ما إن وصل الى الزقاق حتى شعر بأجواء باردة، رطبة ، تهجم على جلده، تتسلل الى مساماته المفزعة المقشعرة، رائحة عفن قديم ممزوجة برائحة بول كريهة التصقت بذرات التراب المشرئبة على الحيطان المتآكلة، العارية.. والتي تساقط دهانها واصبح من الصعب معرفة الألوان التي دهنت عليها سابقا.. شعر بالدم ينساب من جرحه.. مسح وجهه.. خلع قميصه ووضعه على رأسه، فوق جرحه الذي ما زال ينزف.. البيوت متلاصقة وإيجاد منفذ للهرب بحاجة إلى دليل أو خارطة تحضن ركضه.. كبر السؤال في خطواته السريعة، الخائفة، أين سيذهب؟؟ أين سيختبئ وجميع الأبواب مغلقة والزقاق قد أصيب بالصمم و العمى وعدم النخوة، مؤكد أنهم ما زالوا يلاحقونه؟ يبحثون عنه؟ سمع وقع خطوات لاهثة.. صداها يصل إلى الجدران الكئيبة والأقواس المبنية فوق النوافذ والأبواب التي تشهد على أيام عز قد ولت…
وصل إلى نهاية الزقاق فوجئ بأنه لا يوجد مخرج، المخرج الوحيد إما العودة إلى الوراء أو الهرب عبر البيوت المتلاصقة التي تطل على أزقة وحارات مجاورة، خجل من قرع الأبواب وطلب المساعدة!! تفوح من النوافذ روائح الطعام، والغسيل المعلق فوق الحبال بإهمال يلمس تعبا يبحث عن فرح ضائع..
لن يعود إلى الوراء!! لعله يلتقي بهم، عندها سيلقون القبض عليه بكل بساطة.. لا أحد في الزقاق، يبحث عن مخرج.. يفتش.. حتى الأطفال الذين يلعبون ويلهون عادة أمام البيوت، اختفوا كأن سحرا قد مسهم.. رأى إحدى النساء تقف على الشرفة الآيلة للسقوط.. أشارت على رأسه، ثم على قميصه الملوث بالدم…
أشارت له بيدها كأنها تطلب منه المجيء إلى باب بيتها.. لم يعرف أي باب هو باب المرأة.. لكن عندما أطلت من الباب الحديدي الصدئ تقدم إليها، لم تتكلم بل أشارت إليه ان يتبعها.. مشى وراءها.. وصل إلى المطبخ..
-يا مسكين… فقدت كثيرًا من الدم.. آه.. فش عندي صبغة اليود.
أجلسته على الكرسي.. أمسكت برأسه، أزاحت شعره.. بان الجرح كشق في صخرة نبت فوقها عشب كثيف.
يا الله.. الجرح كبير…!!؟؟…
أتت بعلبة البن… تناولت “كمشة” ووضعتها فوق الجرح وأخذت تضغط بأصابعها.. شعر بأطراف أصابعها وهي تحشو البن في الجرح العميق..
يود بلا هوا…!!!.. -صدقني القهوة أحسن
الوجع يتمدد فوق جبينه.. رفع كفه بتردد.. أراد أن يلمس الجرح ليعرف مدى عمقه.. وجد أن جرحه المفتوح قد تدلت أطرافه وقطع اللحم المحيطة بالجرح قد انتفخت.. طلبت منه المرأة أن يكف عن العبث بجرحه حتى تختلط القهوة بالدم وتمنع النزيف. سألته فجأة باهتمام ورقة..
-الجرح بوجعك..؟؟!!
هز رأسه.. شعر به ثقيلا،.. نعاس يصوب توحشه نحو يقظته..ᴉᴉ
-يلعن أبوهم.. شو بدهن منكم؟!
لم يرد على المرأة التي جلست أمامه، ثقل رأسه، خدر لسانه، لم يحاول معرفة على من تقع اللعنة.. على الشرطة التي هجمت على المتظاهرين بالعصي والهراوات أم على الذين نظموا المظاهرة!! من نبرتها الحادة ايقن أنها تلعن الشرطة.. تأملها من بين ضباب نعاسه.. امرأة دقت ابواب الشيخوخة بعصبية، الوحدة.. سمينة، السمنة تركت خلفها انحناءات تشبه التكتلات الرملية.. لـــولا ثيابهــــا الفضفاضة لخرجت التكتلات في نزهة مضحكة حـــول الخـــصـــر والمــؤخرة.
-انت ابن مين؟!!
انفرجت ابتسامتها.. لم يقل لها عن اسمه.. خاف أن يأتي أحد رجال الشرطة ويسألها عنه.. قد تبوح هذه المرأة باسمه، لذلك تجاهل سؤالها متخطيا حدود احترام مساعدتها،
جاءت بفوطة مبلولة وأخذت تمسح الدم الذي جف على جبينه وشعره، طمأنته أن النزيف قد توقف بفضل البن …..
-أنت كنت بالمظاهرة اللي كانت في ساحة العين؟!
-آه…ᴉᴉ
عرفت.. من الصبح والبوليس يحذر الناس من هذه المظاهرة، كيف أمك ما منعتك؟
لم يجب.. أراد أن يغير مجرى الحديث لكن قاطعته….
-ضربوك.. يكسر ايديهم.. احكيلي كيف ضربوك؟؟
ما بعرف.. كنت واقف أسمع الخطباء مثلي مثل غيري ما شفت إلا العصا فوق رأسي، ودمي زي “النوفره” الناس اللي كانوا في المظاهرة هربوا.. البوليس كان وراهم.. قسم هرب للحارة الشرقية وقسم هرب ناحية السوق، وأنا ما شفت حالي الا بهذي الحارة.. صدقيني ما بعرف ليش البوليس كان يضرب بالعصي وسيارات البوليس حاصرت المتظاهرين، مع انه من البداية قالوا المظاهرة مرخصة.
-دير بالك على حالك.. اوعى.. اللي بموت بتروح عليه، لا مظاهره بتنفعو ولا لقب شهيد،
الحسرة عليك وعلى امك…
أراد ان يقوم بعد توقف النزيف، الحارة هادئة، لا يسمع فيها صوت خطوات، لن يمشي في الشارع الرئيسي سيأخذ طرقا جانبية بعيدا عن العيون.…
طلبت منه البقاء، ستقوم بعمل شراب الليمون حتى يهدأ ويزول الوجع…
أخذ ينظر إلى الصور المعلقة على الجدران، صور قديمة، من اشكال الوجوه وشوارب الرجال والملامح النسائية المرسومة بدقة مصور أراد أن يساعد كاميرته على إبراز الجمال، عرف انها معلقة منذ زمن طويل.. لا يريد ان يسألها عن أصحاب الصور.. ثم السؤال والجواب لن يمنحه الهدوء الذي ينشده، خاصة أن وجعه يزداد، يشعر أن رأسه قد فتح على الجهات الأربع والريح تلعب بدمه النازف المحصن بالبن الذي وضعته هذه العجوز.. فجأة أخذت المرأة تحكي كأنها تتحدث إلى نفسها، كأنها كانت تنتظر أناسا يصغون إليها باهتمام وحرارة ليغطوا برودة أعماقها ووحدتها..
أنا عشت كل هالعمر وأنا وحيدة.. كنت خاطبه بطل.. وحياتك بطل بكل معنى الكلمة.. كان من الثوار.. ولما سقطت مدينة الناصرة.. حاول أن يدافع عنها لكن الجيش الصهيوني قتله.. وحلفت يمين ما اتجوز غيره.. فش رجل بحل محل البطل.. شايف قاعده لحالي.. شو اخذت انا من الناصرة.. حرام على الشباب الي بتروح.. نسيوا اللي دافع ونسيوا اللي حمى البلد، حتى ما في واحد بقرا الفاتحة على ارواح الشهداء..
وقف.. ناولته مرآة صغيرة كي يرى وجهه.. مسح بقايا الدم والقهوة عن حاجبيه.. أراد أن يشكرها بكلمات خاصة.. لكن لم يجد إلا كلمة “شكرا” خرجت خجولة تضيء لحظة عابرة…
عندما وصل إلى البيت وجد أمه في حالة يرثى لها.. والده شتمه ولعن الأبناء لأنهم لا يجلبون للآباء والامهات الا الشقاء و التعاسة.. في الليل حكى لوالده حكاية المرأة التي أنقذته بالبن.. وحكى له عن قصة بطلها الذي مات دفاعا عن الوطن.. ضحكت أمه التي كانت تتابع المسلسل المصري الذي يعرف نهايته منذ الحلقات الاولى، لكن أمه تصر أن تكون أسيرة لشاشة التلفزيون.. إنها تعرف هذه المرأة جيدا.. وصفتها له.. ثم فجرت أمه قنبلة.. خطيبها لا كان بطل ولا رجل طبيعي، كان مجنون وعالبركة ودايما كان يحكي مع حاله والناس بتشفق عليه.. لما دخل اليهود مدينة الناصرة كانوا لابسين لباس الجيش الاردني، حطات حمر و”عقل” عليها شعار المملكة الاردنية.. لما شاف خطيبها اللي ما حدا كان يعرف شو بعمل بحارة الخانوق، في الوقت الناس كلها متخبيه في بيوتها وهو داير مثل المجنون، لما شاف الدبابات والحطات الحمر صار يغني للجيش الاردني وللملك عبد الله، ويقول اجوا يخلصونا من اليهود، الناس اللي كانت تتطلع من الشبابيك شافتوا لما انطخ، الرصاصة اجت في نص راسه.. مسكين راسه انقسم مثل البطيخة.. ظل في الشارع.. أكثر من ساعة مرمي، بعدين اجو اخذوه وقبروه بسرعة.. بسرعة…
استفزه استخفاف أمه ومحاولة تصوير بطل المرأة بالمجنون…
لكن معقول تبقى هاي المرا كل هاي السنين بدون زواج وفيه لرجل مجنون.. أكيد كان من الثوار بس انت ما بتعرفي في التاريخ..
انت المجنون والاهبل.. لو لاقت غيره كانت تزوجت ولكن حملت هالقصة حتى تحمي أنوثتها من الفشل.. خليك انت براسك المفتوح وما تسمع كلام النسوان…