العشماوي وجارتنا أم إسحاق / بقلم: ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين


مات “عشماوي” الموت حق، لكن عندما تلاحق وجه “عشماوي” رياح التشفي والتساؤل وتركض أحصنة الإعلام فوق رمال الكلمات المتقاطعة التي توقع انكسارها على نافذة التنهد، لا بد أن نركز على الوجه الذي انتصر عليه الموت، بعد أن كان هو حامل الموت ودافع فواتير الحياة.
“حسين قرني” الملقب “عشماوي” أو أشهر منفذي أحكام الإعدام في مصر، كان يصل إليه قرار المحكمة وما عليه سوى ربط الحبل جيداً حول عنق المحكوم وشده حتى يختنق و يسقط في حفرة الموت، وقد اعترف “عشماوي” أنه قام بإعدام 1070 من رجال وسيدات وقد دخل موسوعة “جينس” على أنه أكثر من نفذ أحكام الإعدام في العالم، ومات عشماوي نتيجة جلطة في الدماغ.

لا نريد أن تتدلى الجماجم أمامنا ونحن نتذكره ونحاول الدخول في شرايين جسمه التي صدئت من شدة غموض شخصية “عشماوي” والتساؤل كيف كان يعيش وينام ويأكل ويتزوج وينجب الأبناء؟ وكيف كان يعيش بين هلع المحكوم بالإعدام وبين وجهه البارد الذي يتقن شد الحبل؟ كيف كان يمشي إلى الموت مرحباً بالقادم وهو يعرف أنه سيرقص رقصة الحياة الأخيرة؟

حاولت إضرام النار في شخصية “عشماوي” ونثر رمادها، لكن فوجئت أن اشتعال الرماد تحول إلى بدلات رسمية وقمصان بيضاء منشاة وسجاجيد حمراء، وفضائيات تنقل الوجوه اللامعة والضحكات العالية، ويبدو أن المرايا بدأت تطلب مني باستخفاف المقارنة بين “عشماوي” الرجل الذي مهنته “تنفيذ حكم الإعدام” وبين الرؤساء وقادة الدول الذين يقتلون بسلاحهم وصواريخهم وطائراتهم الملايين ولا أحد يطلق عليهم ألقاب “عشماوي” أو”منفذي حكم الإعدام” بل يطلقون عليهم بفخر واعتزاز الملك العظيم والقائد المبجل والرئيس القوي وسمو الوزير، ألقاب ترمي بخار الظلم في عتمة التاريخ، وحين تقهقه كتب التاريخ نجد هناك من يدافع بحرارة عن هؤلاء القادة والملوك والرؤساء، ولا أحد يلاحق ظلال القتلى، والمضحك أن جنازات هؤلاء تتحول إلى مظاهرات إنسانية تلطم فيها النسوة وتذرف دموع اليتم و يصبح السواد لغة الحزن العام في الدولة.

تناقلت وسائل الإعلام الرقم 1070 بذهول و “عشماوي” كان يردد هذا عملي “شغلي الذي آكل منه عيش” أن هذا الرقم لا يساوي شيئاً أمام المجازر والمذابح الإسرائيلية التي قامت بها، أو حتى القتلى العراقيين الذين قام بذبحهم بوش الأب -هل تذكرون مأساة ملجأ العامرية في بغداد- وبوش الإبن وأوباما وترامب وغيره، إن هذا الرقم لا يصل إلى المذابح اليمنية التي ترتكبها قوات التحالف بقيادة السعودية،
ولا تصل إلى مذابح الاستعمار الفرنسي والبلجيكي والهولندي في القارة الافريقية أو حتى مذابح الهنود الحمر في أمريكا.

حين يستيقظ التاريخ لا يفكر بالعودة، ولكن كل واحد فينا يعرف كل رئيس هو “عشماوي” وما دام التاريخ ينزف فوق الصفحات، هذه الأيام تعود إلى وسائل الإعلام بإصرار من الرئيس الأمريكي بايدن قضية “مذبحة الأرمن أو الإبادة الجماعية” التي قامت بها الدولة العثمانية عام 1915، ورغم فتح الملف في هذا الوقت هو لحاجة في نفس بايدن، ليس حباً بالأرمن. لكن هنا أتذكر جارتنا الأرمنية في مدينة الناصرة “أم إسحاق” التي نجت من المذبحة وهي طفلة لكن بقي الوشم الذي وشمته على يدها استعداداً للموت يضيء ذاكرتها، أذكر كيف كانت ملامحها تغوص في كومة من الوجوه، وجه والدتها ووالدها وشقيقها وحين تفرغ بطارية ذكرياتها تذهب إلى صمتها سريعاً وتنظر بعيداً إلى مقاعد الرؤساء والملوك الذين يسيرون على السجاجيد الحمراء وتستحيل ضحكاتهم مشانق للشعوب.

رحم الله “عشماوي” الذي كانت مهنته واضحة وضوح الشمس الساطعة، ولكن الله لا يرحم هؤلاء الذين مهنتهم قتل الشعوب وإطلاق التصريحات والشعارات الرنانة والخطابات النارية، وتتحول بعد ذلك حياتهم إلى فراشات ملونة بين دفتي كتب التاريخ .

ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *