تحت عنوان: من “الفينومينولوجيا” إلى “الهيرمينوطيقا”
توطئة: حيثيات منهجية
لقد تم تصنيف هذه المجموعة ضمن خانة “الشعر”. قد يقرأها المُتَلقّي العادي تحت هذه اليافطة، لكن القارئ المتخصص قد لا يُغَيِّبُ في مقاربته للمَتْن إشكالية “التجنيس”. أي ما يجعل من هذا العمل الإبداعي عملا شعريا. سؤال يستحضر مرجعيات مختلفة و تمثّلات متباينة و آفاق انتظار متضاربة بين المحافظين و دعاة “الحداثة”؛ سؤال تجاوزه رواد النقد الحديث في الغرب خاصة منذ ستينيات القرن الماضي لمّا اعتمدوا في تقييمهم للعمل الإبداعي الأدبي و منه النص الشعري على معايير تخرج على النمطية التقليدية الخاضعة لقواعد “الخليل”، و اعتماد سؤال “الأدبية” (ريفاتير)، أو “الشعرية” (تودوروف)، أو “البلاغة” (رولان بارت)، أي استنطاق تجليات الجمالية في “الاختلاف” (بمعنى التّفرّد في الابتكار)، أي البحث عن القيمة المضافة (أو البصمة الفارقة) التي جاء بها المبدع و لو كانت خارجة عن “الكليشيهات” المعهودة، أي ما يستفز ذائقتنا بجماليته بعد “الدرجة الصفر من الكتابة” (كما عبّر عنها رولان بارت). لذا تنطلق منهجيتي في القراءة النقدية للأعمال الأدبية “الحداثية” (و لا أقول المعاصرة) (كما لهذا الديوان “وسوسة الغيم” لأحمد مصطفى سعيد) من مقولة رومان إنجارد (و هو من الرواد المجددين لنظرية “جمالية التلقي في النقد”) التي تعتبر “العمل الفنّي موضوعا قصديّا ينجزه المبدع، و أنّ فعل التحقق ينجزه المُتَلقّي، و العلاقة بينهما تؤدي حتما إلى إنجاز الموضوع الجمالي.”
من هنا سؤالي كمُتَلقّي “يقظ”: ـ كيف لي و أنا أقرأ المجموعة الشعرية “وسوسة الغيم” أن أشارك (أتعاون مع) أحمد مصطفى سعيد في إعادة إنتاج المعنى عبر تفكيك خطاب النصوص لغة و أساليب و صُوّرا و رسائل مشفرة باعتبارها “مَتْنا” يوحي، و لا يقول يبيح “المتعة” قبل “النقمة”. و انسجاما مع العنوان الرئيس لهذه الورقة النقدية: من “الفينومينولوجيا” إلى “الهيرمينوطيقا”، سنحاول مقاربة هذه المجموعة الشعرية عبر محورين: من المقاربة “السيميوزية” إلى المقاربة “السيميائية”.
1ـ مقاربة “سيميوزية”
1ـ 1ـ “البناء المعماري” للكتاب.
اعتمد الشاعر أحمد مصطفى سعيد في بناء نصوص المجموعة “هندسة” بعيدة عن نمطية الشعر العمودي (أبيات بصدر و عجز)، من دعاماتها
أـ “المحاكاة” (محاكاة الشكل للمضمون) و كأنه يلغي العلاقة “الاعتباطية” بين الدال و المدلول (كما جاء على لسان عالم اللسانيات دو سوسير)؛ منها هذه النماذج على سبيل المثال لا الحصر:
ـ من حيث الصورة الخطية: تفتيت حروف المفردة الواحدة و كتابتها عموديا في عدة نصوص منها نص: “عند حافة هاوية الوطن”؛ حيث يحاكي الرسم الخطي (“الكوفي”) لواعج الوجدان؛ فنقرأ:
“و لي أن أنقش بالخط الكوفي
البارز
المدمم
على باب الخروج
بمديتك يا فارس
و دمائنا
ب
ك
ا
ئ
ا
ت
ك” (ص. 7 و 8).
ـ من حيث الإيقاع الداخلي باللجوء مثلا إلى توظيف تقنية التكرار كما “لازمة” “تموت ببطء” في نص بنفس العنوان (ص. 16).
ـ من حيث تبويب النص الواحد إلى أجزاء تحاكي العدد الرقمي الموجود في عنوان النص؛ كما نص “أربع عشرة دمعة” (ص. 64) الذي قسمه الشاعر إلى أربع عشرة جزء، و كأن كلّ جزء قد خُصِّصَ لدمعة واحدة.
ب ـ تنويع آليات “التلفظ” (Enonciation) (بمفهوم غريماص) و الخلط بين الأجناس الأدبية: وظف الشاعر أحمد مصطفى سعيد عدة أنماط تلفُّظية مثل:
ـ السرد ( “تبئيرالدرجة الصفر” (Focalisation degré zéro) كما يعرف ذلك ج. جونيه) كما في نص “فانتازيا” (ص. 74) و كأنه يحكي قصة بضمير الغائب “هو”. أو يقتبس قصة لغيره كما نص “حرام آخر” (ص. 87) المُقتبس من قصة “الحرام” للأديب يوسف إدريس. حتى أنه أحيانا يبدو لي للقارئ أنه يقرأ نصا قصصيا بأجزاء كثيرة كما “رواية” مثل نص “همسات العشاق” (ص. 99) الذي يتكون من أربعين (40) جزءا.
ـ الحوار (بين “أنا” و “أنت”) و كأننا نقرأ مشاهد من نص مسرحي، كما في نص: “ارحلي” (ص. 97)
ـ المناجاة كما في نص “همسات العشاق” (ص. 99).
من هنا سؤالي كمُتَلقّي “يقظ”: ـ كيف لي و أنا أقرأ المجموعة الشعرية “وسوسة الغيم” أن أشارك (أتعاون مع) أحمد مصطفى سعيد في إعادة إنتاج المعنى عبر تفكيك خطاب النصوص لغة و أساليب و صُوّرا و رسائل مشفرة باعتبارها “مَتْنا” يوحي، و لا يقول يبيح “المتعة” قبل “النقمة”.
1ـ 2ـ “عتبات” النصوص:
خلال فسحة سفرنا عبر ربوع هذه المجموعة الشعرية، توقفنا عند ثماني عشرة (18) محطة؛ هي النصوص المكونة للمجموعة على طول ما يناهز 140 صفحة. و قراءة “سيميوزية” (أي ما قبل النص، و قد قاربنا أوجها منها في معرض حديثنا عن “الهندسة المعمارية” للنصوص) تفيد بأن قراءة عناوين النصوص ك “عتبات” ممكنة لتكوين آفاق انتظار لدى القارئ بخصوص فحوى “المتن”، و “الخط التحريري” للمُؤلف. تأتّى لنا من خلالها (قراءة عناوين النصوص) صياغة “خطاطة” أوّلية تضمّ حقلين معجميين دلاليين/ سيميائيين رئيسيين؛ يندرج الأول تحت خانة بعنوان: “علامات” (بالاصطلاح السيميائي) و يضم عناوين دالّة مثل “عصف الحال” (ص. 30)، و “فأقم الليلة عرسي” (ص. 54) (الوشم و الرسم). و “وسوسة الغيم” (ص. 91)، و “همسات العشاق” (ص. 99)، و “ذات الغمازتين” (ص. 122)، و”تجليات من العصر الحجري” (ص. 133). عناوين توحي باعتماد الأصوات (“عصف”، و “وسوسة”، و “همسات”) ، و الإشارة (“الغمز”)، و الصورة (“تجليات”) و الرسم بالوشم (في نص “فأقم الليلة عرسي”) توظيف “الحوّاس الظاهرة” لتحاكي “الحواس الباطنة”، و كأننا نلج مع الشاعر أحمد مصطفى سعيد عالم “الفينومينولوجيا” (أو علم الظواهر) بمفهوم الفيلسوف “كانط” الذي وظف للبحث عن المعرفة ثالوث “الحسّ”، و “الفهم” و “المخيلة”؛ نقرأ في السياق ذاته، هذا المقطع من نص “وسوسة الغيم”:
“للفتى أن يهجر هذا البيت
فجارته في العوز
تحتال على نكد العيش
بالغناء
كل صباح تسبق الشمس
ترشرش الصباحات
على وردها النائم في حياء
توقظ الكلب المتثائب إعياء
الحالم بعظمة تسد هذا الخواء…” (ص. 91).
2ـ المقاربة السيميائية:
و يضم الحقل المعجمي الدلالي السيميائي الثاني تحت خانة بعنوان: “وجدانيات” (بالمفهوم الوجودي) عناوين نصوص مثل “البوح البكر” (ص. 10)، و “تموت ببطء” (ص. 16)، و “دم ينهمر فجيعات” (ص. 22)، و “دموع المسيح” (ص. 44)، و “أربع عشرة دمعة” (ص. 64). نصوص شعرية (مثيرة ربما للجدل بالنسبة لمن يتعامل مع النصوص الحديثة ب “قلم أحمر”!) أنتج من خلالها الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد خطابا قريبا من فلسفة “الهيرمينوطيقا” عند “هانس جورج كادامير” لأنها (النصوص) تدعو (كما بمنظور نظرية “جمالية التلقي”) القارئ لثلاثة مستويات من التأويل:
أـ التأويل من منطق “فيلولوجي” (فقه اللغة): قد يرى في نصوص هذا الديوان ظاهرة لغوية أسلوبية تتوقف وظائفها عند “دهشة” أو “متعة” أو “استياء” المُتلقّي حسب مكان و زمن القراءة و مرجعيات القارئ؛ و قد لمّح الشاعر أحمد مصطفى سعيد بضرورة تجاوز هذا المستوى من القراءة في عدة نصوص، من بينها هذا المقطع من نص “أربع عشرة دمعة” (ص. 67):
“ترى النقطة التي
أسفل علامة التعجب
دمعة……… أم بصقة؟!!!”
ب ـ التأويل من منطق “لاهوتي”/ “أسطوري” (أو نظرية المعنى الوحيد)؛ و قد تعرّض لها الشاعر بالكثير من أساليب السخرية في نصّين: “دموع المسيح”، و “عصف الحال”؛ و نقرأ من هذا الأخير هذا المقطع (ص.37):
“يا ربّ تفرّدت وحدك
بكتاب الغد
فكيف لي أن أعرف
فرسان الشمس
سيخرجون عن النص
و الشموع صارت
دموعا على كل خدّ”…
ج ـ التأويل من منطق “نظرية المعنى المتعدد” (من مرجعيات العلوم الانسانية)؛ تأويل يقرنه الشاعر أحمد مصطفى سعيد في أكثر من نصّ ب “حرية الرأي و المعتقد”، و هو تمرّد في ذات الآن على السائد المشترك المدعوم ب “ثقافة الإجماع”؛ فنراه على سبيل المثال لا الحصر في مقطع من نص “البوح البكر” ب “تناص” جميل مع “الحلّاج” (ص. 14 و 15) يعلنا “ثورة” لما كتب يقول:
“هي الحياة
الوطن المرتجى سناه
هي البشرى و البِشارة
و الوِشاية
برضا السماء
(و الله ما طلعت شمس و لا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ديني لنفسي و دين الناس للناس … الحلّاج).
و لنا عودة مع قراءات أخرى لنفس الديوان. مع تحيات نافذة النقد