حين تقذف نشرات الأخبار أو مواقع التواصل الاجتماعي خبراً له علاقة بالماضي، أشعر أننا كبشر عبارة عن حلقات متصلة، ولا يوجد حلقة هاربة أو قد أصبحت داخل رماد الموتى الذين أحرقهم التاريخ، فلا بد أن تتغلب لعبة الظهور وتهمس للحاضر وتلعق مرارة الذكرى.
أكثر ما يحرك عندي أبجدية الشوق لمعرفة خبايا الماضي، أبجدية رجال المبادئ وفن معايشة القَسَم والإصرار والوقوف في وجه الأعاصير والمنافي، حين نعرف أن هناك أناساً يعيشون حتى الاحتراق، يملكون شجاعة القرار والانعتاق والحرية.
أكثر ما يحرك عندي أبجدية الشوق لمعرفة الماضي كلما رأيت الجبناء يغزون المنصات وشوارع القرار والمفاوضات ويقومون بتسويق التاريخ كأنه معركة في ساحة أحد المجمعات التجارية، الرابح فيها من يملك أكثر مفاتيحاً للدكاكين، والأسوأ حين يقومون بإهداء التاريخ ابتسامات النصر المزيفة.
ماذا يعني ان نجد بندقية قديمة؟! ماذا يعني أن نجد بقايا جثة جندي؟! ماذا يعني أن نكتشف بعض الأوراق التي تقلب رؤيتنا التاريخية رأساً على عقب؟! بالنسبة للتاريخ تعني الكثير، وبالنسبة للواقع يعني أن نضع أصبع الاعتزاز في عيون من يحاولون طمس الحقائق وترويج المعارك الحربية والسياسية، كأنها أخطاءً وعلينا توقيع وثائق الطلاق مع الماضي وتلميع أحذية المديح للحاضر، وعفا الله عما مضى.
الشهيد “باجس أبو عطوان” هذا الاسم كان يعانق ذاكرتي يوماً، فقد لقب “أبو شنار” نسبة لطائر الحجل أو كما يدعى “الشنار” -هذا الطائر الذي اشتهر بالذكاء والتمويه حيث عند الخطر يصبح لونه بلون التراب-.
أقول غاب “باجس أبو عطوان” في صقيع الذاكرة، هذا الرجل، المقاوم الذي كنا نتابع أخباره ونحن في المدرسة الثانوية، حتى أصبح مثالاً للتحدي، وقد انقسمنا في الصف التاسع إلى قسمين أطلقنا على جماعتي “جماعة باجس أبو عطوان”.
يا للذاكرة المليئة بالثقوب حتى سقط منها الكثير من الوجوه، لكن لماذا الآن يقف باجس ويتصدر مواقع التواصل الاجتماعي.
بعد 48 سنة على استشهاده -استشهد في 18 حزيران عام 1974- يعثر أحد المزارعين في كهف من كهوف دورا الخليل على أغراض “باجس” راديو ترانزستور كان من خلالها يسمع أخبار الوطن، مفتاح وسيخ من حديد لتنظيف البندقية، وبطاريات ترانزستور وأسلاك توصيل الشرارة إلى العبوة الناسفة.
بقايا أغراض مدفونة في التراب، لكن لو نطقت هذه الأغراض لقالت الكثير، إنها ليست بقايا -خردة- بل هي بخروجها من تحت الأرض شيدت بنايات الاعتزاز وما أن لمست كتف الذاكرة حتى تناثرت نجوم الفخر.
ولد باجس عام 1948 عمل مع والده في أحد مقاهي دورا الخليل، وفي عام 1968 انضم إلى مجموعة مسلحة بقيادة علي أبو مليحة الملقب ملك الجبل ليستلم باجس بعد استشهاده في منطقة “أبو خروبة” قيادة المجموعة.
قام “باجس أبو عطوان” بعشرات العمليات المسلحة ضد الاحتلال، وكان يفلت ويختفي عن الأنظار، حتى يقال أنه إحدى المرات دخل في جوف صخرة وغطى نفسه بحجر، ولم يره الجنود مع أنه كان قريباً منهم.
عام 1971 بعد أن حاصر الجنود بيته، أوقع “باجس” عشرات القتلى وهرب، فقاموا بنسف البيت الذي يأوي عائلته.
وبقي المطلوب الأول للاحتلال، وكلما نصبوا كمينا أفلت منه فقد كان يحفظ جبال الخليل وتلالها وحجارتها وكهوفها، وفي عام 1974 خانه صديق مقرب وأعطاه صندوق ذخيرة فيه لغم، وما أن فتح الصندوق حتى انفجر بوجهه وقتل، وخطفت اسرائيل جثته، لكن أعادتها أمام الضغط الشعبي، وكانت جنازته في دورا الخليل كبيرة ومهيبة.
كتب الشاعر الفلسطيني معين بسيسو عام 1974 رواية “باجس عطوان مات البطل عاش البطل”، وكان يكرر باجس أمام أصدقائه (لا نريد من الثورة أكثر من بندقية، بندقية ليست مجانية بل سأدفع ثمنها من عملي الشاق في المقهى).
بقايا أغراض “باجس أبو عطوان” تجعلنا نسأل لماذا لا تقوم مؤسسة السينما أو التلفزيون الفلسطيني بإنتاج مسلسلات أو أفلام تُعطي هؤلاء الأشخاص قيمتهم الحقيقية!! يجب أن نحترم منطق الجسور، هؤلاء الذين جعلوا من أجسادهم وأفكارهم وأفعالهم جسوراً لكي يعبر الفلسطيني ويعود إلى الوطن.