قراءة في رواية “دعاء السلام” للروائي المغربي يونس حماد / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب


(نص مداخلتي في ندوة فكرية أدبية مؤخرا على تطبيق “zoom” ل “مسطحة” أحد المواقع الفيسبوكية الصديقة).
تحت عنوان: هل سقف حلم المرأة المغربية/ العربية هو “مؤسسة الزواج” هدفا و مُنتهى؟ (الشخصيات النسائية في رواية “دعاء السلام” نموذجا)

نص القراءة:
ـ تمهيد:
عودتنا الروايات بمعناها التقليدي كما شاهدنا بعضها على القنوات التلفزيونية لما يُسمّى “الزمن الجميل” (و هل كان جميلا فعلا؟) أن نجلس أكثر من ساعتين ننتظر قُبلة، لنصفّق بحرارة لانتصار البطل رفقة البطلة. و لمّا كان المشهد الأخير ينتهي بمأساة، نقول عن الكاتب إنه “فاشل”، و يقابل نهاية الفيلم الضجيج و الصفير و التنديد و الاحتجاج… في تمثّلاتنا آنذاك، لا يمكن ل “بنية” الحكاية (قصة كانت أو رواية اوشريطا سينيمائيا…) إلا أن تكون مغلقة… لكن، مع مرور الزمن، تعلّمنا من أدباء عظام (و منهم أب المسرح الألماني/ العالمي الحديث “برتولد بريخت”) أن نهاية الحكاية بداية لحكايات أخرى، المبدأ الأساس الذي قامت عليه روايات و قصص أدباء عالميين من أمريكا اللاتينية مثل “غارسيا ماركيز، و لويس بورخيس، و نجيب محفوظ. لذا ارتأينا مقاربة رواية “دعاء السلام” للروائي المغربي الصديق يونس حماد انطلاقا من محورين:

ـ النص الروائي باعتباره ماكروـ بنية مغلقة من وجهة نظر بنيوية شكلانية،
ـ النص الروائي باعتباره مفتوحا على جميع الاحتمالات بإشراكه للقارئ من منطلق دعامات نظرية جمالية التلقي في النقد الأدبي.

النص الروائي باعتباره ماكروـ بنية مغلقة من وجهة نظر بنيوية شكلانية،
غالبا ما يلجأ القارئ المعاصر متأثرا بمقرر اللغة العربية و آدابها في السنة النهائية للباكالوريا و السلك الأول من الدراسات الجامعية ل “خطاطات جاهزة” منقولة بشكل مُبَسّط من كتب علم السرديات الحديثة، كما ل “وصفات الأكل الجاهز” يملأها كما شبكة كلمات متقاطعة، و يكتفي بها؛
مثل:
أـ “هرم فريتاغ: التمهيد/ المقدمة إلى الحدث الصاعد إلى الذروة إلى الحدث النازل إلى الحلّ / النهاية.
أمثلة: “علاء” (بطل الرواية) يفقد حبيبته “دعاء” في مستهلّ الرواية، ما يُقلقُ آفاق انتظار المُتَلقّي التقليدي الذي قد يرمي بالرواية جانبا بسبب انغلاق آفاقها الرومانسية الجميلة المعتادة التي تُحفِّز ابتسامته.
أو كما جاءت في الخطاطة السردية عند غريماس: وضعية الاستهلال، و العنصر المخيب (أو المُخِل) الذي ينقل الحكاية من وضعية البداية إلى وضعية الوسط و هي وضعية السيرورة و التحول بشكل تصاعدي التي يليها عنصر الانفراج إيجابيا أو سلبيا التي تؤدي إلى وضعية النهاية.
و قد يسوق أي قارئ أو طالب أمثلة من رواية “دعاء السلام” (التي نحن بصددها) كأن يقول بتعدّد العنصر”المُخِلّ” في الرواية بتعدّد الشخصيات؛ ف “دعاء” تترك “علاء” بحثا عن زوج غنيّ (“أحمد”)، و “حنان” تكيد ل “نور” كي لا تتزوج من “خالد”، و “سعاد” تلعب دور الأم المتملّكة لابنها فترفض زواج الدكتور “خالد” ابنها من “عفاف”… و تصل الأمور إلى ذروتها لنصل إلى الانفراج التنازلي بزواج “عفاف” ب “جمال”، و “نور” ب “خالد”…

ب ـ النموذج العاملي: أي القوة الفاعلة التي تقوم بتوجيه الأحداث و تفعيلها: العامل الذات الراغب في الحصول على العامل الموضوع أو العكس (بينهما علاقة رغبة)، و العامل الذات يحتاج إلى عامل الحافز أو الدافع (هو العامل المُرسِل)، و تحقيق الذات للموضع عبر الحافز يذهب إلى عامل المستفيد (أو المُرسَل إليه)، و بين المُرسِل و المترسَل إليه علاقة تواصل، و في مخاض البحث عن تحقيق الذات للموضوع هناك عوامل مساعدة، و عوامل معارضة (و العلاقة بينهما علاقة صراع دائمة).
و في سياق هذه الرواية “دعاء السلام” للروائي المغربي يونس حماد قد يتسلّى القارئ المبتدئ باعتبار “المال” “مُرْسِلا”، أي حافزا قد يجعل “علاء” يقبل بالاغراءات المالية (باسم المساعدة) ل “ليلى” و “هدى”، و قد يجعل “عفاف” تستميل “جمال” باسم الحب، و تؤجج غضب “أحمد” بسبب الغيرة…

ج ـ المربع السيميائي:
المربع السيميائي طريقة في التحليل الدلالي، اجترحه غريماس، وأريد منه اظهار التقابلات ونقاط التقاطع في النصوص، وتطور حركة عناصر السرد وانتقالاتها من زاوية الى اخرى، ويتكون من أربع زوايا تمثل الزاويتان العلويتان الشيء ونقيضه، اما الزاويتان في الاسفل فتمثلان نفي الشيء ونفي نقيضه.
و قد نعتمد مثل “هذه الوجبات السريعة” مَدرسِيّا كأن نقول بأن “الشيء” في الرواية هذه هو “الفقر”، و “نقيضه” هو “الغِنى” ب “الزواج” (نموذج “نور” و “دعاء”)، و بأنّ “نفي الشيء” هو تقبّل “الفقر” باسم الحب (زواج “جمال” ب “عفاف”)، و”نفي نقيضه” (تقبّل أمّ “جمال” حياة البساطة رغم أصولها و تربيتها الأرستقراطية)….

لا يمكن اعتماد مثل هذه الخطاطات بشكل آلي و إسقاطها على رواية “دعاء السلام” لعدة اعتبارات:
ـ النموذج العاملي غير فعال لأن الذوات الفاعلة (Les actants) أو الشخصيات استهلكت الأحداث و تفاعلت معها و لم تصنعها:
ـ “علاء” فقد حبيبته “دعاء” التي تزوجت غيره بسبب الفقر، و لم يحرك ساكنا،
ـ تحرك مشاعر الدكتور “جمال” اتُجاه “عفاف” مساعدته و أخت “علاء” أتى عن طريق الصدفة، لما لاحظ غيرتها الغير مُتَحَكَّم فيها تجاه زبونة، و لم يحرك ساكنا لما رفضت “سعاد” أمه الزواج بها في البداية.
ـ كادت خطوبة “خالد” من “نور” أن تُفسخ بسبب كيد و حسد صديقتها “حنان”؛ إذ لم يحرك ساكنا لا هو و لا نور لولا تدخل أخته “هدى”.
ـ الخطاطة السردية للأحداث الدرامية جاءت كلها و كأنها وليدة صدفة؛ إذ حتى لقاء علاء بدعاء بعد فراق دام ما يقارب عقدا من الزمن أتى عن طريق الصدفة لأنه لم يزر بيتها إلا ليعطيَ دروسا في الدعم و التقوية لابنها من أحمد الأستاذ الجامعي الثري المتقاعد باقتراح من ليلى مديرة المدرسة الخصوصية التي كان يشتغل بها، و لم يكن يعلم مسبقا أن التلميذ المستهدف هو ابن دعاء من “أحمد”. و سبب قبول “سعاد” أم “جمال” زواج ابنها من “عفاف” كان وليد صدفة نتجت عن حادثة سير كادت تكون قاتلة فسحت الفرصة ل “عفاف” بأن تلازمها و تراعيها في المستشفى مما جعل قلبها يحن عليها و تقبل بها عروسة لابنها.
ـ هذا النوع من الخطاطات تتعامل النصوص السردية كالقصة و الحكاية و الرواية باعتبارها “بنيات مغلقة” بَيْدَ ان بُنى النصوص السردية الحديثة و المعاصرة أشد تعقيدا من بنى النصوص الحكائية الشعبية التراثية العتيقة التي اعتمدها مُنَظِّر “علم السرد” الحديث “فلاديمير بروب” بسبب تعقيدات المجتمعات المعاصرة. فخلاف اعتقاد البنيويين و الشكلانيين بانغلاق بنية النصوص السردية (Structures hermétiques)، يرى أمبيرطو إيكو أن هذه البُنى النصية مفتوحة من منطلق نظرية التعاون التأويلي في النصوص السردية أو نظرية القارئ في الحكاية. و هي نظرة مستوحاة من نظرية جمالية التلقي الألمانية (Esthétique de la réception)، و من خاصة من رومان إينجارد أحد روادها المجددين الذي طوّر نظرية جمالية التلقي في النقد معتبرا “العمل الفني موضوعا قصديا ينجزه المبدع، و أنّ فعل التحقق يُنجزه المتلقّي، و العلاقة بينهما إلى إنجاز الموضوع الجمالي.”

النص الروائي باعتباره مفتوحا على جميع الاحتمالات بإشراكه للقارئ من منطلق دعامات نظرية جمالية التلقي في النقد الأدبي:
من هذا المنطلق يمكن استخلاص استنتاجين:
ـ الاستنتاج الأول: لا يمكن اعتبار “ماكروـ بنية” رواية “دعاء السلام” مغلقة لأن أحداثها لم تنته صفحة 161 حيث نقطة النهاية و ذلك للاعتبارات التالية:
ـ معضلة الفقر في المجتمع لم تجد حلها في مؤسسة الزواج (تهرّب علاء من ليلى صاحبة المدرسة الخصوصية بعد عرضها المغري إدارة المؤسسة خوفا من استعبادها له؛ رفضه كذلك لمساعدةً “فدوى” أخت “أحمد” زوج “دعاء” التي كانت تخطط للزواج منه؛ لم تحقق نور أخت “علاء” سقف أحلامها بالتخلص من الفقر عن طريق زوج غني، إذ اكتفت بالمهندس “خالد” المنتمي للطبقة الوسطى؛ و لا حتى “دعاء” وجدت سعادتها مع زوجها “أحمد” الرجل الكهل الذي اشتراها بماله مقابل استعبادها؛ و لم يتبين كذلك إن كان في مستقبل الأحداث التي لم تسردها الرواية إن كان “علاء” سيقبل عرض “ليلى” و يتخلى عن مبادئه بسبب الفقر، أم سيقبل الزواج ب “فدوى” لكسب مساعدتها و إخماد نار الشك لدى “أحمد” في احتمال خيانة زوجته “دعاء” مع “علاء”، أو زواجه ب “هُدى” اخت “خالد” لانسجامهما و عشقهما للأدب… و الأهم من هذا كله، و الأخطر الذي يمنع الرواية من السكون في آخر محطاتها كبنية مغلقة، و احتمال انفجار أحداثها هو، و خلاف الحكايات الشعبية القديمة التي روّجتْ لها السينما الكلاسيكية و التي كانت تنتهي بلازمة : “و عاشوا في ثبات و نبات و خلفوا صبيان و بنات”؛ أقول خلاف هذا المعتقد الحكائي القديم الذي يجعل من “مؤسسة الزواج” سقف الأحلام و مُنتهاها السعيد، فإن الواقع يصدمنا بالعكس تماما لأن مشاكل الحياة تبدأ فعليا داخل مؤسسة الزواج: كيف ستعيش عفاف مع حماتها التي و إن رضيت بها زوجة لابنها هل ستتخلى بسهولة عن عجرفتها الأرستقراطية؟ و هل ستكتفي نور و هي التي كانت تحلم بزوج ثري بمدخول زوجها خالد، و هل ستستمر هدى أخت خالد في تقبلها لنور إذا لم يتقدم علاء لخطبتها؟…

– الاستنتاج الثاني: كيف يتحقق الموضوع الجمالي بين الكاتب يونس حماد و المتلقّي من خلال هذه الرواية “دعاء السلام” إن تبنينا مقولة رومان إينجارد بأن “العمل الفني موضوع قصدي ينجزه المبدع، و أنّ فعل التحقق يُنجزه المتلقّي، و العلاقة بينهما إلى إنجاز الموضوع الجمالي”؟
وظف الروائي يونس حماد تقنيتين (من بين أخريات) في إشراك القارئ/ المتلقي للتفاعل الإيجابي مع روايته:

ـ التقنية الأولى: توظيف لازمة “كيفك أنت…” التي تحيل المتلقي على أغنية لفيروز… لازمة تتكرر على طول النص و كأنها “العنوان الحقيقي” للرواية. أو كأنّ الحكاية كلها مستوحاة من هذه الأغنية الخالدة؛ فمطلع الأغنية يبدأ الرواية و ينهيها. له تأثير أكيد على القارئ العاشق لأغاني فيروز، لكنه تأثير أكبر و أخطر على شخصيات الرواية خاصة علاء و دعاء و أحمد؛ الأغنية كانت ملازمة لعلاء لوفائه لحب ضائع؛ و كسّرت دعاء كأس الشاي أمام زوجها في حضور فدوى و علاء بمجرد سماعها لمطلع الأغنية التي تذكرها بحبها القديم لعلاء؛ حب لم تلتئم جروحه رغم الزمن؛ و ردة فعل أحمد زوج دعاء بعد مشهد كسر الكأس و تداعيات ثورة الشك… و كأننا نستعيد مع توظيف هذه الأغنية و تأثيرها عوالم مارسيل بروست في مجموعته الروائية العالمية: “من الزمن الضائع… إلى الزمن المسترجع” (De à la recherche du temps perdu… au temps retrouvé)… صدى الأغنية و رنين الكأس و ذكريات علاء المدونة على صفحات مفكرته اليومية تشبه إلى حدّ بعيد تأثير “لوحة أوديت”، و أنغام “السوناتا” على “سوان” بطل مارسيل بروست الذي كان يستعيد ذكرياته على شكل ومضات (réminiscences) بمجرد سماعه للسّوناتا أو بإمعان النظر في لوحة بورتريه “أوديت”.

ـ التقنية الثانية: توظيف فقرات داخل الرواية مكتوبة بين مزدوجتين سماها الكاتب “مذكرة دعاء السلام” (ص. 96) بنفس عنوان الرواية (و كأننا برواية داخل الرواية). فقرات كان يكتبها علاء كلما اختلى بنفسه داخل غرفته تتضمّن حصيلة الأحداث اليومية؛ و كأنها ملخص لما فات القارئ من تطور في الأحداث؛ و لم يكن هذا القارئ المحتمل ( أو المستحيل) سوى دعاء/ الحب الضائع. و يفاجأ قراء الرواية في آخر فقرة من الفصل الخامس (أي نهاية الرواية) أن هذه القارئة المحتملة/ المتخيّلة/ المستحيلة تلج غرفة علاء و هي مدعوة لعرس نور و عفاف مستغلة انشغال أهل الدار مع طقوس الفرح، لتفتح “مفكرة دعاء السلام” و كل ما كتبه لها علاء، و لم ينته الأمر عند القراءة بل أخذت القلم و كتبت نهاية المفكرة، و نهاية الرواية… بهذه اللمسة الجميلة (إشراك دعاء كعنوان للرواية و المفكرة و كقارئة و ككاتبة) قد يكون الروائي يونس حماد قد أجاب عن سؤال ربما حيّر القارئ طيلة قراءة الرواية: ـ ما الفائدة من هذه المفكرة التي لا تعدو مجرد تذكير مجاني لأحداث الرواية على حساب الوصف المغيّب في الرواية رغم كونه ركنا أساسيا فيها؟
نكتفي بهذا القدر و لنا عودة للرواية و أعمال أخرى للمبدع المغربي الروائي يونس حماد..

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *