ورد في جزء من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَباغَضُوا، وكُونُوا إخْوانًا،…). صحيح البخاري.
فالظن يعد من المفاهيم الأساسية التي ركز عليها القرآن بشكل دقيق، حيث ورد لفظ الظن في القرآن نحو ستين مرة بين اسمٍ وفعل،
ويرى المفسرون أن للظن وجهين:
فقد يأتي الظن بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). البقرة 46.
أو بمعنى الشك، كما جاء لسان صاحب الجنة الكافر: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). الكهف 35 و 36.
من حيث اللغة يمكن التميز بين الحالتين من خلال سياق الجملة ومبناها
ظن + أنَّ = تفيد اليقين.
ظن + أنْ = فمعناه الشك.
يبقى أن الظن عند عموم الناس هو خلاف اليقين. أو علم الشيء بغير يقين، أو هو إدراك الذهن الشيء مع ترجيحه..
يقول ابن منظور: “الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر.” لسان العرب.
وقال الزبيدي: “الظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم .” تاج العروس.
وقال الراغب الأصفهاني: “الظن اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم.” مفردات القرآن.
والظَّنِينُ: المُتَّهم الذي تُظَنُّ به التهمة، ومصدره الظِّنَّة، والجمع الظِّنَنُ.
أما والظَّنُونُ: الرجل القليل الخير، ولا يُوثَق بخبره؛
قال زهير: أَلا أَبْلِغْ لدَيْكَ بني تَميمٍ *** وقد يأْتيك بالخَبَرِ الظَّنُونُ.
وقيل: الظَّنُونُ المُتَّهَمُ في عقله، والظَّنُونُ كل ما لا يُوثَقُ به من ماء أَو غيره.
يقال: عِلْمُه بالشيء ظَنونٌ إذا لم يوثق.
وللظن في القرآن والسنة عدة معانٍ تختلف باختلاف السياق الذي ورد فيه، كما الشأن بالنسبة للآيتين السابقتين.
وقد لخصها ابن القيم رحمه الله في خمس معان:
1- اليقين
2- الشك
3- التهمة؛
وَمِنْه قَوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ على الْغَيْب بظنين﴾، أَي بمتهم.
4- الحسبان؛
كقوله تعالى: (إِنَّه ظن أَن لن يحور)، أَي: حسب.
5- الكذب؛
مثال قوله تعالى: (إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا).
والانسان في هذا هو بين خيارين إما خيرا أو شرا
فالخير يتجلى في حسن الظن، أما الظن السيء فمذموم، كما نرى في قوله تعالى: (…وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ…). آل عمران 154.
لما يخلف من ضرر يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا…). الحجرات 12 .
يرى سقراط أنّ الظن هو نوع من أنواع المعرفة الأربعة، وهي: الإحساس، والظن، والاستدلال، والتعقُّل، أمّا الظن فقد عرّفه على أنّه الحُكم على الأمور المحسوسة بما هي عليه، ويرى أن الحكم يختلف باختلاف الموضوع، وهذا ما أشرنا اليه سابقا، وهو إما أن يكون صادقاً وإما أن يكون كاذباً، مضيفا أن الظن الصادق يعتبر إلهاما، أما الظن الذي يحتمل الصدق أو الكذب معا فهو تخمين، وهو ما يوجِد القلق في نفس المرء والذي يدفعها بدوره إلى طلب العلم.
غير أن القرآن يذم هذا الصنف من الظن المصحوب بالشك في مجال الاعتقاد لأن العقيدة تتطلب اليقين، إذ يقول : (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). سورة النجم 28.
وقال تعالى: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا. بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ). سورة النمل 65 و66.
حسن الظن بالله واجب، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ، يَقُولُ: لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ. أخرجه الإمام أحمد ومسلم.
فسوء الظن به تعالى حرام وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن” الحديث. من هنا نفهم لماذا نهانا رسول الله عن سوء الظن عموما، لما يجلبه للنفس البشرية من شر وأذى.
يقول الشاعر :
فلا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا *** وكيف بظالم جبان جهول
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً “.
كما أن حسن الظن بالناس مطلوب شرعا، لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تتبع أمور الناس وعوراتهم، وعلى المرء أن يشغل نفسه بالخير، وعدم الوقوع فيما لا يحمد عقباه، فقال: “يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ”. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
ولنتمعن جيدا قول بكر بن عبد الله المزني: “إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك”، تهذيب التهذيب.
سوء الظن غالبا ما يحمل النفس ويدفعها إلى التجسس والتحسس والغيبة والتحاسد والتباغض والتدابر، وقطع الصلات والأرحام.
فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يهدأ له بال حتى يفرق بين الناس، ويجلب العداوة لهم.
فإذا بلغك عن إنسان شيء تكرهه فالتمس له العذر، فإن لم تجد له عذراً فقل لعلّه له عذر لا أعلمه، تعش مرتاحا أبد الدهر. وهذا من المسالك الجيدة التي تعيننا على حسن الظن بالناس وعدم الغوص في نواياهم التي يعلمها إلا الله سبحانه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءاً وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً.” وقال أيضاً: “لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه.”
فلنشغل أنفسنا في الوقوف على عيوبنا وإصلاحها حتى ترتاح قلوبنا.
ولنستمع إلى قول الشاعر وهو يدعونا الى التلبس بقناع التسامح والعفو عن الناس حتى وإن أخطأ شخص في حقنا :
سَامِحْ أَخَاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَطِ
وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صديقٍ وفيٍّ مُخْلِصٍ لَبِقٍ
أَضْحَى عَدُوًّا بِمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ
حَمَاهُمُ اللهُ مِنْ دَوَّامَةِ السَّقَطِ
أَلَسْتَ تَرْجُوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِرَةً
يَوْمَ الزِّحَامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَطِ
وانظر بتمعن إلى قول الشافعي رحمه الله :
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ
فَكلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَينكَ إنْ أَبْدَتْ إَلَيكَ مَعَايِباً
فَصُنْهَا وَقُلْ يَاعَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
الذي يدعون فيه إلى مسك اللسان، منبع الشر والنار التي تحرق اليابس والأخضر، وسنكون نحن أول ضحاياه. وإن رأت عينك عيوب، فلربما تظهر لها عيوبك وسيخبرك بها غيرك.
فلا “يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل” الحديث.
(ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) صدق الله العظيم.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ذ. سعيد محتال / المغرب
