استهلال
الغالي محمد لقعة يمشي بثبات في عالم الابداع.
في نصوصه ابداع وامتاع واشعاع.
قليل النشر لكنه كثير التأثير.
لا يكتب من فراغ بل من عمق مسيرة القراءة والمطالعة وتكوين الذات.
في نصه الإبداعي الشعري (النورس الصغير)، يحول البحر بنوارسه والسوسنة العطرية إلى قمر بطعم الشوق للأم، الأم التي اجتمعت كل شعوب العالم على الاعتراف بعطاءاتها وحنانها،
فالمثل الياباني العميق يتحدث بعمق عن الأم، فيقول: (طيبة الأب أعلى من القمم، وطيبة الأم أعمق من المحيطات).
والانجليز في عز صمتهم وبرودة أحوالهم الجوية يهتفون: (الأم لا تقول هل تريد، بل تعطي)، ثم يهتفون للأم: (من فقد أمه فقد أبويه).
وفي الهند يصبح قلب الأم مقدسا ومعطرا بالحب والحنان: (قلب الأم كعود المسك كلما احترق فاح شذاه).
ولا بديل لحضن الأم لأنها الملاذ، ولهذا يقول المثل الأرمني: (تضطر الأم لمعاقبة ولدها، ولكن سرعان ما تأخذه بين أحضانها).
وفي قصيدة (النورس الصغير)، تحضر الأم جامعة للبحر والقمر والنورس المسافر والسوسنة المعطرة بعبير لا يقاوم.
1- ما بين سوسنة ونوارس
السوسنة وهي نبات معمر وعطري وتنتهي بزهرة أو عدة زهور معطرة، والسوسنة تشبه الأم في رائحتها وحنانها.
فتنشد الذات الشاعرة:
(قلت،
وأجفاني المتورمة تخلف نهيرا
صغيرا من الدموع،
وثغري مبلل برحيق
سوسنة:
-من تكون؟!).
لكن النوارس توحي لنا بالبحر الذي وظفه المبدع محمد لقعة بذكاء وكأنه يقول مع محمود درويش في قصيدة أنا من هناك:
(أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ. ولدت كما تولد الناس. لي والدة
وبيتٌ كثير النوافذِ. لي إخوةٌ. أصدقاء. وسجنٌ بنافذة باردهْ.
ولي موجةٌ خطفتها النوارس.).
انها نوستالجيا الحنين لحضن الأم وحنانها، وها هو شاعرنا محمود درويش في جمع الأندلس وفلسطين بالبحر والنوارس يعيش مأساته بطريقته الخاصة.
يقول الأستاذ أحمد النمرات: (حيث يستحضر درويش في قصيدة “رباعيات” من ديوان “أرى ما أريد” الأندلس ويستذكر أمجادها، والذي ذكره بها الضياع الحالي، وتذكر أيام أمجاد العرب وحنينه لها، فقد ربط مصير فلسطين بمصير الأندلس، ففي شعره علاقة واضحة بين الأندلس وفلسطين من خلال المأساة التي حلت بهما من اغتصاب للأرض. فقد قال في هذه القصيدة: “ارى ما اريد من البحر.. إني أرى هبوب النوارس عند الغروب، فأغمض عيني: هذا الضياع يؤدي إلى الأندلس، وهذا الشراع صلاة الحمام عليّ…”)²
يكتب المبدع محمد لقعة:
(آه..
من حديث البحر.
يحدثني عن نوارس تركض
في رحابة الخواء.)
2- حديث القمر والبحر
ولنا عبرة في مقولة جبران خليل جبران: (كل البيوت مظلمة، الى أن تستيقظ الأم).
يعتمد محمد لقعة على السرد كوسيلة مثلى لتمرير خطابه الشعري. اذ السرد بطعم التشويق ،والتشويق بطعم السرد ،يدفعانك الى قراءة نصه الشعري والاستمتاع به مبنى ومعنى معا.
فقمره الشعري يغرق في حديث مع البحر بلذة الحكي ومتعة الشعر.
(جمعت أوراقي،
فراشاتي،
وأشيائي.
ونظرت إلى القمر الدافئ.
بأشعته اللازوردية،
المنسلة
من بريق أشعة الشمس.
كان القمر
يتحدث إلى البحر.
والبحر صامتا
مدثرا
بسر الشتاء.
أيها البحر؟
هذا الشتاء، كم يطول.؟
أراني أغوص في لفائف المطر
الحزين.
آه.. من حديث القمر الذابل،
يفيض بالمعاني
بالأحلام،
بالأماني،
ويسقط، الضجر في قتامة
الضجر.
في الشتاء المقبل،
أمطرني أيها القمر
الضال
بعبق الأعشاب.
آه..
من حديث البحر.
يحدثني عن نوارس تركض
في رحابة الخواء.).
وعن البحر يكتب محمود درويش في قصيدته (نزْلٌ على بحرٍ):
(لا تُعطِنا، يا بحرُ، ما لانستحقُّ من النشيدْ
ونريد أن نحيا قليلاً، لا لشيءٍ
بل لنرحل من جديدْ.
لا شيء من أسلافنا فينا ولكنَّا نريدْ
بلادَ قهوتنا الصباحيّهْ
ونريدُ رائحة النباتات البدائيهْ
ونريدُ مدرسةً خصوصيهْ
ونريد مقبرةً خصوصيهْ
ونريد حريّهْ
في حجمِ جمجمةٍ… وأغنيَّهْ.
لا تُعطِنا، يا بحرُ، ما لا نستحقُّ من النشيدْ).
3- الأم
تحضر الأم في نوستالجيا محمد لقعة عبر البحر وحديث القمر الحزين.
ذات ابداع وموسيقي كتب الموسيقار الكبير بيتهوفن: (إن أرق الألحان وأعذب الأنغام لا يعزفها إلا قلب الأم).
وهذا الفنان والشاعر فرجيل، يكتب: (يعرف الطفل أمه من ابتسامتها).
يواصل المبدع محمد لقعه نصه الشعري بطعم السرد، فيكتب:
-(هناك، سيدة ترفل بالحرير،
تحبك
تخشى عليك.
قلت،
وأجفاني المتورمة تخلف نهيرا
صغيرا من الدموع،
وثغري مبلل برحيق
سوسنة:
-من تكون؟!
قال البحر
قال القمر،
قال النورس الصغير:
-أمك.
هكذا، بين القمر والبحر،
يبرق البرق
في خرائط الشتاء.)
انها الأم التي لم يجد سقراط الاطمئنان الا في حجرها: (لم أطمئن قط إلا وأنا في حجر أمي).
انه الاطمئنان الطبيعي والحقيقي، ولهذا قال فولتير: (حِجْر الأم هو المكان الآمن الذي تستطيع أن تسند إليه رأسك وأنت مرتاح مطمئن.)
خاتمة
ان نورس المبدع محمد لقعة نورس صغير، سيكبر ذات يوم، ويهتف مع ويليام شيكسبير: (ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم). ولهذا كتب فيكتور هوجو: (إذا صغر العالم كله فالأم تبقى كبيرة).
لقد أعادنا المبدع محمد لقعة في نصه الإبداعي (النورس الصغير)، الى زمن جميل، زمن المحبة والاحترام والتقدير معا.
ذ. مجد الدين سعودي / المغرب
احالات
1- فيكتور هوجو: (إذا صغر العالم كله فالأم تبقى كبيرة).
2- أ. أحمد النمرات: ( التناص التاريخي في شعر محمود درويش)
النص الشعري (النورس الصغير) لمحمد لقعة
(جمعت أوراقي،
فراشاتي،
وأشيائي.
ونظرت إلى القمر الدافئ.
بأشعته اللازوردية،
المنسلة
من بريق أشعة الشمس.
كان القمر
يتحدث إلى البحر.
والبحر صامتا
مدثرا
بسر الشتاء.
أيها البحر؟
هذا الشتاء، كم يطول.؟
أراني أغوص في لفائف المطر
الحزين.
آه.. من حديث القمر الذابل،
يفيض بالمعاني
بالأحلام،
بالأماني،
ويسقط، الضجر في قتامة
الضجر.
في الشتاء المقبل،
أمطرني أيها القمر
الضال
بعبق الأعشاب.
آه..
من حديث البحر.
يحدثني عن نوارس تركض
في رحابة الخواء.
وأنا ألثم خد النورس الصغير.
وأسمع همسا من شفاه تبج البحر
يقول:
-هناك، سيدة ترفل بالحرير،
تحبك
تخشى عليك.
قلت،
وأجفاني المتورمة تخلف نهيرا
صغيرا من الدموع،
وثغري مبلل برحيق
سوسنة:
-من تكون؟ !
قال البحر
قال القمر،
قال النورس الصغير:
-أمك.
هكذا، بين القمر والبحر،
يبرق البرق
في خرائط الشتاء.)الفقيه بن صالح : 28/12/2021