ارتباط الشاعر بالحياة ومستلزماتها متجدر في نفسه منذ القدم، وقد استلهم من الطبيعة الحية العديد من الدلالات والرموز التي تجسد حلقة وصل بينه وبين الوجود البشري، تلاحم قد يصيران معا جزئين لعملة واحدة لا ينفصلان، تشاركه همومه وأحزانه وأفراحه، ويجد فيها متنفسا كبيرا للتخفيف أو التعبير عما يجول بخاطره، مما جعله يضفي على بعض جزئياتها دلالات معينة، والتي قد تتشارك معه في بعض الصفات والحالات النفسية العابرة من قلق أو توتر او انشراح للصدر.
ولعل أهم الرموز التي التجأ اليها الشعراء المعاصرون رمز الريح
إذ ذهب الكثير من الدارسين الى ان الرمز ييسر العمل على الشاعر لإيصال المعنى الذي قد لا يرغب في نقله للقارئ مباشرة، كما أنه يساهم الى حد كبير في تشكيل الصورة الشعرية واضفاء جمالية خاصة على النص.
• عتبة العنوان:
يقول جاك ديريدا: “العنوان هو الثريا المعلقة في سماء النص”، قال ذلك وهو يعي جيدا ما يحمله العنوان من عمق دلالي باعتباره العتبة الأولى التي يجد القارئ نفسه مجبرا على التعامل معه قبل الغوص في عوالم النص ومكنوناته، فقد يكون العنوان بمثابة خلاصة أو تلميح لفهم دلالات النص التي تليه.
اختار الشاعر لقصيدته عنوان “ما ذنب الريح”
عنوان يتكون من ثلاث كلمات تتصدرها ما الاستفهامية من غير وضع علامة الاستفهام ليترك دلالات العنوان منفتحتة على عدة تأويلات تاركا الإجابة للقارئ المتبصر بخفايا المعاني والرموز.
عنوان محفز لقراءة النص والرغبة في اكتشاف الجواب الذي اقترحه الشاعر لهذا العنوان المبهم.
العنوان كما ترون يختزل حقلا دلاليا مكثفا بالغ التوتر، فهل الشاعر يسعى إلى نفي المسؤولية عن الريح وأن الذنب ليس ذنب الريح أم هو تساؤل منه رغبة في ما معرفة ذنب الريح.
إذن نحن أمام خيارين إما ان للريح ذنب فعلينا معرفته أو أن الذنب ليس ذنبها وأن العنوان مجرد سؤال استنكاري
• ولوج النص عبر بوابة الريح
أولا لابد من الوقوف على المعنى اللغوي والدلالي لكلمة الريح حتى يسهل علينا نبش ما تخفيه هاته الكلمة من دلالات قد يكون الشاعر استعان بها لتمرير بعض الرسائل من خلالها.
الريح معناها نسيم الهواء المتحرك سواء أكان طيبا أم نتنا، وقد وردت في القرآن الكريم والحديث الشريف بلفظ الأنثى، قال تعالى: (كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم فأهلكته) آل عمران: 117.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب..” سنن أبي داوود.
قال الخليل بن أحمد: “الريح ياؤها واو صيرت ياء لانكسار ما قبلها وتصغيرها رويحة وجمعها رياح وارواح، ويوم ريح طيب ذو روح، ويوم راح ذو ريح شديدة” كتاب العين.
• رمز الريح في القصيدة
كلمة الريح من الرموز الحاضرة بقوة في الشعر المعاصر وحتى القديم، هو رمز مباشر مع الطبيعة دلالاته محددة وقوية حيث نجد ان القران الكريم مثلا يرمز الى كلمة الريح المفردة دائما بالسخط والغضب، عكس كلمة الرياح في الجمع التي تأتي في القرآن دائما بمعنى الرحمة والخير. وهذا المعنى للريح نجده أيضا حاضرا لدى الشعراء بمعنى الهدم والتغيير، فهل شاعرنا هنا يتساءل عن هذا المعنى الأخير، أم أنه يريد ان ينفي هذه التهمة عن الريح وانه لا ذنب لها فيما يحدث من هدم ووجع.
• دلالات الريح في النص:
ونحن نتصفح النص وجدناه محاطا بثلاث أسئلة كبرى كلها تندرج في خانة العنوان الأم “ما ذنب الريح” وكأنها عبارة عن عناوين وأفكار أساسية انبثقت من السؤال الأول:
ما ذنب الريح ان هزتني؟
1.ما ذنب الريح إن بعثرتني؟
2.ما ذنب الريح إن شردتني؟
ثلاثة أسئلة جزأت النص بكامله الى ثلاث فقرات:
ما القيمة المضافة للعنوان الأم؟؟؟
ثلاثة أسئلة بنفس الصيغة وبنفس الشكل وبنفس الترتيب،
ثلاثة أفعال أساسية ارتبطت بالريح وكلها منسوبة الى إلى الذات الشاعرة وهذا ما صرح به من خلال إضافته ياء المتكلم للفعل:
-هزتني
-بعثرتني
-شردتني
أفعال تعود من حيث الزمن الى الماضي، والحدث منسوب الى الريح.
للإجابة عن هاته التساؤلات لابد من العودة من جديد الى فقرات النص للكشف عما تحمله في جوفها من إجابات لعلها تنير لنا طريق ووجهة الريح التي كانت السبب في هاته الهزات العنيفة التي تعرض إليها الشاعر والتي سببت له تمزق وتبعثر وتشرد
I. الدلالة الأولى للريح: دلالة الحركة والاقلاع
-ما ذنب الريح ان هزتني؟
يتساءل بداية عما هو سبب ذنب الريح إن هزت مشاعره وحركت أحاسيسه، ما الذي يحرمه من عشق الحياة وملذاتها، وكأنه يقول لنا بلسانه لن يعلو شأن الإنسان إلا بخوض غمارها وما فرضته عليه الأيام من محطات يمر بها جبرا أو اختيارا، ضاربا المثل بعشب الأرض الذي لا يتمكن من الثبات إلا بعد اكتمال نضجه وبتكاثره وقدرته على الصمود يجعله قادرا على التغلب على جفاف الأرض ومقاومة كل الانكسارات وأن لا أحد يستطيع إقلاع جذورك إلا اذا أنت أردت ذلك، لذا صار لزاما عليك أن تقاوم كل ما من شأنه أن يحد من تجديد رحِمك، بمعنى أن العمر لا يمكنه أن يتكرر اكثر من مرة وأن الإنسان منوط به ان يتأقلم مع ذاته ولا يطاوع عجزها.
II. الدلالة الثانية للريح: التفرق والتبدد
-ما ذنب الريح إن بعثرتني؟
ويستمر في ضرب الأمثلة، ولكن هذه المرة بالقش والقمح والرمل بعض هاته المكونات الثلاثة يتلاعب بها الريح كيف يشاء ومتى يشاء والبعض منها يقف عاجزا أمام صلابتها وثقل تشتيتها بالأرض:
فالقش إن ذريته في الريح يعلو
والقمح بالتراب يلتصق
والرمل يقاوم الهجير ويرقص السراب
وكأن الشاعر يريد أن يوصل إلينا معنى أن الإنسان عندما يتعرض الى تقلبات الحياة ويستسلم لها فلا شك أنها ستؤثر على حياته كما هو الشأن بالنسبة للقش، استقراره رهين بضعف قوة الريح أو هدوئها. وأنه ليس كل علو هو دليل على السمو بدليل أن القش حين تذروه الرياح يرتفع وتبقى حبة القمح ثابتة متشبثة بجدورها وأن الرمل عندما تقسو عليه الرياح يتخلص بسرعة من الهجير (الهَجِيرُ من الألفاظ المشتركة التي تحمل أكثر من دلالة)، وقد يكون معناها هنا: يَبيسُ النَّبت الذي كسرته الماشية انسجاما مع سياق الأسطر التي قبلها لأنه ليس هناك ما يدل على أن معناها وقت الهجيرة.
الصورة العامة الواردة في هاته المعاني مجتمعة انه يجب علينا ألا نغتر بمظاهر الأشياء فقد تحمل من الزيف ما لا يكشفه إلا قسوة الريح وقوتها.
ولكن لا بد لها من مستقر، وان الخير في تجنب وقوع فريسة للوحدة والعزلة كشأن النعجة المتفردة:
ما من نعجة ظلت الا وكانت وليمة الذئاب
شرف القوم منهم وإن تمزق الظل
وهو تناص عميق مع الحديث النبوي الشريف: “ما من ثلاثةٍ في قريةِ ولا بَدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصلاةُ إلا قد استحوذَ عليْهِمُ الشيطانُ، عليكَ بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ.” رواه أبو الدرداء كتاب رياض الصالحين،
مستوحيا الشاعر فكرة عدم الخروج عن الجماعة مما سيخلف أثرا سلبيا في حياة الإنسان، ليزيد في توضيح معنى الضياع والتشردم الذي قد تتعرض اليه البشرية من تشردم وتمزق بسبب الحروب والمآسي وان العزلة لها من الأضرار ما قد تجعل المرء يفقد هويته وشخصيته، فشرف الانسان كما يقول الشاعر في تواجده بين إخوته وأهله، حتى وإن تعرض للتهميش والتهجير.
انشق الصدر ورقص بينهم العذاب
لست أدري إن كان في هذا المعنى إحالة الى مسألة شق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم أيام صباه، كما هو وارد في كتب السيرة والحديث، لكن يمكن أن نستشف منه مسألة تطهير القلب من العيوب والآثام حتى يخفف عن المرء آلام العذاب الذي قد يشعر بسبب تقصيره أو ندمه على ما صدر عنه تجاه غيره، وأن الحياة تقتضي الصفح الجميل والعيش في سلام
فالريح ريح
والنخل جدر بالأديم ملتصق
والعجز مهما استطال يرقص مع السحاب
المياه مهما فرت وتراقصت أمامه فلها إياب
فالعود الى الأصل محمود، فالريح مهما قست وتجبرت فلن تستطيع ان تقلع النخل المتجذر بالأديم
الأَدِيم: الجلد الذي يغلّف جسم الإنسان أو الحيوان
-الأَدِيم: الطعام المأْدُوم
-وأَدِيمُ كل شيءٍ: ظاهِرُه
-أَدِيمُ السَّمَاءِ: مَا ظَهَرَ مِنْهَا
فهذه الأمثلة وظفها الشاعر للزيادة في الايضاح لأنها لا تختلف عن سابقتها، رغبة منه في ايصال الفكرة بأسلوبه الخاص. مستعينا بالاستعارة والمجاز لإعطاء النص إيقاعا خاصا (العجز يرقص -المياه تفر -وترقص) الرقص هنا له المعنى المشهور الطير المذبوح الذي يرقص من شدة الألم.
إن الألم والوجع باد على كلام الشاعر وإن أخفاه وراء دلالات الأمثال التي قدمها بكثرة في هذا النص، وإلا فما الغاية من كل هاته الرموز التي وظفها الشاعر وبشكل متماسك بين جمل النص وكأنه يريد أن يجعل القارئ يحس ويشعر بأن الأمر يهمه وهو المقصد من الكلام.
ليستمر بعد ذلك في تقديم امثلة أخرى على ما يتركه الريح في الواقع من تمزق وضياع، فيعود للتساؤل مرة أخرى عما هو سبب ذنب الريح ان ساهمت في تشريد الشريد والتحليق به ليعود استدراج بعض الامثلة وكان المنطق الفلسفي حاضر بقوة
ربط الأسباب بالمسببات ليوصلنا الى النتائج الي يرجوها من وراء النص:
الريح سبب طبيعي ومباشر في إحداث التغيير
الإنسان معرض الهزة
الهزة = التمزق = التشتت
التمزق = التشرد = الضياع
ليوصلنا في الأخير الى الدلالة الثالثة من معاني الريح التي وظفها الشاعر:
III. الدلالة الثالثة للريح: التشريد
ما ذنب الريح إن شردتني؟
تشريد: مصدر شَرَّدَ
تَشْرِيدُ السّكان: طَردهم مِنْ سكناهم وتَركهم بِلاَ مَأْوى
توظيف دلالة التشرد لها ارتباط حتمي بما قبلها من معان سابقة والتي سبق ذكر بعض منها، فحين يقول:
فانا من بيتي وبيتي مني ان استوطنته
فهو في المهب ان تركته خراب
هذا السياق بالذات ينفي كون ضمير المتكلم يعود الى الشاعر بمفرده، فليس بالضرورة ان يكون الكلام يعنيه بمفرده، فهو هنا قدم لنا بعض الاثباتات التي تحدث عنها سابقا من كون الريح لا تذرو الا من لمست فيه ضعفا أما ان اعتنيت ببيتك واتخذته مستقرا فلا شيء سيسلبك إرادتك كما هو الشأن بالنسبة للقمح الذي يظل على ثباته:
“و في المهب ان تركته خراب” حضور السبب والنتيجة
الذي يخرب بيته هو الإنسان نفسه فهو المسؤول عن أفعاله وعما يقع له من هزات سواء كانت منه او من غيره لأن الإنسان خلق ليعمر الأرض لا ليسبب فيها الدمار، لأنه هو نفسه الذي سيتألم:
فالقصب يئن في مكانه وإن حزن
سواء استوطن المروج أو الغاب
مستحضرا صورتين رغم ما يرى فيهما من الإنسان من شموخ وعلو الشأن فهما يتألمان كما يتألم الإنسان: وهما النخلة التي تحدثنا عنها سابقا والقصب الذي يئن وجعا كلما حركته الريح فالقصب هو القصب سواء غرسته في المروج أو في الغاب سيظل هو نفسه على حاله لن يتغير أبدا. مذكرا الإنسان أن ما أصاب ظله من علة ومن تراكم لزلات الخوف والعجز من المواجهة والبحث عن وجوده وكيانه إلا بتقصير منه وفتح المجال للريح كي تفعل فيه ما تشاء، مستعينا دائما برمز الريح الذي لا ذنب له كخلاصة قائلا:
فالريح لن تساوم من فر وهاب
لن ترحم من تقدم واعتلى الرقاب.
فالذي يتولى المسؤولية عليه أن يستحضر كل هذه المعاني التي ذكرتنا بها الريح والتي لا ذنب لها فيما يقع فالريح ريح، وكل من سولت نفسه أن يظهر نفسه ويريد مواجهتها سيتعرض لا محالة لقصفها العنيف، فالريح لا ترحم، ولن يسلم الإنسان من تقلبات الزمن.
خاتمة
إلى هنا نكون قد وقفنا عند أهم الدلالات المستفادة من التوظيف القوي لرمز الريح في النص وبكثافة مما جعل منها تيمة أساسية داخل الحقل الدلالي الوارد في القصيدة، هذه الكلمة التي باتت مرجعا لفك كل الأمثال الموظفة في النص والتي يسعى من خلالها الشاعر تمرير العديد من الأفكار بأسلوب فلسفي يذكرني بطريقة الكتابة لدى الشاعر الفيلسوف طاغور الهندي الذي تأثر بشكل كبير بالطبيعة ووظفها في تناول مواضيع الحياة القاسية التي يمر بها المجتمع في عهده، فانتقد بشدة العادات السائدة والأعراف الجامدة التي كانت تعاني منها البلاد، وإن كان لكل واحد منهما أسلوبه الخاص التقيا في هذه المحطة بالذات لأن هذا هو التصور المنطقي لوقائع الأشياء التي تتكرر مدى الحياة..
لقد استطاع الشاعر رغم الكثافة الرمزية التي وظفها في النص أن يمرر الفكرة بكل يسر معتمدا على أسلوبه الخاص في الكتابة.
ذ. سعيد محتال / المغرب
*******
النص:
ما ذنب الريح
قصيدة للشاعر سعيد المولودي
ما ذنب الريح ان هزتني؟
فعشب الارض ان اينع قاوم اليباب
وعشق الحياة ملحه التراب
وتر هش لن يبلغ السحاب
اقتلع جذور رحلك
سافر دون ان تجدد رحمك
احتفظ بسر الحياة لوحدك
ففي عمق مسارك لن يعلو نجمك
ما ذنب الريح إن بعثرتني؟
فالقش ان ذريته في الريح يعلو
والقمح بالتراب يلتصق
والرمل يقاوم الهجير ويرقص السراب
ما من نعجة ظلت والا كانت وليمة الذئاب
شرف القوم منهم وان تمزق الظل
انشق الصدر ورقص بينهم العذاب
فالريح ريح
والنخل جدر بالأديم ملتصق
والعجز مهما استطال يرقص مع السحاب
المياه مهما فرت وتراقصت امامه فلها اياب
ما ذنب الريح إن شردتني؟
فانا من بيتي وبيتي مني ان استوطنته
فهو في المهب ان تركته خراب
فالقصب يئن في مكانه وان حزن
سواء استوطن المروج او الغاب
يا ذاكرة اعتلت الظل
راكمت الخوف
استباحت طقوس اللقاء
تزاحمت بحثا عن البقاء
فالريح لن تساوم من فر وهاب
لن ترحم من تقدم واعتلى الرقاب.