مقاربة نقدية لبعض إبداعات الشاعر المغربي أحمد المنصوري / بقلم: ذة. باسمة العوام / سوريا



شاعر يطوي السطور، ينثر فيها ورود حروفه..
وعلى إيقاع المشاعر المختبئة في زوايا الروح، تستفيق ساعة زمنه.. فتشرق تلك الحروف، تراقص كاتبها وتبعثر فيه العقل والقلب والعين والأنامل ومداد القلم فيقول:

“وتتطاير أعضائي شظايا حروف
في كل حرف يلمع برق
ويشب حريق
فينير الطريق.”

-وللقصيدة في قاموسه، تعريفها وأبجديتها.. سحرها ودلالاتها.. وأجنحة تحلق بها..
هي طفلته ومعشوقته.. ملهمته وملكته..
هي عالم تكتبه ويكتبها.. فيصوغ لها أبجدية تليق بها..

ويقول لها شاعرنا المغربي المبدع الأستاذ Elmansouri Ahmed (أحمد المنصوري):

“يا أنت..!
أيتها القصيدة الساكنة في دمي..
من عدلك؟
من سواك سلطانة الشعر؟
تبايعك اللغات .
وتغني لك الكلمات أناشيد الحياة
يا أنت..!
أيتها المسكونة بالهذيان المتمرد
أيتها المهووسة بالجنون الحالم
يا أنت..!
أيتها البهية.. الراقية.. الشفافة..
يا روحا مضمخة بعطر اﻷمنيات
ما أجملك وأبهاك !
ما أروعك!”.

-بحر هادر، وتارة هادئ.. جزر ومد، وشطآن و مرافئ..
وأسرار وحكايات.. هو عالم شاعرنا الذي يتنفسه كلّما عبرت نسائمه فيقول له:

“من صدى البحر..
من هدير موجه تشرقين..
يا أميرة الصمت والكلام
والموج والسحاب
أيتها القصيدة
كيف ينتشر سحرك البهي
صداك/مداك في الرياح..!
فما عدت أتنفس سواك”.

-وكلّما غرق كاتبنا في عالم الكتابة، تزاحمت بين حروفه الصور والاستعارات والإشارات.. وانتابته حمُى الأفكار تستفزّ تلك الموسيقى الصاخبة التي تتوالد في دمه فيرتعش قائلا:

“رعشةُ الكتابة
أهيَ الكتابةُ حرفةٌ أم نقمة؟
محنةٌ وعذاب
أم جليدٌ وضباب؟
عشقٌ سرمدي
أم جنون أبدي؟
تسحرني الكلمة
وتستفزُّ ما في القلبِ
من حبٍ ومن نجوى
هوَ ذا التيهُ اﻷعمى
يشدُّني إليك……”

-إذا.. هي رعشة الكتابة..
على إيقاعها يعزف شاعرنا فكره الفلسفي، ويغنّي ويرسم بوهجها حروفه، يلملم سحر الصور والاستعارات الفنية واللغوية المتخيّلة ليرفد ذاك النهر المتفجر داخله..
فيقول عاشق الحكمة:

“مَحبَّة الحكمة
بُومةُ أثينا البلهاءْ
تُحلِّقُ كلَّ يومٍ في السماء
تزورني خِلسةً في المساء
تمنحني حكمتها الصمَّاء

*******
نهرٌ
يحملني
يسير بي بين الماءِ والماء
أهوِي وأهوِي…
وأهوَى هوىً وهواءْ
له ظنونٌ
له أعينٌ
له جفونٌ
وليَ شجونٌ وسجونٌ وجنون.”

-ومن فلسفته ومحبته للحكمة، إلى عشقه ومعبد أشواقه واحتراقه في محرابه.. يقول:

“وإذْ يتأهبُ القلبُ
للخشوع في محراب العشقْ
يهزُّه ملكوت الشوق
فيسلبه نور الحب الأخرقْ
كفراشةٍ ترنو إلى الضوء
تعانقه وهي تحترقْ”.

-إنك وأنت تقرأ للشاعر الأستاذ أحمد المنصوري ، لابد أن تُعمل التفكير طويلا ، وتتمعن في كلماته المختزلة ، شديدة الإيحاء ، وتصويره الرائع ..لتصل لما يخفيه من معان حاضرة تتعانق بين السطور..
فتراه يروي لك حكاية الشعر بقوله:

“وتذوبُ اﻷوجاعُ
حروفاً مِن لهبٍ ونارْ
تتشكَّلُ منها الكلماتْ
تتناسلُ في أوصالها
دهشةُ الدلاﻻتْ
فتحدث دعراً..
هدماً.. ودمارا
ثمَّ تنشر حباً.. حلماً..
سلماً وأمناً وأمانا
تتعانق الحروف
وترتدي دِرعاً منَ اﻹيحاءات
ﻻ يَفُلُّهُ زمنٌ ولا موتٌ
وﻻ يخترقه رصاصٌ..
ولا قنابل.. ولا حديد
وﻻ يطالهُ نسيان
هوَ ذا الشعرُ
إنه روحٌ سرمديةٌ
تسري في الحروف و اﻷصواتْ
فتقاومُ الموتَ
وتعلنُ استمرار الحياةْ”.

-وللوطن في كتب شاعرنا.. حكاية ورواية وتفاصيل وشجن.. عتب وقهر وبركان غضب يتفجر..
وطن فيه كل شيء يتغير.. تتوالى عليه الفصول مختلفة فربيعه يُسقِط الأوراق الخضراء.. شتاؤه قاحل وسماؤه سوداء.. صيفه حارق بلا ثمر، وخريفه بركان وعواصف تبعثر الأحلام وتقتلها..
وطن مازال يقبع خلف قضبان العذاب، تشاغله أحاديث الجراح والطفولة اليتيمة والحرمان..
فهل يتعب الدم من الجريان؟ كما جاء على لسان شاعرنا:

“دم العروبة المتعبة
اندهاشٌ أن ترى
الشمسَ ترقُص عريانةً
ومن خصرها ينزفُ
دم العروبة المتعبةْ
صرختْ نجمةٌ
من هولِ الصاعقة.
انتفض البحرُ وانتحب الرمل
انتشر الحريقُ
في الأمواج العاتية.
تثاءبَ الهواء
فاختنق الأمل……”

“الضباب الزاحف على وطن منهك
مثقل بدموع تماسيح
ﻻ تجيد سوى تصنع البكاء
والذبح باسم التكبير
أيها الشعب الصادق
عمت صباحاً
فمتى يبدد نورك عتمة النفاق…؟”

-وفي القدس ياوطني.. مقاعد الانتظار مهجورة، لاشيء عليها غير سكاكين الغدر وطهر الدماء.. لم تحركها الأيام.. ولم تصلها غير بصمات التخاذل و الخذلان..
تلك العاصمة العربية الأبية التي تسكن القلب والوجدان يقول لها شاعرنا:

“قافٌ…
قاب قوسين أو اقربُ
مهوى القرطـِ
في قاموس الأقلام
قِرطاسٌ يستهزئُ
من اعلام قادة عرب ورق
يقرفصون على الشعوب
يطفؤون ضوء القمرْ
ويزفُّون عروبتهم
للأغراب ُتغتصب
دالٌ ..
دمٌ يستلقي ضاحكًا
من دونية تجذرت
في ذواتهم وهم يدرون
بيد أنهم عاجزون ومنبطحون
سينٌ ..
سماءٌ جفت دموعها
من كثرة البكاء
سكين كسرى انوشروان
تسلخ هوية ممسوخة
تسمى مجازا عروبة
لكنها بكماء
قافٌ.. دالٌ.. سينٌ ..
تسكن الحروف قلبي
كما هي باقي العواصم والأقطار
من الريف إلى الرصيف
وهذا النزيف
الذي يجتاح كل الأمصار……”

-وتبقى تقودنا الأحلام.. سفراء لوطن يطوف القهر أرجاءه..
أحلام ليست من الخيال.. بل مرآة للواقع تشظّت فصارت أسماء وسماء ومساء ومأساة.. فكتبها شاعرنا يقول:

“حلم تشظى، وانتشر
وطعنة في القلب ليس لها قرار ولا مستقر
يا أصدقائي الشعراء
أيها المجانين واﻷنبياء !
أيها الفقراء اﻷقوياء
أيها الراؤون والمبصرون
أيها المستضعفون المهمشون
أيها اﻷمراء والشهداء…
كيف لي أن أقرأ حلما
يحبل بالدهشة وآلاف الصور؟!
ويسافر بي ..
بعيداً.. بعيداً..
حيث أرى غيوما تمطر نارا وحجر.
ورعدا يبرق جماجم وصور.
وأرى ملاكاً يشنق نبياً
وطفلا يلوك الصخر.
وأرى شمسا تتقيأ ثلجا
وتنثر دروساً وعبر.
وأرى في السماء أسماء تبكي
من اﻷلف إلى اﻷلف
ومن السين إلى السكين
وأرى فيما أرى
زمناً يلهث
مفقوء العينين ..
بارز النابين..
ومكشوف العورة للشعراء
وحوله أطفال يقهقهون..
ويتصايحون ثم يهرولون..
واﻵن. والقصائد أسماء
تنسرب تباعاً..
أسماء تربعت على عرش سماء هاوية
فهوت.
أسماء.. سماء.. مساء..مأساة..”

-كل تلك القصائد والرسائل والعناوين والصور الغارقة في تفاصيل الواقع والأحلام.. وشاعرنا مازال يبحث عن قصيدة تمتشق سجى الظلام لتضيئ شاخصات الليل.. تتسلل إلى منصّات الوطن فتزهر وتفتح أبواب العزة والكرامة وتداوي الجراح… فيطول يطول به المطاف ويقول:

“لازلتُ أبحث عن قصيدة..
يفوحُ من حروفها
عطرُ الرياحينِ والأزهارْ
وذويُّ القنابلِ
ورجمُ الأحجارْ
لازلت أبحث عن قصيدة
تَلأَمُ بالحبِّ
وتداوي بكي النارْ
جِراحاتُ وطنٍ محتارْ
وتُرتِّقُ بالرؤى والأحلام
شروخَ جسدهِ المنهكِ المنهارْ
لازلت أبحث عن قصيدة
تُغني فجيعةَ الزمن العربي
وتغسل بالدّمع تاريخه
تغطي عورته
وتفقأُ أعينَ أولائك الكفار
الذين لا يؤمنون
بأن الوطن فردوس
وما يسمونه المواطن
هو في أسمى تجلياته إله
لازلت أبحثُ عن قصيدة
تُنصفني بين شعوب الأرض
تغسل عروبتي من العار
تُكسر كل العروش الواهية
وتجعلني أتربع على أرضي الغالية
فأعانق كل المعذبين
وأُقبل جباه المتمردين….”

-في النهاية، وأنت تلهث بين سطور هذا الشاعر الكبير، علّك تخرج من زحام حروفه وكلماته، تجد نفسك غارقاً في مدادٍ سرمديّ بلون قوس قزح، يرسم طريقاً لكل القصائد..
فإن سألته متى تكتب ولمن تكتب؟ لأجابك:

“ﻻأكتب إﻻ عندما
تختارني القصائد
ﻻ أصمت إﻻ بعدما
يجتاحني الكلام
ﻻ الداء شرنقة الم
وﻻ الدواء..
ﻻ النار… ﻻ المياه..
و ﻻ الهواء..
ﻻ الظلام يسكنني ..
و ﻻ الضياء.
أولج النور في النار
وأستل من شرياني قبسا
أشق به طريقاً للشعراء
علهم يهتدون
يشعرون ولا يعلمون
وفي غياهب ظلمات حروفهم يقبعون
يبصرون وﻻ يتكلمون…”.

-سيبقى مداد قصائدك أيها المبدع: (أحمد المنصوري) Elmansouri Ahmed وستبقى حروفك تزلزل الكون سحراً وبهاء كما قلت:

“تخنقني القصائد
فأنزف سحراً يزلزل الكون.”

ذة. باسمة العوام / سوريا



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *