إنك وانت تقرأ أقاصيص “منير الجابري”، تشعر كأنك قابع في ركن للذكريات على رصيف الحقيقة، معك صندوق تئنُّ فيه أصوات العابرين الذين يحملون أوطانهم على ظهورهم، يركضون.. حاملين تذاكر غربتهم و أوجاعهم؛ وصوتك يركض معهم وروحك تأسرها الريح الراحلة بين محطات الماضي واليوم والغد.
حكايات من قلب الحياة، أخرجها كاتبها بكلّ وعي وحرفيّةٍ ومهارة في هذا الشكل من أشكال الكتابة القصيرة أو ماسمّي بالأقصوصة، كما في هذه الأقصوصة تحت عنوان “جنون”.
-“جنون”: العنوان وهو عتبة النص والمدخل إلى تفاصيله. فماهو البناء اللغوي والدلالي الذي ينطوي عليه، وماهي التأويلات التي ستكشف عنها الأحداث؟ عن أيّ جنون يتحدث كاتبنا؟ ومن هو المجنون؟ ماسبب جنونه؟ وإلى أين سيقوده هذا الجنون؟ أهو جنون الأحلام، العقل، القلب، الواقع أم جنون مرضيّ؟
-من العنوان إلى النّص حيث تستوقفنا شخصية “ناجي” الشاب الجامعي المكافح الذي يعمل لتأمين لقمة العيش وتعرضه للإذلال والتهديد بالطرد من مسكنه المستأجَر من رفيق دراسته الفاشل والوارث لثروة أبيه. مجموعة تناقضات وجدل في النقائض. تصوير لواقع مؤلم وقضية شباب مشتت ومعاناة من فقد العدالة والقيم والتمييز الطبقي و الفقر والحرمان إلى محاولات الهروب من هذا الواقع والرحيل. وبكثير من الدهشة والتشويق يأخذنا الكاتب إلى الشخصية التي غيرت مجرى الأحداث وكان لها التأثير الأعمق في شخصية “ناجي” وهي حبيبته أيام الجامعة والتي كان يلتقيها في مكتبة الجامعة، فتتراكم أشتات الذكريات وتنبثق لحظة الأزمة والمصير والتي سمّاها “جويس” بالإشراق أو الكشف إذ يقول: “يركز الكاتب على شخصية واحدة في مقطع واحد وبدلاً من تتبع تطورها، فإنه يكشف عنها في لحظة معينة، هذه اللحظة التي تنتاب فيها الشخصية بعض التحولات الحاسمة في اتجاهها”.
هكذا كشف لنا الكاتب تحول شخصية ناجي وقراره بالرحيل واللحاق بحبيبته بعد سرد شريط من الذكريات، ووصف لحالة البؤس والضياع التي وصل إليها.
وباعتماد الركائز الأساسية التي تبنى عليها الأقصوصة، قدم الكاتب نصّه فظهرت وحدة المكان من خلال مدينة ناجي التي دارت فيها الأحداث، ثم الزمان الذي لم يتجاوز اليوم منذ لحظة خروج ناجي إلى العمل وعودته ليجد نفسه مطرودا من مسكنه، ثم مروره بشوارع المدينة وصولا إلى محطة القطار، والعلاقة النفسية التي نشأت بينه وبين هذا المكان.
أما عن اللغة، فقد استخدم الكاتب أشكالا لغوية مختلفة.. كالسرد والوصف الحكائي في تقديمه للشخصيات.
-الحوار الخارجي: “سمع صوتا يناديه…”
“عند وصوله إلى العمارة، وجد حارسها بانتظاره، منعه من الدخول….”.
-المنولوج الداخلي: “تساءل في أعماقه
لم أتوقع أن أمرّ بهذا المشهد، كيف سأنام في الشارع؟….!!!”.
وبالنهاية تأتي القفلة محدثة انفعالات ومشاعر عميقة في ذات المتلقي وتدفعه للتأمل أكثر بما يحيط به ومايعكسه واقع الحياة من حوله والمصير الذي فرضه هذا الواقع على جيل الشباب المكافح.
الأقصوصة ..
جنون
كان ناجي على وشك مغادرة العمارة. حين سمع صوتا يناديه، وقف ونظر الي الخلف. لقد كان مالكها الذي ورثها عن والده.
اصابته الحيرة لانه قد درس معه في الجامعة ولم يفلح في استكمال دراسته. وقد كان دوما يشوه صورة ناجي أمام زملائه الطلبة، اثناء تلك الأيام المعدودة التي قضاها في الجامعة…
اعلمه ان موعد دفع الإيجار قد مر عليه يومان. ثم تركه وركب سيارته.
نظر ناجي الي ساعته ثم اسرع الخطى نحو محطة الحافلات.
حتى يلتحق بعمله. ما إن وصل إلى حضيرة البناء انهمك في العمل. لكنه شعر ببرد شديد يتسرب الي جسده…
رفع بصره فشاهد كانونا به جمرات متاججة. اتجه نحوه حتى ينتعش بالحرارة.
فقد كان الزمن أواخر شهر ديسمبر.
كان ناجي مرغما على العمل حتى يوفر لنفسه لقمة العيش.
لانه انهي الدراسة في الجامعة ولم يجد شغلا. كان يطمح الي الهجرة الى أوروبا.
هو شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. بشرته سمراء طويل القامة يضج حيوية ونشاطا.
أنهى ناجي حصة العمل بعد غروب الشمس. عرج الي المقهى ليترشف فنجان قهوة. ثم رجع الي شقته. وعند وصوله الي العمارة وجد حارسها بانتظاره. منعه من الدخول…
وقف لحظات بعيد ترتيب اشيائه. فد دخل في فوضى بعد منعه من الدخول. تساءل في أعماقه
-لم اتوقع ان امر بهذا المشهد؟ كيف سانام في الشارع!!؟
غادر المكان دون وجهة محددة. طالت جولته في المدينة إلى أن وصل محطة القطارات. وهو يشعل سجارة تلو السجارة…
المسافرون، منهم من على اهبة الاستعداد للسفر ومنهم من ينام على كراسي المحطة. التي كانت فوانيسها تتدلي بضوئها الخافت.
جلبت سمع ناجي جلبة فاستطلع الأمر فاكتشف التفاف القطط حول القمامة وهي تبحث عن الطعام .فتنبعث روائح كريهة.
مر النصف الأول من الليل. اشتد البرد اكثر
فجأة رن هاتف ناجي، رف قلبه. ابتسم ثم تسمر في مكانه
فهو يعرف نبرة الصوت لمن تكون. مر وقت طويل لم يلتق بها.
انجرفت به الذاكرة الي تلك الأيام التي جمعته بها. كان يلتقي بها في مكتبة الجامعة.
بقيت اخر زيارة الي بيتها راسخة في ذهنه. كانت تسكن في بيت قريب من الحدود الليبية. ولما خرجت معه في جولة
في مساء يوم خريفي.
جلسا تحت شجرة ضخمة جفت أوراقها. كانت الريح تعصف بقوة، تحمل حبات الرمل وتقذف بها أوراق الشجرة.
هذا المكان هو ملاذ صديقته من جحيم الواقع المرير.
اقتربت منه في تلك اللحظة. تعجب لبريق الفرح الذي لمع في عينيها الجميلتين. حاولت ان تهمس في اذنه ثم قلبه
-ساخذك الي عالم الإبداع… عالم تحتاجه انت والإنسانية يقتحم العتمة نورا…
نظر إليها وهو في منتهى الاندهاش لانه احس بصدق في كلامها. تعجب لثورة جنون الإبداع التي أصابتها.
ودفعتها الي تحريك أوتار الكمنجة. احس ناجي بالدفء بدل الصقيع. فوجئ ناجي ببصيص النور الذي احدثته النغمات التي تنبعث من بين اناملها، متماهية مع ابتسامتها الساحرة
توغلت الموسيقى في المكان وانتشرت كضوء القمر في الليلة الظلماء. بددت وحشة المكان. فانحنت لها الريح وهدات من روعها. كما داعبت حبات الرمل أنغام الموسيقى و احاطت بجيد الاغصان الظماي.
ظلت الفتاة كالفراشة تحوم حول الشجرة وتقتات من رحيق الازهار.
بقي ناجي يتابعها وهي تعزف لحنا لم يستمع اليه من قبل.
اهتزت لها الاغصان طربا واخترقت الحواجز. ثم حلقت بعيدا تناجي غيمات السحاب التي انهمرت دموعها فلامست وجه الأوراق التي استفاقت من سباتها واحتضنتها.
امضت الفتاة وقتا طويلا فزرعت الأمل.
ملامحها البريئة. جذبت ناجي الذي كاد عقله يجن لأنها فجرت في ثنايا المكان جداول الفرح والسرور تبعث شهوة الحياة وهي رافلة في أنوثتها. وفي كل لحظة تتحمس اكثر وتطلق العنان لعزفها. فاشرق المكان بصدى الموسيقى.
تسارعت نبضات ناجي وهو ينظر إلى تغيير المشهد. ماحدث اكبر مما تصور…
نقرات الموسيقى الناعمة جعلت اللقاء حلما جميلا. فقد شحنت جوارح المحيط بكل صور الجمال.
كانت تحرك اناملها وشعرها يتدلي على كتفيها ثم يهتز مع كل هبة نسيم.
فجاة نفذ شحن هاتف ناجي. ظهرت له خيوط الفجر تطرد ظلمة المحطة. اتجه الي أقرب مقهى ثم ذهب لإحضار جواز سفره ليلتحق بحبيبته….الكاتب والقاص: ذ. منير الجابري / تونس