ما زلنا في مرحلة “هزي يا نواعم” / بقلم: ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين


لم نكن نعلم شيئاً عن اللقاء، فجأة جاء مربي الصف وأعلن أنه سيأخذ طلاب الصف إلى لقاء مع رئيس الوزراء ضمن اللقاء العربي اليهودي، حيث سنلتقي بطلاب من إحدى المدارس الثانوية اليهودية، فقط علينا أن نكون على خلق، لا نقوم بأي ضجة، فنحن نحمل سمعة المدرسة على أكتافنا، ونحن الوجه المشرق ورمز النجاح، هكذا كرر مدير المدرسة الذي وقف في منتصف الساحة مقدما توصياته المعروفة، و التي لم تشغل حيزاً من اهتمامنا، بقدر ما شغلت قصة التخلص من الدروس والخروج من المدرسة حيزاً من الفرح الذي انطلق عبر الضحكات المرسومة على وجوهنا، وأضاف المدير، علينا ان نتعامل مع الطلاب اليهود بروح الأخوة والتسامح وعدم إسماعهم الألفاظ والكلمات الخشنة، ثم اشار إلى عدة طلاب عرف عنهم المشاغبة وحبهم للشجار والاقتتال. وأخذ يهددهم اذا قاموا بعمل يسيئ إلى المدرسة و يعدد أشكال العقاب الذي سينزل عليهم.

المدينة الناصرة عام 1975.. طوال الطريق التي امتدت من المدرسة الثانوية الواقعة في منطقة الكراجات إلى المركز الثقافي الواقع قرب المستشفى الفرنسي في حي الميدان، والمعلم يحاول تحذيرنا من المشاغبة، وكلما خرج أحدنا من صف العسكر كما أطلق علينا حتى يصرخ المعلم لاعناً هذا اليوم الذي فكرت المدرسة أن تشترك في لقاء رئيس الوزراء الذي كان في ذلك الوقت “اسحاق رابين”.

ما إن دخلنا قاعة المركز الثقافي حتى وجدنا الطلاب اليهود قد جلسوا على جهة اليسار، أما نحن فقد بدأنا نشعر بالورطة حين اكتشفنا أن عدد الكراسي في جهة اليمين أقل من عددنا مما يستدعي على البعض أن يبقى واقفاً، أما معلمنا العربي فقد صافح المعلم اليهودي وجلسا معاً، أما نحن فقد بدأنا نراقب سلوك وتصرفات الطلاب اليهود، نسخر من هذا وذاك وحتى نغطي على حيرتنا أخذنا نتحدث بصوت عال.. ثم رأينا بعض رجال الشرطة والحرس يهرولون.. وعرفنا أن رئيس الوزراء قد وصل.. طلب منا المعلم الوقوف احتراماً.. وقفنا.. دخل رئيس الوزراء تسابقه تحركات الحرس الشخصي الذي كان يجمع نظراتنا ويحولها الى برقيات خضوع وانحناء.

ما أن وصل رئيس الوزراء بخطواته إلى منتصف القاعة ورفع يده رداً على ترحيب الطلاب اليهود حتى قاموا وأخذوا ينشدون نشيد “هتكفا” أو نشيد الأمل ، فوقف رئيس الوزراء أمامهم وكرر التحية وأخذ يتكلم مع معلمهم.. أما نحن فكنا نراقب بصمت، فقد شعرنا بشيء قد كسر في داخلنا، لأن النشيد منحهم القوة، ورأينا هالة من العزيمة والتصميم في إيقاع النشيد، واكتشفنا أننا لا نعرف شيئاً وأننا لا نتقن إلا لغة الصمت والذهول، ودهشة العجز.

وحتى نحفظ ماء وجوهنا، وبحركة لا شعورية وقف أحد الطلاب والذي كان محسوباً في المدرسة على فئة المشاغبين، وأخذ يغني (هزي يا نواعم) حيث كانت هذه الأغنية شائعة ومطربها الشاب عصام رجي قد احتل الرقم القياسي في مبيعات الكاسيتات، وأخذنا نردد أمام رئيس الوزراء (هزي يا نواعم بشعرك الحرير) وبصوت عال استطعنا أن نواجه نشيد “هتكفا”.

في اليوم التالي كان العقاب الجماعي من طرف مدير المدرسة وبعض المعلمين، فقد انهالت علينا العبارات القاسية والكلمات التي حولتنا من طلاب كبار إلى صبية لا نملك أي فكرة عن الاحترام وعن المسؤولية، بل الاستهتار يجري في دمنا.

لكن خرجت صحيفة “الاتحاد الحيفاوية” التي كانت تصدر يوم الجمعة وفيها مجموعة من المقالات جميعها تدور حول “جيل هزي يا نواعم” الجيل الذي لا يملك نشيداً وطنياً، لا يعرف معنى النشيد الوطني، لا يعرف النشيد الفلسطيني “عليك مني السلام يا أرض اجدادي” أو “موطني” الذي كان النشيد الفلسطيني عام 1936. وعدم اهتمام وزارة المعارف الاسرائيلية بوضع مناهج دراسية تتطرق فيها الى تاريخ وأدب الشعب الفلسطيني.

السنوات تكر أمامي مثل حبات السبحة، وهذه الحادثة تلخص الحالة التي ما زال يعيشها الطالب العربي حتى اليوم، وإذا كانت أغنية “هزي يا نواعم” قد قامت بتعرية أعماقنا، وكشفت عن مواطن العار في مشاعرنا، والخلل الذي تبنى عليه المناهج التدريسية آنذاك، فما زلنا نعيش حتى اليوم في زمن “هزي يا نواعم” فدهاليز وزارة المعارف تحمل رسائل قطع العلاقة بين الطالب العربي الفلسطيني وتاريخه، رسالة سحب الطالب من لغته وتفكيره، قطعه من جذور قضيته.

وزارة المعارف تخفي تحت طيات فسادها تجاهل المناسبات الوطنية الفلسطينية، كأن الطالب العربي –مقطوع من شجرته التاريخية-، و الخجل يتراكم أمام أبواب مدارسنا التي تتجاهل المناسبات و يصمت الطاقم الدراسي. والمصيبة أن المفتش والمسؤول العربي في الوزارة عبارة عن ختم مطاطي للوزارة.

كلما قام أحد الوزراء أو أحد المسؤولين بزيارة لإحدى المدارس العربية، أتساءل بعد باقة الورد والابتسامات البراقة التي قررت التنافس في ساحة النفاق والمجاملات، ماذا سيقول الطلاب..؟؟ هل سيفتشون حولهم عن سطور مفقودة..؟ أم سيخرج أحد الطلاب وينشد متحدياً الصمت “هزي يا نواعم”، مع أننا نعرف أن “الهز” تغير فلكل زمن هزه ونواعمه.

ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *