بنيات التقابل الدلالي في قصيدة “كي أطلع على تبعثري” للشاعرة أسماء المصلوحي / بقلم: ذ.سعيد محتال / المغرب



1- فاتحة
أطلت علينا الشاعرة أسماء المصلوحي بقصيدة غزت كل مكان سديم فينا مبعثرة بذلك الدلالات والمعاني المألوفة لدى السامع لترسم لنا معالم نص قوي بانزياحاته وغني برموزه التي جسدت لنا صور نهار تائه داخل قلاع غرفة تفتحت فجأة كل نوافذه على قلب جرفته سيول خفقان الطين، تتراقص بأغراضه المنسابة كفراشة مولعة بحركات صوفية تبحث عن مأوى داخل الزمن العسير المثقل بالهموم حتى كاد القلب يتوقف من شدة حرقة لهيب الجراح وعثاء الوقت الممتد الى ذاكرة عجز عن مداراتها والتلطف إليها بعد استعانتها بالتضرع وسيرها بخطى ثابتة نحو غايتها رغم ما أحدثت من فوضى بالمكان ليستقبل النور والضياء المنبعث من جديد.

2- عتبة العنوان
اختارت الشاعرة أسماء المصلوحي كعنوان للنص:
“كي أطل على تبعثري”
ومجرد الوقوف على عتبة النص تستوقفنا عدة تساؤلات من حيث الشكل والمضمون؛
ما الايحاءات التي ترمز اليها هذه البنية التركيبية التي جسدت التبعثر الذي تود الشاعرة التلميح اليه!؟
لِم اقتصرت الشاعرة على ذكر الجملة المصدرية دون تبيان فعلها
أين يمكننا ايجاد الاجابة عن هذا الشطر من الدلالة غير الكاملة!؟
أم هي ايحاءات مقصودة لتأخذنا الى عدة تأويلات قبل الخوض في مضامين النص التي قد ترشدنا الى المقصود من هذه الفاتحة غير المعلنة
كَي: (حرف/اداة)
حرف مصدريّ، ونصب واستقبال يفيد التعليل، وقد تدخل عليها اللام، وفي حالة النفي يأتي حرف النفي بعده، وقد يتَّصل به جاء كَيْ يساعدَك،
المختصر
كما أنها حرف يدلّ على الرّجاء
حرف يفيد التعليل إذا وقع بعده أنْ المصدريّة ويكون للجرّ في هذه الحالة جئت كيْ أنْ أتعلم.
فالجملة المصدرية كما هو معلوم تتكون من حرف مصدر وفعل مؤول لفاعل،
و إذا كان الحرف المصدري هو (كي) فإننا نحذفه ونعوض الفعل الذي بعدها بمصدره الصريح مقترنا باللام (كي أطل على تبعثري=للإطلال على تبعثري)
كي أطل: هي اذن جملة مصدرية جاءت لتعلل ما سبقها المضمر في ذهن الشاعرة غير المصرح به علانية
وهي تناسب هذا التبعثر الوارد في قولها: “أطل على تبعثري”
الضمير المتكلم الوارد في الجملة يرشدنا الى من قام بالفعل، انها الشاعرة نفسها
تطل علينا بحروفها المتبعثرة كهذا العنوان الناقص لتهمس في أذاننا ان هناك ما يشغل بالها ويسبب لها هذا التشتت الذهني،
وهنا صار لزاما أن نغوص معها عبر هذا الباب الذي فتحته كي نلج عالم النص لعلنا نعثر عما يفسر لنا هذا الغموض، علما أنه كما يرى غالبية النقاد أن العنوان هو آخر ما يكتب في القصيدة، أو ان الشاعر لا يهدأ له بال في اختياره حتى تكتمل القصيدة، وإن كان العنوان أول ما يفكر به، ومعنى ذلك أن العنوان له صلة قوية بالقصيدة، فهل معنى ذلك أن العنوان الذي هو من حيث التركيب جملة الصلة له ارتباط بالفاعل اي النص أم ان هناك هو ما هو سابق عن ميلاد النص وله امتداد عبر الزمن الذي سبق القصيدة، فكيف نفسر إذن هذا التباين؛
“”كي أطل على تبعثري””

3- بنية التقابل في قصيدة ودلالتها:
التقابل لغة يراد به المواجهة، والتعادل.
وفي الاصطلاح هو “وجود لفظتين تحمل إحداهما عكس المعنى الّذي تحمله الأخرى، مثل: الخير والشرّ، والنور والظلمة، والحبّ والكراهية، والصغير والكبير، وفوق وتحت، ويأخذ ويعطي، ويضحك ويبكي.” ظاهرة التقابل في علم الدلالة: أحمد الجنابي 15.

اخترنا كمنطلق هذه البنية الدلالية لما لاحظناه من تقابل كبير بين كافة مكونات النص الدلالية بدءا من العنوان وانتهاء بما تضمنه النص من تقابلات شتى جعلت منه وكأننا أمام واجهتين متقابلتين بين صراع خفي ومعلن قد يصل الى حد التضاد والتنافر المعنويين، تجلى في إحداث تَنَاثُر (تبعثر كما تقول الشاعرة) على مستوى السياقات العامة للنص، بل وجدناها تخفي عنا بعض الكلام بالعنوان نفسه.
و “التقابل أو المقابلة أسلوب تعبيري يقوم على مبدأ التضاد بين المعاني والألفاظ والأفكار والصور من أجل غايات بلاغية وفكرية وهي طريقة في اداء المعاني وإبراز تضادها وتناقضها. وتعود إلى قابل الشيء بالشيء إذا واجهه من ذلك يصبح لها معنى المواجهة”. (الدكتور بوشعيب: كاتب وأكاديمي مغربي: بلاغة التقابل في الكرسي الأزرق)
والتقابل وارد بكثرة سواء في الكتابات الشعرية القديمة أو الحديثة.
وقبل ابراز خاصيات هذه الدلالة والوقوف على تأويلاتها لابد من تقريب مضامين النص للقارئ:

“سديم هو المكان
أسير إلى بعض قامته
فيعثر علي في منخفضات ظله”

غير اننا نفاجأ ثانية أننا أمام سراديب مغلقة بإحكام، ليس من السهل ولوجها بأمان دون بدل جهد من التركيز والاهتمام حتى نصل الى المعنى الذي يسعفنا ويبدد هذا الظلام:

“سديم هو المكان”
بداية مقفلة على ذاتها لن توصلك الى اي مكان مادام السديم قد عمّ ،وهي كلمة تحمل عدة دلالات :
سَديم: (اسم)
الجمع: سُدُمٌ
السّديِم: التَّعِبُ
السّديِم: السِّدِرُ
السّديِم: الماءُ المندفِقُ
السّديِم: الضَّبابُ الرقيقُ
السّديِم: تَكَاثُفُ أوْ تَجَمُّعُ نُجُومٍ بَعِيدَةٍ تَظْهَرُ وَكَأَنَّهَا سَحَابَةٌ خَفِيفَةٌ، أوْ بُقَعٌ ضَعِيفَةُ النُّورِ، كَمَا يَتَكَوَّنُ السَّدِيمُ مِنْ غَازَاتٍ مُضِيئَةٍ شَدِيدَةِ الحَرَارَةِ، تَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهَا.
والسديم في المعاجم العربية عموما هو التعب، والماء المتدفق المنساب والسِّدِر، وهو أيضاً الضباب الرقيق والضوء الخافت للنجوم في السماء.
ونحن نرجح الدلالة الاولى لتناسبها مع الدلالة الواردة في العنوان فالتبعثر يسبب الأرق والتعب
تقابل وتبادل للأدوار بين المكان والانسان في الوقت الذي كان الانسان هو الذي يتسابق الى المكان، ترشدنا الشاعرة الى ان المكان هو من يبحث عنها ويطاردها في الوقت الذي تسير الى بعض من قامته:

قامة: (اسم)
الجمع: قامات
القَامَةُ: وحدةُ قياس طولُها سِتُّ أقدام تُستخدَمُ عادةً في قياس أَعماق البحر
كلمات كلها توحي اليك بعمق المعاني التي تسعى الشاعرة جاهدة لطرق ابوابها والاتيان بها على وجه تصوير مشهد يوحي بالتبعثر:

“فيعثر علي في منخفضات ظله”
زيادة في تعميق المشهد:

من سديم
الى
قامة
الى
منخفض
الى
ظل..
كل مرة نجد أنفسنا نغوص الى درك اعمق من سابقه.
من ظلمة الى ظلمة لنصل الى باب موصد:

“ليس لي باب ألجه
كي يبزغ نهار التيه”
مكان لا باب موصل الى قامته، ولا امل في بزوغ نهار وأي نهار؛
نهار التيه
مشهد جد مؤثر صور تعبيرية بليغة وبديعة اختزلت العديد من الكلمات في حقل دلالي معين ومحدود من الكلمات التي باتت رموزا لعدة دلالات، وكأننا أمام لوحة رسمها فنان بألوان قاتمة يصعب التقاط صور مضمونها.
وليس لنا سوى منفذ واحد يسمح لنا بالغوص من بعيد:

“كل النوافذ تطل على تبعثري
هنا حافة
هناك خلخال”:
الحافَةُ: النَّاحية أو الجانب
الحافَةُ: الحاجةُ
الحافَةُ: الشِّدّةُ في العَيش
حافَةُ الشَّيءِ: طرَفُه وجانبُه
وتستعمل الكلمة للدلالة على شيء في وضع خطير، أو قريب من الهلاك.
الخَلْخال: حِليةٌ كالسِّوار تلبسها النساء في أَرجلهن والجمع: خلاخِيلُ
ثوبٌ خَلْخالٌ: رقيقٌ
ويمكن الوقوف على بعض الدلالات من خلال العودة إلى احد المشتقات:
تَخَلْخَلَ الثَّوْبُ:
بَلِيَ، رَقَّ بَدَأَتْ أَسْنَانُهُ تَتَخَلْخَلُ.
تَخَلْخَلَ مِنْ مَكَانِهِ:
تَحَرَّكَ.
تَخَلْخَلَتِ الْمَرْأَةُ:
لَبِسَتِ الخَلْخَالَ.
تَخَلْخَلَتِ الآلَةُ:
اِنْفَكَّتْ، تَصَدَّعَتْ.
تَخَلْخُلُ أَجْزَاءِ الآلَةِ:
تَفَكُّكُهَا.
تخلخل الجيشُ:
تشتت وتفرّق، أصبح غير منظم.
من هنا يمكن استنتاج بعض المعاني القريبة مما سبق من القول،
معان توحي بالتصدع والانهيار والتمزق،
مشهد آخر ينضاف الى المشهد السابق الموغل في الانحدار والقرب من الوقوع في الهاوية، فما سر كل هذا الوجع المحدق بالذات البشرية التي ما عادت تجد الأمن والشفافية المعهودة في المكان، والذي بات مظلما.
هل في الامر إحالة إلى حالة من الاغتراب والتصدع!؟
“والرنين غرفة مغلقة على رقص الأشياء
تجري ألسنة اللهب
في خبء ذاكرة الانطفاء”
نوافذ مطلة على تبعثر الأشياء التي تحيط بأنظار العين:
رَنين: (اسم)
مصدر رَنَّ
رَنينٌ: صوت، صوت حزين
رَنينٌ الْمُشْتَكِي: الصِّياحُ عِنْدَ البُكاءِ
-الرنين علميا: ظاهرة تتلخص في استجابة جسم ذي تردُّد طبيعيّ معيَّن لموجة صوتيَّة تردُّدها يساوي تردُّد الجسم
حجرة الرَّنين علميا: تجويف أو حجرة خاوية بأبعاد مختارة تسمح بالتَّذبذب الدَّاخليّ الرنينيّ للأمواج الكهرومغناطيسيّة أو السَّمعيّة ذات التردُّدات المحدَّدة.
لنلاحظ كيف جعلت من الرنين الذي هو الصوت الحزين إلى تجسيد مكاني
قصار الرنين غرفة
“والرنين غرفة مغلقة”
جعلت من الرنين مكانا مغلقا يتراقص من شدة الوجع الذي أحدثته الأشياء الغارقة في جوفه
وللزيادة في تصدع المكان وظفت ألسنة اللهب التي تبقي شيئا ولا تذره الا زادته احتراقا وشدة في التصدع والتفرق والتطاير كالشهب المحرقة منبع هذه الألسنة الملتهبة
“ذاكرة” التي تختبئ بها أوجاع غير قادرة على الانطفاء.
صورة تجسد الواقع المرير الذي تواجهه الشاعرة، هموم متواصلة مقبلة غير مدبرة توقظ لهيب الألم وتجعل منه المهيمن على المشهد؛
ليت الأمر مقتصر على المكان بل تعداه الى الزمان أيضا، تشخيص للوقت ومشتقاته ليشاركها همومها وأحزانها:

“يلوذ الوقت بوعثائه
وساعة القلب تدق
تك.. تاك.. تك.. تاك.. ت.. ت.. ك
معلنة منتصف الكأس”
الوَعْثَاءُ: المشَقَّةُ والتعب
وكُل خصلة مكروهة،
وقت مثقل بالوعثاء، كبد في كبد لا يهدأ له بال، حتى كاد ساعة الوقت تتوقف من شدة الوجع:
تك.. تاك.. تك.. تاك.. ت.. ت.. ك
احالة الى مشهد مشرف على النهاية وكأننا واقفين على أعتاب نص مسرحي درامي، القلوب متوترة ومتأثرة بقساوة المعاناة التي يواجهها البطل قبل سدل الستار:
معلنة منتصف الكأس
نظرية نصف الكأس شغلت بال الكثيرين بين متفائل أومتشائم بين الرغبة في البقاء او التجديد،
وكأن الشاعرة تضعنا في منتصف الطريق، بين الرغبة في مواصلة السير أم العودة الى الخلف، هل سنبقى كمتفرجين على المشهد أم علينا مواجهته بكل ما أوتينا من قوة،
الاجابة ستأتي من الشاعرة نفسها:

“أغادر قليل بعضي المقيم في فيئك
كي أبقى بصحبة كلي المتخلي عنك”
الفيء: جمع أَفْياءٌ ، و فُيوءٌ
الفَيْءُ: الظِّلُّ بعد الزوال ينبسط شَرْقًا
الفَيْءُ: الخَرَاجُ
الفَيْءُ: الغنيمةُ تُنالُ بلا قتال.
الفيء بالنص جاءت بالمعنى الثاني لاقترانها بالوقت، فمغادرتها لجانب الظل بعد الزوال وقت شدة الحر يوحي بصعوبة الأمر وتعريض الجسد للهلاك والظمإ الشديد، وهذا هو المعنى المقصود من عبارة “أغادر قليل بعضي المقيم في فيئك”.
ما الذي جعلها تلوذ عن الظل في هذا الوقت، سرعان ما نتلقى منها بإجابة:

“كي أبقى بصحبة كلي المتخلي عنك”
لنتأمل الصورة الرمزية كاملة
“أغادر قليل بعضي المقيم في فيئك
كي أبقى بصحبة كلي المتخلي عنك”
التضحية والاتحاد بين النفس والجسد للصعود بالذات الى أعلى مراتب العناق،
مشهد صوفي بكل تجلياته
انفصال عن المكان وهروب منه هرولة للصعود بالذات الى أعلى مراتب المحبة والعشق الأبدي، مستخدمة أداة النداء كوسيلة للعبور الى زمن جديد بعيدا عن وعثاء الزمن المرير:

“أيها الوقت المضرج بي
تمهل.. تمهل
قبل أن تجرف كل سيولك في ليالي شتائي”
طلب بصيغة النداء ليكون شاهدا على ما تمر به الأحداث من معاناة، تجسدت في صعوبة اللحاق الوقت الذي لم يكترث لما خلفه المكان من تبعثر شمل كل الأشياء المحدقة بالمكان، والتي قد تتعرض للانجراف والضياع وهي تتعرض لسيول اخفت ملامح الدموع، وكأن الأوجاع صارت هم، حتى ان السيول التي قدف بها الزمن لم تتنبه لشكاوي الشاعرة المتكررة، وصرخاتها المدوية التي تواجه المستحيل:

“بيني وبين المستحيل
ممكن أداريه في خفق الطين
والأرض رحيبة أمام خطوات قنوتي”
استعانت الشاعرة بخلواتها ودعواتها راجية بعد كل ذاك الصد أن تجعل المستحيل ممكنا ما دامت تتفتح الارض أمامها، لينتقل فجأة هذا السديم الى رحاب اوسع من المكان، تاركا أثره الدفين الذي لم يتلاش رغم رحابة صدرها وسعة نفسها:

“سديم هو الزمن
يمشي نحو رفضي
حتى أقبل ضوء مجيئها”
وكأن الزمن نفسه يشاركها آلامها وأحزانها.
“يمشي نحو رفضي
حتى أقبل ضوء مجيئها”
هكذا هي الشاعرة صمود وثبات أمام الصعاب لتجعل مما تبعثر أمام أنظارها قابل للتجدد والخضوع لمجيئها الذي أنار دروب المكان والزمان المظلمين ليتفتحا من جديد مستقبلين نور أحرفها التي لا تبالي لأي سواد مادام الفجر قادما.
إن من يعرف الشاعرة جيدا والتي لا تفارقها الابتسامة أينما حلت -وهي القائلة: “العبوس ليس من لوازم ملامحي.
أنا أعشق الإشراق الذي تعبر عنه ابتسامة من القلب-“.
يدرك جيدا أن هذا الأنين انما مصدره الواقع المرير الذي تمر به الأرض من أزمات صعبة وظروف قاسية تجعل من القلب يدمع قبل العين، ولكن كبرياءها وقوة شخصيتها جعلا من الزمن لا يغادر المكان قبل أن يتوسل اليها:

يمشي نحو رفضي
حتى أقبل ضوء مجيئها
قفلة مضيئة أقبلت لتعيد ترتيب ما تبعثر بفعل سديم هيمن كل مضمون النص ابتداء من المكان وصولا إلى الزمان، وما خلفاه من تأثير على النفوس، بيد أن الشاعرة أبت أن تنغمس وسط الزحام المظلم، فقررت أن لاتقدم أي تفسير للدافع الذي جعلها تطل على هذا السديم المحدق بها من كل جانب، واكتفت بالتأمل ومواجهته من خارج الفعل والحدث لكن ذلك ترك تداعيات ملحوظة على نفسيتها رغم ادعائها بأنها لن تستسلم لانجرافاته القوية:

“أيها الوقت المضرج بي
تمهل.. تمهل
قبل أن تجرف كل سيولك في ليالي شتائي”
هيمنة ضمير المتكلم يوحي إلينا بأن هناك ما يحرك وجدانها من الداخل:

“في خبء ذاكرة الانطفاء”
وكأن (أرواحنا تكتب وما نحن إلا أقلام؛ أسماء المصلوحي).
-دلالة التجاذب والتنافر:
وكأن الصور الشعرية التي تم سردها مدفونة في أعماقها لا تفارقها لحظة، مما ولد نوعا من التجاذب الداخلي النفسي بين ذات الشاعرة وذات الشخصية الحقيقية، مونولوج بارز بشكل قوي متمثل في اعتمادها أسلوب التقابل الدلالي الداخلي:


أسير/ يعثر
نوافذ/ غرفة مغلقة/ ليس لي باب..
هنا/هناك
بعضي المقيم في/ كلي المتخلي عنك
بيني/ بين المستحيل
يمشي/ أقبل
المكان/ الزمان
جدلية قائمة على طول النص حتى من حيث الأصوات والضمائر:
هو/هي
هو/ أنا
المتكلم/ الغائب

أصوات ذات الصفات الضدية:
المهموسة:
“ت، ح، خ، س، ص، ط، ف، ق، ك، هـ”.
حتى ان اصوات دقات ساعة القلب كادت تتوقف:
“تك.. تاك.. تك.. تاك.. ت.. ت.. ك”

الأصوات المجهورة:
“ب، ج، د، ذ، ر، ز، ض، ظ، ع، غ، ل، م، ن، و، ى”.
ويبدو أن أصوات الجهر هي المهيمنة، وهذا يتناسب مع ما أرادته الشاعرة من خلال إسماع صوتها للقارئ
باستثناء صوت الياء الذي يعود على ضمير المتكلم وهو يتماشى مع الهمس الداخلي في خبء ذاكرة الانطفاء.
لذا نجد هيمنة كل الصفات والأسماء على الأفعال
فالأولى أي الصفات تمتاز بالامتداد والانتشار على نطاق واسع عكس الأفعال المرتبطة بزمن محدد لهذا وجدنا هيمنة أفعال المضارعة التي لها ارتباط بالحاضر فقط لخلوها من دلالات المستقبل:
أطل- أسير- يعثر- يبزغ تطل- تجري- يلوذ- تدق- أغادر- أبقى- أداري- يمشي- أقبل

-التقابل الضدي:
لاحظوا معي هذا التقابل الضدي حتى على مستوى الأفعال :
أغادر/أبقى
يمشي/ أقبل
وكأنها تطلب من الزمن أن يتوقف ولو لحظة، هذا استدعى استعمال فعل أمر واحد ومتكرر: تمهل.. تمهل
ولم يتوقف نفس الشاعرة الا بعد أن أقبل الزمن ليواسيها همومها ويخفف من شدة تدفق عباراتها المسرعة :
“حتى أقبل ضوء مجيئه”.

-تقابلات صوتية
كما تميز النص بحركية إيقاعه السريع:
هيمنة حروف المد الطويلة بكل أشكالها مما أعطى للنص ايقاعا خاصا يوازي ويقابل المعاني الواردة من “سديم” “رنين” “رقص” “اللهب” “انطفاء” “رحيل” “مجيء”
ثنائيات ضدية حاضرة حتى على مستوى الايقاع.
وقد أشرنا الى تقابلات صوتية بين حروف الجهر والهمس بين الصوائت المحدود والصوامت الممتدة والمتكررة
ولا ننسى التنبيه الى الاساليب البلاغية التي وظفتها الشاعرة بكثافة لتخدم هذه التقابلات المتعاكسة أحيانا والمشاكسة أحيانا بين مد وجزر بين اقبال وادبار سواء على المستوى الصوتي أو التركيبي مما ساهم بكثافة في اعطاء النص جماليات الثنائيات المتعددة المعاكسة و المتضاربة تخدم السياق العام للنص، وكأننا داخل رقعة الشطرنج خصمها سديم له امتداد لا حد له إلا صوت الشاعرة الذي غزا المكان والزمان، ولم يترك للسديم أي فسحة، لتطل الشاعرة بكل ارتياح على عالمها المدفون في دنياها الخاصة، تديرها كما تشاء ووقت ما تشاء، غير مبالية لما دعيت اليه للإطلال على ما تبعثر من كلام داخل إطار غير منفتح لا على المكان ولا على الزمان، أو لهذا السواد الذي يطاردها من كل الجهات، أملها الوحيد هو ان يتمهل الزمن ولو لوقت يسير ليفسح المجال أمام القادم كي يعم النور وتنجلي الظلماء التي سادت المكان.
إننا أمام نص نسج بعناية فائقة وبأسلوب شاعري يستحضر معان غير المعاني المألوفة لدى السامع للوهلة الأولى، مستعينة بقاموس لغوي خاص قادر على رسم معالم كتابة شعرية معاصرة لها طابع يميز أسماء المصلوحي مستقبلا عن غيرها من الشعراء.

ذ. سعيد محتال / المغرب



قصيدة:
كي أطل على تبعثري

للشاعرة أسماء المصلوحي

سديم هو المكان
أسير إلى بعض قامته
فيعثر علي في منخفضات ظله
ليس لي باب ألجه
كي يبزغ نهار التيه
كل النوافذ تطل على تبعثري
هنا حافة
هناك خلخال
والرنين غرفة مغلقة على رقص الأشياء
تجري ألسنة اللهب
في خبء ذاكرة الانطفاء
يلوذ الوقت بوعثائه
وساعة القلب تدق
تك.. تاك.. تك.. تاك.. ت.. ت.. ك
معلنة منتصف الكأس
أغادر قليل بعضي المقيم في فيئك
كي أبقى بصحبة كلي المتخلي عنك
أيها الوقت المضرج بي
تمهل.. تمهل
قبل أن تجرف كل سيولك في ليالي شتائي
بيني وبين المستحيل
ممكن أداريه في خفق الطين
والأرض رحيبة أمام خطوات قنوتي
سديم هو الزمن
يمشي نحو رفضي
حتى أقبل ضوء مجيئه.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *