لا شك في أن فن السيرة الذاتية يعد فنا رافدا للسرد عامة بنكهة ذاتية، إنه مرآة تجلو نفس الكاتب أو الشاعر من غير أصباغ -أو هكذا يفترض- تتسم بالصدق والصراحة والشفافية.
حاول حنا مينه في «المستنقع» و«بقايا صور» وعيسى الناعوري في «الشريط الأسود» الذي قدم له شوقي ضيف، أن يمضي قدما في تعرية النفس، وتناول ممنوعات البوح ومتناقضات النفس البشرية، لكن تظل تلك الكتابات تحوم حول الممنوع ولا ترد، تقترب من حقل اللامفكر فيه، لكن لا تقتحمه، هذا النقص في التجربة الكتابية في فن السيرة الذاتية، واختفاء شرارة الصدام، ورج القارئ بجدليات ومفارقة النفس البشرية في صراعها بين الخير والشر، والمثل والأخلاق، دفع توفيق الحكيم في آخر عمره أن يكتب شيئا من هذا البوح في شكل إجابات على أسئلة طرحها عليه نبيل مغربي، ونشرت تحت عنوان «خريف العمر» في مجلة «الوطن العربي» في أواخر الثمانينيات، وقد أحدثت ضجة كبيرة حين صدورها بسبب تناولها علاقة الكاتب بالمرأة، ومغامراته في القاهرة وباريس أيام شبابه وطلبه للمعرفة والتحصيل العلمي، واتهمه كثيرون بخرم أبجديات المروءة وثلم القيم الأخلاقية، ورحب الكثيرون بهذا البوح، وكأن الحكيم تطهر بالاعتراف وقال شيئا كان يتعبه ويضجره رماه في دهاليز التناسي والإخفاء زمنا غير يسير. ربما تكون الروايات حقلا للبوح بشكل غير مباشر، وذلك ما يجعل النقاد يتتبعون شخصية الكاتب المتقمصة شخصية روائية ما، كما في الثلاثية في شخصية كمال بالنسبة لنجيب محفوظ، ومثل رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.
في الغرب بسبب الثورات الفكرية والنزعة الإنسانية وفلسفة تمجيد الذات وحرياتها كان البوح في السيرة الذاتية أشد سطوعا وتوهجا، ومجاهرة وتعرية لكل المكبوتات، وتجلية لكل خفي، خاصة مع روسو في اعترافاته وجان جينيه رائد الأدب الشطاري في الغرب في رائعته «سيدتنا صاحبة الزهور» التي اعترف فيها باللصوصية والإدمان والكذب والمثلية، حتى إن سارتر وصفه بالقديس والعبقري والشهيد واللص والمثلي والكذاب.
لا شك في أن محمد شكري هو رائد الأدب الشطاري في أدبنا، وتجربته الكتابية والحياتية وطريقته في السرد المتسمة بالعفوية والتلقائية، والتحرر من كل تقنية ومهارة فنية، تظل علامة فارقة في الأدب المغاربي خاصة، والعربي عامة، وقد سرد سيرته الذاتية في ثلاثيته «الخبز الحافي» «زمن الأخطاء» و«وجوه».
عاش شكري حياة صعبة فرضت عليه الظروف الانحراف بالمفهوم الأنطولوجي لا الأخلاقي، فمن أب أناني كسول مادي غير مهتم بتربية أولاده، وغير مقدر لزوجته، يبحث فقط عن الدراهم وجلسات الشاي ونزواته الخاصة، إلى حد دق عنق ابنه الصغير، الذي لم يتركه ينام في القيلولة من فرط البكاء، فتركه جثة هامدة، وقد أثر هذا الحادث في شكري بل زلزله فكريا ونفسيا، وكتب جزءا من سيرته الذاتية «الخبز الحافي» أمام قبر أخيه الصغير، وأم مجتهدة صابرة مغلوبة على أمرها، لا تستطيع أن تفعل شيئا، فالمرأة في الشرق عامة في ذلك الوقت ليست سوى آلة للإنجاب وشغالة خرساء بكماء، لا ترى، لا تسمع، لا تتكلم، هذا هو الغالب وقد وثق ذلك فنيا نجيب محفوظ في رائعته «الثلاثية» وخلد معاناة أمينة وزوجها الدون جوان أحمد عبد الجواد، في تلك الروايات الثلاث «قصر الشوق» «السكرية» «بين القصرين» الكبيرة تاريخيا وفنيا.
اضطر شكري إلى العمل في الصبا، والمغرب سياسيا تحت الحماية الفرنسية، دفع به والده لا إلى المدرسة ليتعلم بل ليعمل في المقهى في نضارة الصبا وربيع العمر، حيث تعلم التدخين والتحشيش بطريق الصدفة أولا، والفضول ثانيا، والتعود أخيرا، واستمر كادحا نهاره وليله بدراهم معدودة لتلبية حاجيات الأسرة ونزوات والده في أغلب الأحيان، حيث كان يأخذ الفلوس بالغصب. القنبلة التي فجّرها شكري في سيرته، وخرق بها الممنوعات والتابوهات كافة، وتماهت السيرة الذاتية العربية مع السيرة الذاتية الإنسانية عامة، والغربية خاصة، هي صولاته وجولاته في منطقة الممنوع، حيث تعرض لتجاربه ونزواته، بصراحة لا نظير لها إلى حد أن الألفاظ النابية تصفع القارئ صفعا، فالحقل الدلالي والمعجمي لعالم الليل والهامش والأقبية والمقاهي والحانات، يغص بالألفاظ التي تكاد تزهق روح القارئ غير المتعود على هذا النوع من البوح.
لا مرية في أن شكري لا يقصد الدونجوانية ولا الدعاية، ولا الإخلال بالآداب العامة، فهو لا يمارس أدبا مكشوفا بل أدبا إنسانيا رفيعا، ليس المقصود تمجيد الذكورة والفحولة، وصولاتها وجولاتها، وليس شكري هو الدون جوان، بل هو الإنسان المسحوق غير المتعلم الكادح الذي لم يجد طريقه، أو أجبرته الظروف على أن يعيش حياة الهامش، ويمارس الشطارة والفهلوة والفتوة، ويقوم بكل الأفعال التي تتصف بالقبيحة من الناحية الأخلاقية، وسيكون من السهل إدانة هذا النوع من البوح، لكن بالتأكيد لن ينفع بذلك لا الأخلاق ولا الحياة ولا الأدب في شيء.
سياق سردي متسق لعالم الشطارة ولذات إنسانية مطحونة بظروفها، تتلمس طريقها في عالم هو أشبه بالغابة، حيث البقاء للمخلب والناب، عالم يعيش فيه أخلاط من المسحوقين كالكادح واللص والبغي والطفل الذي يسلم طفولته إلى الرصيف، وإلى العمل الشاق، جلبا للقوت والمستغل والإقطاعي، والمتعامل مع المستعمر عالم القاع، حيث اللون كابي والحياة في ذاتها ليست سوى المستنقع بعينه. حياة صعبة كادحة من غير تعلم ولا رعاية أبوية، ولا اهتمام حكومي بالطفولة واستغلالها (والمغرب كان تحت الحماية) وفقر مدقع وحاجات الأسرة المتعددة وإهمال أبوي لا نظير له، ووسط منحرف قاموسه الحياتي يتشكل من الشطارة، المتع الحسية، المثلية، السجون، الأقبية، السجائر، الحشيش، الرصيف، الصفيح، بنات الليل، المقاهي، الحانات، الفنادق، الشرطة، الغرامة، الدم، العنف والبذاءة.
كاتب جزائري هذا هو عالم الشطارة والعالم الهامشي، وهامش الحياة والمنطقة المدانة سياسيا وأخلاقيا، وحتى دينيا وبقدر ما أدينت تلك الحياة وهمش أصحابها شعت وتوهجت على يدي شكري في رائعته «الخبز الحافي» والعتبة الأولى للرواية وهي العنوان تحيل على الخصاصة والإملاق، فالخبز حافيا صار صعبا في زمن لا يرحم، حيث لا حماية إلا الإقطاع أو الشطارة.
طنجة التي تبكي على من لم يرها، كما يتردد دائما في المأثورات الأدبية والسياحية، طنجة شكري المدينة المفتوحة على البحر المتوسط والمواجهة للأندلس تاريخيا، وشبه الجزيرة الإيبيرية حضاريا وجغرافيا، مدينة بول بولز وتينسي وليامز وجان جينيه وغيرهم، طنجة العربية والأوروبية الفاتنة بأزقتها وحاراتها المتثائبة آخر الليل، التي تستر جسدها بغلالة رقيقة من دواوين الشعر وتشيعها إلى مرقدها، بسمات الصبايا وقهقهات السكارى ورائحة التبغ والكحول، ولوحات غير مكتملة لرسامين في ورشاتهم، أو وتريات تعانق الروح وتغازل الجسارة الملتهبة في عمق كل سامر والحرية التي تبسط بساطها الأحمر لكل عاشق أو متمرد، أو ثائر أو عبقري، أو مبدع أو منحرف، رائحة الليل، رائحة الجو المتخمة برطوبة البحر والمشبعة برائحة اليود والشمس الدافئة، التي تغزل بها ماتيس في لوحة خالدة، على الرغم من الروح الكولونيالية الكامنة في اللوحة، وما يقال عن حياة بعض الكتاب الغربيين فيها ونظرتهم الاستعلائية، ورغبتهم في أن تبقى طنجة فراديس للمتعة والبهجة والأنس والدعة والكسل. والنسوة الملتفات في عباءاتهن أو ملاحفهن، وجلبة الباعة ورواد المتعة وطلاب المغامرة وعشاق الحرف، حري بطنجة إذن أن تبكي على من لم يرها. لقد غدت ملهمة الشعراء والكتاب والفلاسفة والفنانين، وغدا كل شارع ومقهى وملهى وحانة تحكي قصة أديب غربي أو شرقي، عاش ردحا من الزمن فيها.
ومن حسن حظ شكري أن يطلع على مخطوطة «الخبز الحافي» ويتحمس لها ويقدر قيمتها الفنية صديقه الكاتب الأمريكي المقيم في طنجة بول بولز، ويساعد على نشرها في ألمانيا عام 1982 بعد عشر سنوات من كتابتها ووضعها في الدرج، وكان شكري يتوجس في نفسه خيفة من صراحتها ومن آثارها على سمعة العائلة، خاصة أخواته، وما قد يجره الاعتراف من أذى إلى سمعة العائلة، لكن تحمس النقاد لها وانتشار الرواية انتشار النار في الهشيم، مكن لشكري مكانة رائدة في الأدب المغربي، وشهرة عربية يحسد عليها، على الرغم من الصدمة التي أحدثتها واعتراض الكثيرين على صراحتها الخادشة للآداب العامة. وقام الطاهر بن جلون بترجمة الرواية إلى الفرنسية، فعرّف بشكري في الغرب، حيث لاقت اهتماما كبيرا. ومع هذه المكانة لشكري والتقدير العربي والاحتفاء من النقاد والقراء، ظلت ممنوعة من التداول، تتداول سرا وتهرب كما تهرب الممنوعات، لكن الإبداع مصيره الذيوع والقوة الإنسانية والفنية الموجودة فيها تتغلب على كل رقيب.
يشكل الجزء الثاني «زمن الأخطاء» تتمة لهذا البوح، ولهذا السرد العفوي الأخاذ المتخلص من كل تقنية والمنفلت من كل إكراهات تقنية، هذا السرد الغض غضاضة الحياة وطراوة اللحظة المشبع بكل رائحة، وإذا كانت «الخبز الحافي» تحيل على الجحيم، فإن زمن الأخطاء تحيل على المطهر، ففي هذا الجزء يستكمل شكري سرد مسيرة حياته، أو ملحمة حياته، حيث يصر على التعلم، وهو في سن المراهقة مع أطفال صغار، حتى صار مبعثا لضحكهم مع الاستمرار في الكدح، من أجل القوت وممارسة الشقاوة التي بدأها صغيرا وصار فتوة حقيقة أليس الوشم علامتها؟ حين عانق شكري الحرف لم يعانق مجرد الأبجدية، ومحاولة فك شيفرة القراءة لرسائل بسيطة أو كتابة اسمه، لكن توغل في عالم الأدب غربيه وشرقيه، كلاسيكيه وحديثه، وتعدى ذلك إلى تعلم الإسبانية للاطلاع على الثقافة الغربية عبر إحدى لغاتها الحية. الصراع، التنازع في نفس شكري بين نوازعه البشرية ومثله العليا، بين شرطه الحياتي وأحلامه الوردية، بين الأمل والإحباط، بين الحياة كممارسة بكل جاذبيتها وعنفوانها، وصراعها الطبقي الرهيب، وممارسة على الورق عبر الكتابة، وردّ الاعتبار للمسحوقين وللتاريخ الشفوي المضاد، تلك الحيلة التي أتقنها شكري فخلّد سيرته في رائعة إنسانية وفنية حقيقية، وكسا وحل الحياة ببريق الإبداع.