل حتى أخر اللحظات موجها أنظار القارئ إلى المستقبل بكل تجلياته:
وأنا الآنَ يمطرُ الحسنُ أحلامي
بعشقٍ يَهز عمقَ جذوري
أي عشق هذا الذي أنسى الشاعر في معشوقته الأولى التي كانت بمثابة السقاء الذي يروي عطشه، ويحيي ليله
أي عشق هذا الذي أحدث في قلبه تغييرا جذريا:
“بعشقٍ يَهز عمقَ جذوري “
لم يتأخر الشاعر في الإفصاح عما يجول في خاطره، وفي ذكر السرّ الذي هزّ كيانه من بعد طول هذه السنوات من الصدود:
هو وحيُ السماء أنزله الله
بوجهٍ ملائكيٍ غريرِ
وردةٌ للندى لضحكةِ حقلٍ
لفراشِ الصباحِ للعصفور
الوحي: كلمة لها عدة معانٍ منها: “الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ.”(9)
كما جاءت كلمة الوحي في القرآن الكريم بعدة معان أيضا، منها ما سبق ذكره، وفي الاصطلاح الشرعي هو “إعلام الله تعالى لنبيّ من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. أو: هو كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه.(10)
وعندما يقول الشاعر: (هو وحيُ السماء أنزله الله)
فماذا يقصد بالوحي؟.
الضمير “هو” يعود إلى كلمة العشق، ولكننا نجد الشاعر أضمر المعشوق وذكر ما يرمز إليه وما يدل على المقصود:
“..بوجهٍ ملائكيٍ غريرِ
وردةٌ للندى لضحكةِ حقلٍ
لفراشِ الصباحِ للعصفور “
ولفك رمزية كلمة الوحي نستأنس ببعض التفاسير لها حتى نتمكن من الوصول إلى المقصود، وتقريب المعنى إلى القارئ تجنبا لأي التباس نظرا لتداخل المعنى اللغوي بالاصطلاحي في العبارة التي أوردها الشاعر، يقول الراغب الأصفهاني: “أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض… والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء وقيل أصله التفهيم وكل ما دللت به من کلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي.”(11)
لقد استعان الشاعر بهذا التشابك الدلالي بسبب معاناته وعذاباته السابقة، فوجد فيه متنفسا لحياة أخرى تنسيه أوجاع الماضي.. للبحث من جديد عن جمالية الحاضر “وأنا الآنَ يمطرُ الحسنُ أحلامي”
كما نلاحظ مدى انقلاب الصدى اللغوي الذي مس المقطع الأخير، باتت النورانية تنبعث من بين سطوره بالاعتماد على كثرة الوصف (عمقَ جذوري – وجه ملائكيٍ غرير – وردةٌ للندى – ضحكة حقل – فراشِ الصباحِ..) فصار حينها يرى الجمال في أدقّ تفاصيل حياته، والإنسان بطبيعته متيم بالجمال أينما وجده عشقه، فكانت النتيجة أن الوردة الجديدة التي تفتحت في وجهه من جديد هي سر سعادته، وقد تعود على الزوجة:
“وردةٌ للندى لضحكةِ حقلٍ
لفراشِ الصباحِ للعصفور”
فتحولت حاله من حال إلى حال أفضل، بل كما يصرح الشاعر:
صَيَّرتني على الزمانِ أميراً
وهي التاجُ والجمال أميري
التقريرية السردية باتت هي المسيطرة، الحركية النصية أشرفت على الانتهاء، ما عاد للمعشوقة الأولى من مكان في نفسية الشاعر لما ارتكبته من أخطاء لا تغتفر، ولكن رغم ذلك ظل للمرأة حضور قوي في ذاكرة الشاعر، لا يمكن للذات الشاعرة أن تعيش في بعد عنها هي “وردة” في كلتا الحالتين، ولاشك أن المرأة الثانية هي التي أبعدت عن ذهنه كل أوهام الماضي، وأنسته كل تفاصيل أوجاعه، وحققت له كل أمانيه وأحلامه.
باتت المرأة وسيلة للحديث عما يجول في خاطر الشاعر، ومصدر إلهام قصائده، متبعا بذلك طريقة نزار الشعرية، حيث صارت المرأة هي الأقرب إلى نفسيته والمحرك الأساسي لمشاعره، وهي التي توفر له الأمن والطمأنينة، وهي من ستعيد له الإحساس بوجوده وكينونته.
باعتماد الجوانب الحسية التي تتعلق بالمرأة، ملتجئا إلى السرد والوصف والحوار، والتعبير عن عواطفه وتجربته الذاتية بطريقة مباشـرة، كما هو الشأن في التشكيل الغنائي، فغلّب الجانب الذاتي على الموضوعي مما أبعد الجانب الحواري عن النص، ولم يترك الفرصة لمعشوقته التي أتت وكلها أمل في تبرير موقفها السابق، فظهر الشاعر كأبرز شخصية في القصيدة -رغم حرصه الشديد والمستمر أن يظل بعيدا عن الوقوع في فخ الأنانية- وأن ما تم عرضه على أنظارنا ما هي إلا حقائق ووقائع لا دخل في نسجها، لذا نجد هيمنة ضمير المتكلم من أول النص إلى آخره، والهدف منه تغليب جانب العتاب والحساب، سرد كل ما كان سببا في إحداث هذا الشرخ بين الإثنين، ولم يبرز الجانب الدرامي بشكل جلي إلا من خلال اللجوء إلى التأويلات، ليس لفك غموضه ورمزية صوره التي يعد الكثير منها متداول لدى المتلقي المهتم بالشعر خاصة، ومن لديهم خلفية معرفية بطقوسه، ويدركون أبعادها بكل يسر، ولكن من خلال تفكيك أصواته واستحضار ما لم ينطق به الشاعر والذي يعد من المتخيل حين كان يترك فراغا كبيرا للتأويل والتخمين لِما قد يحدث بين كل مقطع، مستعينا بأداة العطف “الواو” كما في الفقرة الثانية والثالثة لتسهيل مأمورية الانتقال من وضعية قديمة إلى وضعية جديدة، من غير تقديم مبرر للقارئ عن سبب ما حدث ولم اتخذ قرارا جديدا بسرعة.. كما أن الشاعر ظل وفيا ومرتبطا بإيقاع موحد طيلة النص سواء على مستوى الوزن والقافية، مما غلب الجانب الشكلي، حتى أن الإيقاع الداخلي لم تظهر عليه ملامح الصراع النفسي الذي شغل بال الشاعر إذ وجدنا غلبة حضور أصوات دون غيرها أصوات كانت تعبر عن مدى صدق مشاعر الشاعر وأحاسيسه، تميزت بإيقاع موسيقي هادئ وهي أصوات قريبة من موضوعات الغزل، وإن كانت المرأة، كما يبدو في النص بالكامل، تشكل رمزا للهوية التي باتت مهددة، وللمأساة التي تمرّ بها الإنسانية هاته الأيام.
ذ. سعيد محتال / المغرب
خانكِ الوقت
صنتُ عينيكِ وردةً في سطوري
فاستبدَّت بعطرها المسحورِ
بينَ ريح العناد والصدِّ أو قل
بين ناريِّ زهوةٍ وغرورِ
ظلَّ طَرْفي على سبيل التمنِّي
زمناً يستشفُّ لحظةَ نورِ
قَدَري أن اظلَّ في شفة الغي
بِ سؤالاً ولي كمالُ الحضورِ
وتعودين كالربيعِ بثوبٍ
مخمليٍّ مُنَمْنَمٍ بالحرير
وتبثينَ ما تجود قوافي
كِ بياناً على المدى المنظورِ
خانكِ الوقتُ ما أظنُّ طيوري
تَنْشُدُ الماءَ في الأوَانِ المَطيرِ
أَوَ ما زلتِ تحسبين سكوتي
عن جراح الماضي جواز عبورِ
يومَ كُنْتِ الرَّواءَ في ظمأِ العمر
تَعَدَّاكِ ألفَ شوطٍ مروري
وخُطا الشوق كان شرقاً هواها
صار غرباً بلحظةٍ من نفورِ
وأنا الآنَ يمطرُ الحسنُ أحلامي
بعشقٍ يَهز عمقَ جذوري
هو وحيُ السماء أنزله الله
بوجهٍ ملائكيٍ غريرِ
وردةٌ للندى لضحكةِ حقلٍ
لفراشِ الصباحِ للعصفور
صَيَّرتني على الزمانِ أميراً
وهي التاجُ والجمال أميري
الشاعر طراد سليم طه / سوريا
(1) البنية السردية في الخطاب الشعري قصيدة عذاب الحلاج للبياتي نموذجاً للدكتورة هدى الصحناوي، مجلة جامعة دمشق -المجلد/ 201329- العدد (1+2).
(2) البنية السردية في النص الشعري متداخل الأجناس الأدبية، د. محمد عروس، مجلة إشكالات، العدد 10/ ديسمبر 2016 ص: 149.
(3) البنية السردية في النص الشعري متداخل الأجناس الأدبية، د. محمد عروس، مجلة إشكالات، العدد 10/ ديسمبر 2016 ص: 150.
(4) “عيار الشعر” ابن طباطبا العلوي، تحقيق وتعليق: د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط 1984م. ص35.
(5) بسام قطوس: سيمياء العنوان، وزارة الثقافة، عمان – الأردن، ط1، 2001، ص 7.
(6) معجم البلدان للياقوت الحموي، ج 3 ص 74.
(7) الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص 279.
(8) الكتاب، سيبويه، 4/435.
(9) لسان العرب: ابن منظور، الجزء: 15 صفحة: 379.
(10) الموقع الالكتروني نداء الإيمان.
(11) في رحاب الذكرى العطرة من مولده حتى وفاته. عبد العزيز، محروس رضوان، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، 2008، ص: 17.