أول مرة اصطدمت بكلمة شهيد، كنت في الصف الرابع حين أخذت امرأة كانت يوماً جارة لبيت جدي في قرية المجيدل المهجرة -مجدال هعيمق- تحدثني عن جدتي التي جن جنونها حين استشهد ابنها -عمي-، وكان ذلك بعد أن هربوا الى قرية يافة الناصرة عام 1948، تاركين خلفهم بيتهم في المجيدل وأثاثهم المتواضع من فراشات ولحف ووسائد وأدوات المطبخ النحاسية والأرض المزروعة ببعض الخضروات، أما جدي فقد أصيب بطلقة رصاص في فخذه، مما أقعده فوق كرسي الشلل، يتنقل بصعوبة، لذلك الجدة كانت ربان القارب التائه.
لم أعرف عمي ولم أسمع حكاية استشهاده إلا من تلك المرأة التي كانت شاهدة عيان، لكن بدأت أنظر الى جدتي من زاوية أخرى، وأتأمل ملامحها الحزينة المثقلة بحنين غامض، وقسوة تستمدها من ظروف أحاطت بعنقها، كالحبل المجدول بخيطان الدهشة والرحيل والفقر والجوع واللجوء ونظرات الأبناء الذين وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة خارج بيتهم والحيرة والعراء عنوانهم، والخوف من الآتي في انتظارهم.
الحبل المجدول بدهشة اللجوء والدم يشد على رقبة جدتي، يخنقها، و لا تجد أمامها إلا المزيد من التجهم والعبوس، حتى أننا كنا نخاف الاقتراب منها، وعندما نلمح ابتسامة تشق شفتيها، نراها عجيبة قد نزلت من السماء ونتساءل -شو صاير في الدنيا-، لكن كأنها تحرم نفسها من لحظة فرح تتسلل الى القلب في غفلة، سرعان ما تزم شفتيها وترجع الى حالة التجهم.
ما معنى شهيد؟ سألت أمي التي أجابتني، اللي بموت دفاعاً عن وطنه، لكن عمي الصغير لم يحمل بندقية، لم يقاتل..! فقد عرفت أن جدتي همست له، حيث كان أكبر أولادها بأن يتسلل الى قريتهم، ويأتي ببعض الخضروات من أرضهم، لكن عند وصوله الى بيتهم، وحين كان يهم بدخول الأرض الملاصقة للبيت، إذ بأحد الذين استولوا على البيت من اليهود، يطلق عليه الرصاص ويرديه قتيلاً، ولم يكتف بقتله غدراً وفي وضح النهار، بل قام بوضعه بالعرض على الحمار الذي كان يركبه عمي، متدلياً كالذبيحة، أما الخرج الذي جهزه عمي من الطرفين لوضع الخضروات، فقد احتضن قطرات الدم النازفة من الجسد الذي أخذ ينتفخ من حرارة الشمس.
سار الحمار حاملاً جثة عمي وهي تنزف دماً، حتى وصل إلى الطريق المؤدي إلى يافة الناصرة، وهناك رأى أحد المشاة الحمار وأخذ يصيح وينادى لعل أحدهم يعرف الشاب المقتول، وبعد أن تدافعوا وتأملوا وجهه عرفوا أنه ابن فلان.
كانت جدتي عندها في الطابون تقوم بخبز أرغفة الخبر التي عجنتها، وكانت تنتظر الخضراوات التي سيأتي بهم ابنها لكي تطبخ، لكن الصراخ القادم، الذي يقترب رويداً رويداً من الطابون، جعلها تقف، وما أن وقفت حتى رأت الدماء تقطر من جثة قد تحولت الى سواد نتيجة الغبار والأتربة التي التصقت بها في الطريق.
قالت المرأة التي حدثتني عن حزن ووجع جدتي، ان جدتي أمسكت بالجمر الساخن وأخذت تنثره على وجهها وتلطم على صدرها، ولم تفق من غيبوبتها إلا بعد دفن أبنها الذي دفنوه بسرعة، بملابسه المنقوعة بالدماء لأنه مات شهيداً.
وبعد سنوات طويلة، عندما كانت جدتي تحتضر أوصت أن تدفن في قبر ابنها، ليس الى جانبه، بل في قبره حتى تمتزج عظامها وجلدها وروحها به.
تستيقظ الشمس وتنهض الحياة، تعيش الوجوه، ويتم تكريس الأيام لبناء سنوات الاجتهاد والعمل، وكل واحد يدخل بطولاته الشخصية، وحكاية التحدي للوصول الى هدفه باختياره، يربح أو يخسر هذا هو شأنه الخاص، لكن عندما يستشهد أحد الشباب أو احدى الشابات أشعر أن الشهادة ستتحول إلى الشأن العام، ستتحول إلى مهرجان خطابي وشعارات تٌسجل وأغان وأهازيج وغيرها من عبارات مضيئة، لكن هناك في داخل وجع الغياب من ينتحب و يصرخ بصمت ويفتقد وينتظر العودة.
لا أحد يسلط الضوء على تلك الغابة المصنوعة من شرايين الأم والأب والأخوة والزوجة والابن، لا أحد يجر السنوات ويسأل عائلة الشهيد كيف عشتم تلك السنوات؟ وكيف حدقتم بصور الشهداء وتأملتم غياب تقاسيم الوجوه التي عصرت لحظة التصوير، فخرجت الابتسامة كأنها الآن الفسفور المضيء في ليل معتم.
كلما سمعت كلمة “شهيد” أدرك أن الأم ستتغطى بالحزن طوال العمر، ومن يصدق زغردة الأم عند خروج جثمان ابنها الشهيد من بيته؟ يعرف أنها الصرخة التي كللتها بزغرودة كي تخفف من وجع الفراق والرحيل.
أدرك أن الشهيد يتحول الى نجمة في السماء أو يتحول إلى سبيكة من ذهب الذكريات في خزائن العائلة، لكن أعرف أيضاً أسماء الشهداء على الأرض سرعان ما تجف، وتخرج رويداً رويداً من الذاكرة، حيث تتسع خلايا النسيان وتشاطر الزمن عملية مسح بصمات الضوء، وقد يتراكم الثلج أمام أبواب مخازن الأرشيفات التي تحوي المجلدات التي يُسجل فيها أسماء الشهداء.