قراءة نقدية في ديوان “جزر و مد” للشاعرة المغربية عزيزة صبان / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



تحت عنوان: فيض عاطفة وسؤال وجود

ـ بطاقة تعريف: “جزر و مدّ (وريقات ذكرى)” مجموعة شعرية للشاعرة المغربية عزيزة صبان. صدرت عن “جامعة المبدعين المغاربة” سنة 2021. الكتاب من الحجم المتوسط (68 صفحة)، يتكون فضلا عن أوراقه الخارجية من إهداء وفهرس على 22 نصا شعريا “حرّا”. لوحة الغلاف من تصميم الشاعرة عزيزة صبان.

مقاربة “سيميوزية” (قراءة في عتبات الكتاب):
تروم هذه المقاربة الاستهلالية ـمنهجياـ دعوة القارئ (المحتمل) إلى تركيز الحواس الخمس على “التلميحات” أو “الإيحاءات غير المباشرة ل”لأوراق الخارجية” للكتاب (العتبات) علّها ترشدِه لمقاربة ممكنة. و كانت أقوى الاشارات على الغلاف؛ على واجهته يستوقفنا العنوان الرئيس: “جزر و مدّ (وريقات ذكرى)”. عنوان بجزأين؛ علميا و طبيعيا ترتبط حركتا المدّ و الجزر بتأثير الشمس و القمر على الأرض و البحر؛ أي ارتفاع منسوب المياه (المدّ)، أو انخفاضه (الجزر) فوق أو دون سطح البحر. و تعني هذه الحركة الطبيعية مجازا في التداول العام تعرض شؤون الحياة لإكراهات ذات أبعاد “مانوية:” (manichéiste) النور/ الظلام ـ الحياة/ الموت ـ الفرح/ الحزن ـ النجاح/ الفشل ـ الصعود/ الهبوط… و تقول المعاجم إن “لحركات المد والجزر أهمية بالغة فهي تعمل على تطهير البحار والمحيطات من الشوائب، وكذلك تطهير مصبات الأنهار والموانئ من الرواسب”، لذا نتساءل إن كان وجه الشبه بين الجزر و المد في معناه الطبيعي، و معناه المجازي في هذه المجموعة الشعرية هو نفسه عملية “التطهير”؛ أي تطهير الذات من كل شوائب الماضي الذي تستعرضه الشاعرة عزيزة صبان على شكل “وريقات ذكرى” كما جاء في الجزء الثاني من العنوان الرئيس. هي فرضية ممكنة للقراءة؛ قد يذهب التأويل في تضاعيفها إلى عوالم التصوف التي تحاول الارتقاء بالنفس البشرية ب “تطهيرها” عبر طقوس تعبدية من بينها “الرقص” (بمعنى Transe و ليس Danse)، كما قد نفهم من عنوان أول نص في المجموعة “رقصة جزر و مدّ” (ص.9). و نظرا ربما لأهمية هذا النص لسبر أغوار هذه المجموعة الشعرية، اختارت الشاعرة عزيزة صبان فقرة منه على ظهر الغلاف كأنها بذلك تقترح مجموعة “إيماءات”، و “تلميحات”، و “إشارات” لمساعدة القراء على تكوين فرضية قراءة بدءا من عتبات الكتاب؛ نقرأ على ظهر الغلاف:

“أخشى جلوسا إليك…
يا دواخلي…
فعادتك… نقض ذات العهد…
فكم أخللتِ بنود (لا مساس)
لمقدسات الدوافن…
و نبشت جرما..
مقابر الذاكرة… !!
لتبقى ال (صرت)…
رهينة ال (كنت)…
في معركة اجتثاث..
بين جزر و مدّ..”

فقرة غنية جدا بدلالاتها رغم قصرها من حيث:
ـاختيار الحقل المعجمي/ الدلالي الذي يوحي بنفس “ملحمي” عنوانه “الصراع بين “جزر” (كنت)، و مدّ (صرت)”، و تترجمه صور شعرية عمادها مفردات و عبارات “قاسية” “عنيفة” مثل “نقض ذات العهد”، و “أخللتِ بنود (لا مساس)”، و” نبشت جرما”، و “معركة اجتثاث”… و سيكتشف القارئ طغيان هذا الحقل المعجمي الدلالي و بمفردات و عبارات (“سيمات”) مشابهة في العديد من نصوص المجموعة مثل “نزال” (ص. 20)، و “ذات جوى” (ص. 29)، و”عيد احتلال” (ص. 53)، و “اختناق” (ص. 58)، و “اغتيال” (ص. 60).
ـو من حيث تقنية تمثّل الزمن (Représentation بمفهوم جون بياجي)؛ إذْ سيلاحظ القارئ توظيف الزمن الماضي في كلا الفعلين “كنت” و “صرت” ( والأصل في الفعل الماضي أنه يدل على حدث وقع و انقطع، مضى و انقضى…)، و كأن فعلي الكينونة و الصيرورة مجرد ذكريات من الماضي، و أن الحاضر يعني فقط فعل “التذكر” (باعتبار أن الذاكرة تنتمي للماضي و فعل التذكّر ينتمي للحاضر)، أي مرتبط بزمن الكتابة. و قد يذهب القارئ للتشكيك في فرضية هذا الطرح للزمن (زمن الأحداث بين جزر و مد و قد تمّ و تحقق، و زمن المسافة/ الكتابة/ الخلاص،) من خلال قراءته لنص “ذات جوى” (ص. من 29 إلى 32) و هو بإيقاعين زمنيين متصارعين؛ نقرأ:

ـالإيقاع الأول (ص. 29):
“ذات عهد… قلتَ لي:
تعالي نتفق.. ألا نفترق..
من قلب المحن..
نلملم نبضات شاردة..
ننثرها ربيعا..
على أوردة العناء..”

ـالإيقاع الثاني النقيض (ص. 32):
“دعنا.. نحيا وهناً..
لوعة تلك البدايات..
أو ننعي وهما..
ذلّ فواصل النهايات..
ثم بعدها هوناً..
فلنتفق..
أن نفترق..
ذات جوى”.. !!

لقد جاء توظيف الماضي بفعل “قلتَ” (و قد تحقق) لكنه قولا لا فعلا، لذا و إن كان الأصل في الفعل الماضي الدلالة على فعل حدث و تمّ، فقد يخرج عن هذا الأصل ويصير دالا على المستقبل إذا كانت دلالة الفعل لا تتوقف و لا تنقطع كما في صيغ الدعاء و الشرط… و من هنا تدارك للأمر (“تعالي” ـ”دعنا”ـ “فلنتفق”…) وللمضارع (“نتفق”/ “نفترق” ـ”نلملم”، “ننثرها”ـ “نحيا”/ “ننعي”…). تقنية التشكيك في التحقق من حدوث الفعل في الزمن الماضي (بين جزر و مدّ) غالبة على العديد من نصوص هذه المجموعة مثل “خيني” (ص. 26)، و”غجريتي (سلوى)” (ص. 33)، و “إلى توائم الروح” (ص. 44)، و “كيف حالك” (ص. 56). تشكيك له ما يبرره لأن حركتي الجزر و المدّ في حياة الإنسان عامة و الشاعرة خاصة في صيرورة لا تنتهي و ذلك لأن المستقبل بالنسبة لله حدث في علمه و انتهى، أما بالنسبة للشاعرة فهو كان و سيبقى في صيرورة يتحكمها الجزر و المدّ إلى نهاية القصيدة (أقصد كل المجموعة). و قبل نهايتها، نعيد قراءتها نصا نصا لنرضي كقراء فضولنا و آفاق انتظاراتنا من هذه المجموعة بعدما استفزت ذائقتنا إيجابيا عتبات الكتاب في المستوى السيميوزي لهذه المقاربة النقدية التطبيقية.

2ـ مقاربة سيميائية:
في هذا المستوى الثاني من القراءة، نحاول التقرب أكثر من “دواخل” الكتاب، و بالتالي من “دواخل” الشاعرة أيضا، فتوقفنا عند علامتين أساسيتين (بالمفهوم السيميائي): الحواس، و السؤال.

أـ الحواس:
الحديث عن الحواس في سياق هذه المجموعة الشعرية ليس تنزيلا و لا إسقاطا، فعلى طول ربوع المجموعة (هذا الديوان) تستعرض الشاعرة أحداثا و مواقف من الذاكرة، أي بكل ما لامسته الحواس فعليا و تأثرت به فيزيولوجيا و وجدانيا (نصوص “رقصة جزر و مدّ” (ص. 5)، و “من أنتِ” (ص.17)، و “ذات جوى” (ص. 29)، و”غجريتي” (ص.33)، و “وردتي”(ص. 51)، و “اختناق” (ص. 58)… نماذجا). قد يرى البعض في هذا التوظيف للحواس ميولا من الشاعرة عزيزة صبان في سؤال الكتابة الشعري إ إلى “الفلسفة التجريبية” (L’empirisme)، ليس بمعناها العام الذي ظهر مع دافيد هيوم، لكن بمفهومها الرافض في سياقنا للكتابة كمجرد “محاكاة” لأنماط قبلية، أي: كتابة تستلهم مادتها المعرفية و الجمالية عن طريق الحواس و الخبرة، أي انطلاقا من تجربة معاشة فعلا؛ نقرأ من نص “خذيني” (ص. 26):

“خذيني.. حبا…
سلا قلبك..
أو.. بلسما…
كف.. جرحك…
أو.. نسيما…
داعب خدك…
أو.. نديما…
قارع.. ليلك…
خذيني.. حرفا… “

“تشخيص (تجسيد) بلاغي” لعناصر من الطبيعة (بلسم يكف، و نسيم يداعب، و نديم يقارع…) يعيد مجازا صورة “الجزر و المد” للأذهان؛ أي مدى وطأة ما تتلمسه و تحس به الحواس الفيزيولوجية على الوجدان، أو ما سمّته الشاعرة “دواخلي” في نص “رقصة جزر و مد” (ص. 5). و قد لا يختلف النقاد لاعتبار هذه التقنية الفنية في المزاوجة (في علاقة جدلية) بين الحواس الظاهرة (الحواس الخمس الظاهرة كالبصر و السمع و الذوق و الشم و اللمس، و الحواس الخمس الباطنة (بالمفهوم الفلسفي) كالحس المشترك و الخيال و الوهم و الحافظة والمتصرفة.)؛ نقرأ:

“أخشى جلوسا إليك…
يا دواخلي…
فعادتك… نقض ذات العهد…
فكم أخللتِ بنود (لا مساس)” (ظهر الغلاف).

و نقرأ:
“شجرة غضة..
كنت يوما.. فرعها…
عبث خريف الأسى…
بدواخلي…
و عصف بي … عصفا…” (من نص “خريف”ص. 11).

تناغم بين الأحاسيس الملموسة و المشاعر الدفينة و بفنية عالية يحسب للشاعرة عزيزة صبان إذ لم يفلح في توظيفه إلا كبار الشعراء و من بينهم رواد المدرسة الرمزية الفرنسية أمثال بودلير و ما لارميه…

ب ـ السؤال:
و دائما في إطار هذا التأثير و التأثير المضاد بين عناصر الطبيعة و “دواخل” الشاعرة، و من أمهات العلامات كذلك (بالمفهوم السيميائي) التي تم توظيفها في هذه المجموعة الشعرية “سؤال الهوية”. بداية يستفزنا السؤال “من أنتِ؟” في نص يحمل نفس العنوان/ السؤال (ص. من 17 إلى 20)؛ نقرأ:

“من أنتِ؟
سؤال عليّ طُرِح..
في لحظة.. تداعى لها عمرٌ..
يداري سوأة الأيام..
(…)
أنا التي.. لثمت الحياة..
حبا بلا طمع..
(…)
أنا التي أودعت الخطأ..
مآرب دمع…
(…)
أنا التي أعلنتها..
بهجة.. على وجع..
(…)
أنا التي.. عبرتُ ودا..
قاصٍ و من دنا..
(…)
أنا بسمة أمل..
أبت.. إلا أن تكون أنا..
معناي ثبات..
في أراجيح هوى..
و عمري نهار..
يطلب ليلا.. حثيثا..
ذاك التناقض…
لستُ إلا إنسان.”

و كأننا داخل العوالم المتناقضة للانسان كما في “مربع سيميائي” مبني على مقولة “نفي النفي” (لحظة/ عمر… ودا/ قاص/ دنا… سوأة الأيام/ بسمة أمل… ثبات/ أراجيح هوى… نهار/ ليل…).

و نطرح بدورنا سؤالا محوريا من منطلق علامة “الجزر و المدّ” (من عنوان الديوان) و علاقتها بهوية الشاعرة:
ـمن خلال سياق هذه المجموعة الشعرية نستشف ان عمليتي “الجزر و المدّ” بدلالاتهما المجازية تختزلان كصور شعرية صراع الأنا مع الأنا بين كينونة (الماضي) و صيرورة (الحاضر و المستقبل)، و نعلم أيضا في السياق العام أن “المفعول به” تحت تأثير المد و الجزر هو “البحر” أولا و أخيرا؛ فما علاقة “أنا الشاعرة” ب “البحر” من منطق وجه الشبه داخل سؤال الهوية؟
فتجيبنا الشاعرة بنص بالغ الإيحاءات و بليغ المعاني و الدلالات تحت عنوان: “سل البحر..” (ص. 22):

“يا سائلا.. عن حالي..
سل البحر.. ينبئك أخباري..
موجه..
بعض منه.. دمعي..
و بين رماله..
دفنت أسراري..
أفقه..
أودعته بوحي..
فتهاوت تباعا..
كل أستاري..
حضنه..
كم طاب به.. ابتهالي..
و استغفرت أوبا..
كل أعذاري..
و لنا عودة لهذه المجوعة الشعرية الرائعة.

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب