لا ريب في أن الآنسة ماري إلياس زيادة (1886/1941) أو مي زيادة كما سمت نفسها، فقد نحتت من اسمها الأول ماري اسما عربيا خالصا هو(مي) الذي يقترب كثيرا من اسم عربي خالص ذائع تردد في أشعار ذي الرمة فقد كانت (مية) حبيبته:
وكنت إذا ما جئت مية أزورها
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
مي زيادة خير من يمثل طموح المرأة العربية في العصر الحديث، فهذه المرأة الشرقية الطامحة ذات الحس الشاعري والخيال الخصب والقلم السيال، والتمكن من عدة لغات حية، هيأ لها الاطلاع على آداب غربية عديدة، وأتاح لها كذلك أن تتعرف على آداب نسوية غربية، وكان خير من يمثلها مدام دي بومبادور صاحبة صالون أدبي مشهور، وجورج إليوت وجورج صاند، ومدام دي ستال وغيرهن.
هذه المرأة الأديبة التي شهد لها شيخ فلاسفة العرب في العصر الحديث مصطفى عبد الرازق، بالسبق والألمعية فقال في حقها: (أديبة جيل كتبت في الجرائد والمجلات، وألفت الكتب والرسائل وألقت الخطب والمحاضرات، وجاش صدرها بالشعر أحيانا وكانت نصيرة ممتازة للأدب، تعقد للأدباء في دارها مجلسا لا لغو فيه ولا تأثيم، لكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء في غير جدل ومراء). هكذا إذن برز في الشرق قلم نسوي متمكن تعضده ثقافة عربية أصيلة، وثقافة غربية واسعة، وحس مرهف وخيال خصب، وتشجيع أسري، وتقبل من عموم القراء الذين راقتهم الفكرة وأبهرهم الأسلوب. من غير المجدي عزل المجهود الذي قامت به عن مجهود الكوكبة النسوية التي اضطلعت بمهمة الكتابة (النثرية والشعرية) والصحافية، فقد أنشأت هند نوفل أول صحيفة نسوية عربية عام 1892 واستمرت حتى عام 1894، كما عرفت الساحة الأدبية أقلاما نسوية تحاول أن تتلمس طريقها في عالم فكري وأدبي رجالي ذكوري، عالم يصنعه البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ والزهاوي والعقاد وطه حسين وهيكل وتوفيق الحكيم، ومن غير الثابت أن تكون الكتابة النسوية في هذه المرحلة متميزة، يمكن أن تصل إلى مستوى الكتابة الرجالية ذات المرجعية الذكورية لغة وتراثا، بل إن المرأة منعت من الكتابة كما يظهر ذلك في مؤلف قديم عنوانه «الإصابة في منع النساء من الكتابة» لخير الدين نعمان بن أبي الثناء جاء فيه (أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئا أضر منه بهن، فإنه لما كن مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد، وأما الكتابة فأول ما تقدر المرأة على تأليف الكلام بها فإنه يكون في رسالة إلى عمر وبيتا من الشعر إلى عزب، وبيتا آخر إلى رجل آخر، فمثل النساء والكتب والكتابة كمثل شرير سفيه تهدي إليه سيفا، أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لها وأنفع).
ها هو ابن أبي الثناء يعود إلى التراث الذكوري، الذي وصم المرأة بالخداع والخيانة، فلا يرى في القلم غير أداة تمارس بها المرأة العشق والمكاتبة، وتركها أمية أفضل وأجدى، ضاربا عرض الحائط أوامر الشرع في تعليم المرأة وقد كرمها مثلما كرم الرجل فهما من نفس واحدة.
حالة من الحذر والتخوف من ممارسة المرأة لفضيلة الكتابة، وجدارة التفكير، حتى روى الجاحظ هذا التحذير الخالص من صميم التراث الذكوري القديم (إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها) فالاقتراب من مجال الذكر، لغة وفكرا وبيانا غير مسموح به عبر هذه اللغة الاستعارية: الصياح، الديك، الذبح لحالة التلبس من قبل الأنثى بالممارسة اللغوية والفكرية والوجدانية.
في مثل هذا الجو الذي يحذر من ممارسة المرأة للكتابة، ظهرت هذه الكوكبة النسوية ممارسة ومقتحمة لمجال ذكوري خالص: هند نوفل (1860/1920) لبيبة هاشم (1880/1947) ملك حفني ناصف (1886/1918) ووردة اليازجي (1838/1924) وطبعا أديبتنا مي زيادة، تمثيلا لا حصرا. غير أن الإصرار من قبل المرأة على التعلم وممارسة الكتابة ووجود تشجيع رجالي على ذلك من قبل نخبة من المفكرين والشعراء ورجال الإصلاح، خاصة قاسم أمين والطاهر الحداد وحافظ إبراهيم وغيرهم، كل ذلك أتاح لمناضلة نسوية أن تواصل نضالها في سبيل تحرير المرأة، ونيل حقوقها كافة، وأولها اقتحامها مجال الثقافة، حيث ظلت ذكورية آمادا طويلة، لغة وتراثا، وأن تقول هدى شعراوي عن مي زيادة (كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة).
دخلت مي مجال الكتابة والصورة النمطية لا تخرج عن توصيف لورا ملفي (في عالم محكوم بالاختلال الجنسي، تم تقسيم متعة النظر ما بين ذكر فاعل وأنثى مستسلمة، تسلط النظرة الذكورية المحددة نزوتها على الشكل الأنثوي المصمم وفقا لذلك. النساء يعرضن وينظر إليهن في الآن ذاته كجزء من وظيفتهن التقليدية الافتضاحية، حيث ترمز هيئاتهن لتعطي أثرا بصريا وإيروتيكيا ليقال إن ذلك يشير إلى ظهورهن كفرجة). هذا الذي تشير إليه لورا ملفي، هو لعبة تبادل السلطات بين ذكر يملك سلطة النظر أو (الطلب) وأنثى تملك سلطة الجسد أو( العرض) وهكذا تختصر الأنوثة في جانبها الإمتاعي الشهواني، ينضاف إليه تراث شعري وحكمي، وربما ديني يصمها بالخيانة والخداع والسفه والسطحية.
لم تكتف مي بالكتابة وقد أصدرت «باحثة البادية» و«بين المد والجزر» و«سوانح فتاة» و«كلمات وإشارات» و«ظلمات وأشعة» و«ابتسامات ودموع» و«أزاهير حلم» وهو ديوان شعر بالفرنسية، لكنها أرادت تكريس علاقة أخرى بين المرأة والرجل، ليست بالضرورة علاقة إيروسية قوامها التثني والدلال من قبلها، والهياج الذكوري من قبل الرجل، ووصف لواعج الهوى وحرقة الشوق وسهاد الليالي الحبلى بالحنين، بل علاقة فكرية وروحية قوامها الجمال والمعنى، وهو ما حاولت تحقيقه عبر إنشائها لصالونها الشهير، الذي كان ينعقد يوم الثلاثاء وقد حف بها نخبة من رجال الفكر والقلم، كشبلي الشميل وأنطون الجميل ويعقوب صروف وجرجي زيدان والعقاد وطه حسين والرافعي ولطفي السيد ومصطفى عبد الرازق وإسماعيل صبري وقاسم أمين.
كانت تكلم الشعراء من وراء حجاب، وهكذا توفرت لمي المرجعية التاريخية والتراثية لتجربة التواصل النسوي مع الرجال، بالكلمة والفكرة والخيال والوجدان.
واشتهر أمر ذلك الصالون حتى صار حقا علامة فارقة في مسار المرأة الشرقية المثقفة في القرن العشرين، وقد قال عنها شفيق المعلوف:
بنت الجبال ربيبة الهرم
هيهات يجهل اسمها حي
لم نلق سحرا سال من قلم
إلا هتفنا هذه مي
جمعت مي الرجال من حولها في صالونها، وهي تعرف ركون الرجل الشرقي مهما كان مستواه الثقافي والإبداعي إلى بداهة التفرد والأسبقية الذكورية، وأن المرأة مهما أبدعت ستظل جسدا يتشهى، وطيفا يتأوب، فالعقاد مثلا ما كان يرى في كتابات مي إبداعا مساويا لإبداع الرجل، ولم يكن يأخذ كتاباتها على محمل الجد، وكتاباته عن مي مردها إلى المجاملة واللياقة، فقد كان يحبها دون أن يفكر في الارتباط بها، والرافعي أدلى بدلوه في مضمار العشق ووجد في مي، خير ملهم لطائفة من كتاباته الرومنطيقية في بيان جزل، مترسل، ناصع العبارة مثل «حديث القمر» «السحاب الأحمر» و«أوراق الورد» وقد أدركت مي ذلك وتعذبت بسببه، فتوجهت بحبها إلى بعيد بجسده قريب بروحه هو جبران خليل جبران، وتبادلت معه رسائل، لكن هو الآخر أصابها في المقتل إنه لا يفكر في الارتباط بها على الرغم من كونه يحبها.
كان هذا أول ما أصاب مي وبدأ في هد عافيتها وتعقدها من الرجال، لقد خف الرجل إلى مجلس مي يوم الثلاثاء، وطاف حول هيكل الحب ومحراب الجمال، وتأوه وكتب الأشعار والخواطر وربما ادعى أنه أسقط «ميا» مغشيا عليها حبا وولها وصبابة، لكنه ظل يحمل النظرة الذكورية نفسها، الموروثة عن تراث ذكوري يرفض أن تصيح الدجاجة صياح الديك ويوصي بذبحها على تلك الحال، غير مقر بفرادة ومساواة وندية القلم النسوي للقلم الرجالي.
يضاف إلى ذلك طمع الأقارب في تركة مي وأملاكها التي أرادوا الاستيلاء عليها بعد وفاة والديها وفعلا حصلوا على إذن طبي بعدم أهليتها العقلية واستحوذوا على كل ما تملك، بعد أن أدخلوها إلى مستشفى الأمراض العصبية، وكان موت جبران عام 1931- وقد أحبته على الرغم من تصريحه لها بأنه لا يفكر في الارتباط بها، وكان هذا ضربة قاصمة لها، فقد ترسخت لديها قناعة بأن النظرة الذكورية للمرأة في الشرق لا تخلو من ظلم وتناقض ونفاق، حتى لو كانت تلك النظرة هي نظرة أعلام العصر الذين جمعتهم في صالونها الشهير، حيث أرادت من خلاله التأكيد على حضور المرأة، لا ذلك الحضور الذي وصفته لورا ملفي تتبادل فيه السلطات، وكانت من خلال الكتابة منافسة الرجل في أداة ظل يحتكرها لقرون وهي القلم، لكن مي أدركت من خلال تجربة الصالون هيمنة النظرة الذكورية التراثية حتى على رواده، ثم أدركت من خلال تجربة الكتابة صعوبة المهمة، نظرا لذكورية اللغة والتراث معا، ثم تظل الكتابة الذكورية سقفا ومثالا تقيس عليه المرأة كتاباتها، هو ما يحول دون تميز وأصالة وفرادة تجربة الكتابة النسوية، وهذا ما باحت به في رسائل كتبتها إلى ملك حفني ناصف المعروفة باسم باحثة البادية، وتعد تلك الرسائل شهادات تاريخية توثق لصعوبة ومآزق الكتابة النسوية، أمام لغة وتراث ومخيال ذكوري كله.
لا مرية في أن النساء اللائي حملن القلم تلك الأداة الذكورية ومارسن لعبة الكلمات محاولات تجاوز عقبة التاريخ والخلفية الفكرية، هن مدينات لتجربة مي زيادة في الكتابة، وفي إدارة الحوار عبر صالونها الشهير مسفرة، متحدثة في غير إغراء أو تبذل، وكان ذلك الصالون استمرارا لصالون عقدته السيدة سكينة بنت الحسين، التي كانت تستمع إلى أشعار الشعراء وتبدي رأيها فيها، وقصتها مع راوية جرير مشهورة في قصيدته:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فارجعي بسلام
لكنها كانت تكلم الشعراء من وراء حجاب، وهكذا توفرت لمي المرجعية التاريخية والتراثية لتجربة التواصل النسوي مع الرجال، بالكلمة والفكرة والخيال والوجدان.
تجربة في الكتابة النسوية تحاول فرض وجودها ولغتها وكيانها المستقل غير عائدة إلى المعيارية الذكورية، استمرت بعد انفضاض صالون مي ورحيلها جسديا عن عالمنا، مع بنت الشاطئ ومفيدة عبد الرحمن ونازك الملائكة وملك عبد العزيز وسهير القلماوي ونعمات أحمد فؤاد ولطيفة الزيات ونوال السعداوي، وحديثا رضوى عاشور وأميمة الخميس وهدى بركات ولطيفة الشعلان وأحلام مستغانمي وغيرهن ممن يضيق المقال عن حصرهن.