كيف نقنع الذي يحتضر أن باطن الأرض قد يكون أرحم من خارجها؟ كيف نقنع الذي يحتضر أن قبره ينتظره ولن يكون ضيفاً ثقيل الظل، لكن المخرج والكاتب الفلسطيني “نصري حجاج” قرر أن ينهي حواره مع الأرض، أن يتأمل جسده من فوق، بعيداً عن نزاعات الأرض والتشتت واللجوء المقيت المُذل، ويضع قدمه على أول درجات الرضى، لا يريد أن يبيت في أرض تصرخ في وجهه كل لحظة: أنت لاجئ لا يحق لك النوم في رحمي.
أيها الحزن والتساؤل لا تعبث مع الفلسطيني “نصري حجاج” الذي صوب بندقيته صوب العبث العابر من خيام الحرية، صوب المدن والأنظمة التي رفضته ومحطات القطارات والطائرات التي كانت تنقله من منفى إلى منفى، لقد عاش المنافي جميعها وكانت المحطة الأخيرة مدينة فيينا –النمسا- التي عرف أن ظله سيبقى حبيساً في قبو يسحب الهواء من داخل مأساته الفلسطينية.
كان “نصري حجاج” يعرف لا نجاة من الغربة، وجسده الذي كان يلامس طين أرض الوطن، بعد موته سيصبح قبراً غريباً في أرض غريبة تتوهم طحالب الزمن أنها ستنال منه، لكن قبل موته، قبل أن ينسج عنكبوت النسيان ثوبه الضيق ضيق حفرة “الجلبوع” سينسج هو ثوبه ويحرقه وينثر رماده، لا يريد قبراً عنوانه يتعرض مستقبلاً للتفتيش والتلفيق وشاهده يتكسر تحت لعنات الغربة والغرباء الذين سيعلنون أن قبره احتلالاً واستغلالاً لأرضهم، وعليهم طرد الغرباء.
لقد اختصر “نصري حجاج” الذي ولد عام 1951 في مخيم عين الحلوة في لبنان ومات في فينا بعد صراع مع المرض في 11/9/2021، حيث كانت وصيته حرق جثمانه ونثر جزء من رماده لاحقاً في مخيم عين الحلوة، وعند قبر والدته فاطمة في مدينة صيدا و جزء في قريته الناعمة شمال فلسطين و جزء في سوريا و جزء فوق تراب تونس حيث عاش عمره، وليعلن “نصري حجاج” صراحة بعد ذلك أن لا قبر له، وبهذه الوصية ينهي الجدل التاريخي بين الفلسطيني وقبره التائه، حيث الفلسطيني الذي يموت في الغربة تبقى شهقته الأخيرة معلقة “أمنيتي أن أدفن في فلسطين”.
من المعروف أن “نصري حجاج” كان كاتباً وقد كتب في عدة صحف عربية وأجنبية و أخرج عدة أفلام وثائقية لاقت الكثير من الاحتفاء النقدي، منها “ميونخ حكاية فلسطينية” وهو فيلم يقدم وجهة نظر عربية لما جرى في ميونخ 1972 و فلم “ظل الغياب” الذي يحكي مأساة موت الفلسطيني بعيدًا عن فلسطين.