قراءة نقدية لقصيدة “اغتيال” للشاعرة عزيزة صبان / الناقد محمد هلال البيلي / مصر


دائما يتجه القلم الهادئ إلى حوار متزن في طرحه الفني بفتح وتوسيع أوردة الدلالات وتفريغ طاقة الوهن في وعاء بلاغي مثير؛ هنا مع الشاعرة المبدعة عزيزة الصبان والتي تتميز بقدرتها على تحميل المعنى في قالب لفظي مصور فني النزعة عميق الأثر، عبر باقة لا تنتهي من الجمل المدهشة

هنا في ضربة استهلالية محرضة على التفاعل التذوقي تقول:
محمولة على نعشي
أمضي إلى خاتمتي
كيف يتحدث الأموات يا شاعرة؟
لنا هنا وقفتان..

الأولى: البعد الدرامي المشهدي المصور بكاميرا وجدان هالك محتضر؛ فدلالة الحمل النعشي دلالة مباشرة تفضي إلى الفناء، هذا إذا كنا نحمل الجسد، لكننا هنا مع عزيزة الصبان نحمل الوجدان

الوقفة الثانية: هي أن بطلة النص قد اتضح من الرسم الأول لسمات شخصيتها أنها في حالة استسلام كامل للضربة القدرية ولا تملك أي أدوات لوقف الزحف نحو قبرها في المتخيل الشعري المطروح، وهنا نعود إلى العنوان “اغتيال”، وحقيقة الاغتيال هي القهر
هنا بدأ السير نحو المدفن الروحي للبطلة التي انتهت صلاحية وجودها ببن كل هذه البضاعة البشرية الفاسدة، هنا تقول: أمضي إلى خاتمتي

تتسع كاميرات مراقبة النص، لنشاهد بعضا من لقطات النهاية، لكن السؤال أين الفلاش باك من الشاعرة حتى نتعرف علي أسباب بلوغ المنتهى؟
مازالت تصف في تماسك دلالي ونفسي وبناء محكم مشهدها، تقول عزيزة:
“وبين اللب والقلب جدال”
ياشاعرة، ما أتعس جدال النهايات حيث لا يقطع عنق الحالة ولا يبيح دم الخلاف.
تقول:
نصف مشلول الخطى
والثاني يآزر المنى

هنا تبدأ معركة الذات مع الذات، هنا الصراع النفسي داخل تكوين بطلة النص؛ والتحليل النفسي لم نكن أول من تجرأ عليه، فله مرجعية من عبد القادر الجرجاني وابن قتيبه قديما، وحديثا العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري في مدرسة الديوان، وحتى مافعله طه حسين في تحليله لإبداعات المعري

هنا حالة شرود قلمي ظهرت كنسق مضمر في كينونة الشاعرة، حالة هلع وأمل في حلبة الحياة نزلت إلى ملعب القصيدة المحترق، ثم تطرح علاقة جدلية بين الآهات والأحلام ونقاش حليم وثالثهما المحال؛ الآهات الأحلام المحال =اللاجدوي في معمل تراكيب الدواء به سم قاتل
لقد اختلت المعادلات يا عزيزتي عزيزة والناتج هو منتوجك الفني المعذب بين يدينا. هنا ومن فوق هضاب عالية وقفت الروح تشاهد الوعود وهي تجري تحمل الكفن، إلى هذا الحد الحمولات الدلالية تسابق الموقف الشعري لتصل قبل الحقائق في تجربة عزيزة الصبان
ثم ننتقل إلى نهاية دراما شئ من الخوف لتفصح عن أن الميت ليس هي، نعم المقتول ليس هي، نعم خرج من كفنه ليعترف ثم ذهب إلى قبره المختلف
الشغف هو ضحية فساد المعادلات، الشغف المحرض الأكبر على مقبولية الوجود مات، الشغف بدلالته المعهودة في الحياة عموما وفي حياة الحبر الأنثوي خاصة قد مات
فهل يوجد أي مبرر للحياة؟
في الحقيقية ومن خلال حقل دلالي حزين بكلمات قاموسية ذات اتصال دلالي تحت لفظ عام وهو الحزن، ومن خلال تراكيب غير معقدة في شعر عزيزة الصبان، ومن خلال الألفاظ المتعارف عليها دون شك او تردد، ومن حيث الإيقاع التعبيري والبصري في النص، ومن حيث البناء المنجز وقوة البناء الفكري، وقدرة الشاعرة على قيادة النص ببراعة، وبمحصول لفظي متزن بلا زيادة وترهل أو نقصان، استطاعت الشاعرة توصيل مياه الحزن إلى وجدان كل من قرأ هذا النص

فالنقد السياقي هنا يقول بأنها تعيش حالة ألم ذاتي أدى إلى انتزاع هذه السهم الإبداعي دما من قلبها، والنسق اللغوي إذا أغلقنا النص على لغته لن يقلل من ججم وثراء اللغة في النص، وانفتاح الدلالات والقراءات أعطانا فرصة كاملة لتعاطي حبوب المتعة الشعرية مع المنتج. ولهذا أنصح دائما بألا يغضب الكاتب من موته على مشرحة النقد. ودخول النص للعناية الفنية المركزة يستوجب خروج كاتبه، وإن كانت كل القراءات متاحة والتأويل حق للجميع والنص ملكة خاصة لا تتاح للعموم، ولكن التذوق ملكية عامة

وإذا كانت نظرية التواصل تقول بأن أي نموذج أدبي لابد أن تتوفر فيه هذه الشروط من مرسل ومرسل إليه ورسالة وشفرة وأداة اتصال والسياق، فإن الشاعرة قد استوفت كل هذه الشروط

وأشكر الشاعرة المميزة عزيزة صبان

الناقد والمحاضر محمد هلال البيلي / مصر


*******

قصيدة “اغتيال” للشاعرة المغربية عزيزة صبان:


محمولة على نعشي..
أمضي إلى خاتمتي..
وبين اللّب والقلب..
جدال..
نصف مشلول الخطى..
والثاني يآرز المنى..
مجروح المنادح..
مجهد الآمال…
و الآهات حَرّى…
تعاتبني…
ترثي أحلاما ألقيتها..
قبل مولدها..
في غيابات المُحال..
وتلك الوعود الخوالي..
تلاحقني..
بكفن خذلان..
تلف حيرتي..
وألف سؤال وسؤال..
دريئةَ حسرات..
على زمن عابني..
وهو المَعيب
يتيم الخِلال..
لست آسفة..
على ثوب فَلوتٍ..
ليس لي..
وإنما أسفي..
على شغف..
استُفيق.. عنوة..
ليساق إلى قبره…
شهيد اغتيال!



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *