اسمع صوتها وهي تنادي علي بلهفة:
-روحي شوفي… اركضي…!!!
أركض، أعرف طريقي جيداً، أفتش عنه، صوت الجرس دليلي إليه، أصل الى ساحة الحرش في الحارة الشرقية في مدينة الناصرة، ساحة واسعة سميت بالحرش لأنها كانت سابقاً جزءاً من حرش أشجار صنوبر وسرو، الساحة بعيدة عن بيتنا، وعلي أن أصلها بسرعة قبل أن تعرف أمي من أحد غيري. فأنا أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، لأنني أحقق فيه بعض المكاسب.
أقترب منه، أجده واقفاً يقرع الجرس بملامح عصبية محشوة بالتذمر، على صدره صورة كبيرة ملونة، مربوطة بعنقه وعلى ظهره أيضاً صورة أخرى مثلها، وعلى ذراعه صورة لم تظهر تقاسيم الوجوه لكن ألوانها فاقعة، هناك من ثبت الصور بطريقة يصعب نزعها وإزالتها.
دعاية متحركة، ذكية، وسريعة التأثير في مجتمع يحيا على الانتظار، ونساء ينتظرن الرنين للخروج من الصمت البارد.
أحاول قراءة العنوان، الحروف متشابكة، متدلية وفيها انحناءات تخرج منها أشعة نارية تضيء الوجوه. يتعلق نظري بوجه الرجل المرسوم بدقة وابتسامة المرأة ذات الفم الواسع والشعر المتجعد بإغراء وفتنة كأنها تغيظ النساء .
أقف أمامه، مازال يقرع الجرس، لم ينتبه لي أو لغيري، هو جاء بمهمة وعليه أن ينجزها بسرعة لينتقل إلى حارة ثانية.
أبو دليلة.. أبو دليلة.. شو الفيلم.. لم يرد أبو دليلة علي وبقي يقرع الجرس، انحشرت بين الأطفال، زهقت، لكن لو رجعت دون أن أعرف عنوان الفيلم لضربتني أمي وأطلقت علي لقب (الهبلة). كنت أعرف أن أمي تنتظرني على أحر من الجمر.
بقيت واقفة، التصقت بامرأة كانت تقرأ عنوان الفيلم عن الصورة المعلقة على صدر أبو دليلة.. قالت لشاب يقف إلى جانبها:
قول لأمك الفيلم لفريد الأطرش وسامية جمال، اسمه “عفريته هانم” انسحبت من بين الجميع وركضت إلى البيت، وجدت أمي والجارات في حالة انتظار مشتعل، سمعتها وهي تقول بصوت عال.. “اجت مقصوفة العمر… ولك ليش طولتي”؟؟
لم أجبها شعرت أن العبء الذي أحمله أثقل من لومها المعهود!! يما.. الفيلم لفريد الأطرش وسامية جمال اسمه… ضاع الإسم، نظرت إلى وجوههن فوجدتها معلقة بلساني الذي قطع…
شدت أمي شعري.. شو اسمه، شعرت بصفعة على خدي… ولم أتذكر.. هربت خجلة من العيون التي كانت متواطئة مع أمي…!!
بعد فترة دخلت أمي إلى البيت وهي تردد “عفريته هانم”… “عفريته هانم”.. أكيد فيلم حلو، نظرت إليها من تحت المنشفة التي كنت أحملها كي أغطي وجهي غضباً منها، ابتسمت، قالت:
-يالله يا شاطرة… راح اشتريلك شقفة قماش مخمل أحمر وأخيطها فستان… اذا بتقعدي وبديري بالك على اخواتك يوم الجمعة.
رشوة أو مقايضة، حالة كانت تتكرر بشكل دائم، كلما جاء أبو دليلة معلناً عن عرض فيلم جديد في سينما ديانا في الناصرة، أراها تبدأ التعامل معي بأسلوب حريري ناعم، صوت هادىء، تتركني ألعب دون أن تطالبني بالذهاب إلى الدكان أو حمل شقيقي، حتى أنها تتعمد أن لا تسألني عن وظائفي المدرسية، أشعر بالانتصار على أمي وأعرف حاجتها لي يوم الجمعة، فأتمادى في الطلبات واللعب، خاصة عندما تهمس في نبرة توسل:
-خلي بالك من اخوتك… وانا راح اشتريلك اشي حلو.
أمي تحب السينما، وتعشق فريد الأطرش لدرجة أن ابي كان يغار منه، وعندما أرادت أن تطلق اسم فريد على أخي الصغير جن جنونه وخيرها بين الطلاق وبين إطلاق اسم فريد، لكن أمي وجدت حلاً آخر فقد أطلقت على أخي اسم “فؤاد” تيمناً باسم شقيق المطرب فريد الأطرش، انتصرت أمي على أبي الذي لم يعرف أن فؤاد شقيق فريد. وكانت جدتي تضحك على أبي مؤكدة أن أمي تحب صورة ورق. وهل يشعر فريد بهذا الحب… – وهو ناقصه نسوان على رأيها-.
أبو دليلة هو الدليل الذي يرسله أصحاب سينما ديانا لكي يلف ويدور في الحارات والأزقة معلناً عن الفيلم، كان يتنقل بين الحارات معلناً عن الأفلام التي تعرض في سينما ديانا.
يوم الجمعة للنساء ويوم الأحد للرجال، هكذا كان التقسيم، ثم أضيف العرض الليلي للعائلات لكن كان يوم الجمعة بمثابة مشوار نسائي هام، تكون التحضيرات له قبل أسبوع.
النساء كن يفرشن مشاعرهن على الملأ، لا يستطعن إخفاء اللهفة التي تسيل من الأعمال المنزلية السريعة والتحضيرات البيتية لكي يستطعن الذهاب إلى السينما يوم الجمعة على راحتهن، دون أي اعتراض، وحتى لا تكون هناك حجة لأحد الأزواج أو الآباء أو الأخوة للعرقلة ومنع الذهاب.
أبو دليلة هو الطقس الوحيد الذي يغير مناخ الحارة حيث يشعرون أن قدومه يحرك الأيام الراكدة، تتغير الأحاديث الروتينية وتصبح التوقعات عن قصة الفيلم وشكل الأبطال مادة دسمة خيالية، لعالم يدخلونه بمتعة، يطردون بواسطته الجفاف الذي يعيشون فيه.
يوم الجمعة كان اليوم الخاص، المميز، هذا اليوم للنساء، يتحول إلى عيد خفي، وتتحول أمي الى امرأة اخرى، أرى في ملامحها نشوة غريبة، تجهز فستانها الأسود، كانت تملك أربعة فساتين، احمر واخضر وبني واسود، كانت تحرص على أن تكون أنيقة رغم فقرنا، تلمع حذاءها الأسود، الحذاء الوحيد، تضع القليل من الزيت على قطعة قماش وتبدأ بفرك الحذاء لكن يبقى الاهتراء يطل من جلده، لا أجد الغضب على وجهها، هناك شيئ جميل يمر طيفه من بين شفتيها، لها ضحكة خفية، تنزل من فوق جبينها لتستقر على ذقنها قمراً بصورة غمازة يطل فرحاً، حين تضحك وتشير إلى النقود في يدها.
لقد أعطاها والدي ثمن تذكرة السينما وأضاف إليه ثمن حبة البوظة في الاستراحة. متعة مسروقة من أيام جافة.
الوقت يمر ببطء، الساعة الثالثة ما زالت في طي الساعة الواحدة، السينما تفتح أبوابها في الساعة الثالثة ويعرض الفيلم الساعة الرابعة، تعتقد أمي أن الساعة لا تمشي، تفتح الراديو على إذاعة القاهرة، لا تثق إلا بدقات ساعة جامعة القاهرة، ويمر الوقت، تنهي عمل البيت بدقة متناهية، لا تصرخ مثل كل يوم علي وعلى إخوتي، هادئة، ناعمة تقترب مني وتقبلني، أشعر أن القبلة رشوة وصلت إلى حد لا مجال فيه للرفض.. وعلي الطاعة.
-لما يروّح ابوك حطيلوا يوكل، مش تتأخري، حتى لا يحكي ويعمل طوشه.. فهمتي! أهز رأسي.. وبعدين قنينة الحليب جاهزة لأخوك بتطعمي.. وخللي يتضّرع مش ينام بدون ما يتضرع… اهز رأسي، وبعدين بتغيري لأخوك الحفاظات، مش تخليه بوسخو، أهز رأسي، واخوكي الثاني ما تخللي يطلع بره خوف ما يصير اشي يقولوا الولد وقع وأمه في السينما، أهز رأسي.. ثم تقبلني بسرعة.
أراها امرأة أخرى، جميلة، حواجبها الرفيعة، الكحل الاسود الذي خرج من عينيها والتقى مع الظل الذي يحضن رموشها، أحمر الشفاه الغامق، الذي يضيف الى شفتيها سحراً أشبه بسحر الملكات.
يوم الجمعة الذي يذهبن فيه إلى السينما، يقفز من مظلة الأيام العادية لكن لا يمر عادياً مثل باقي الأسابيع.
الساعة الثالثة…. تنادي جاراتها، يتجمعن مظاهرة نسائية ضاحكة، فساتين ملونة، معطرة، يمشين بخطوة واحدة، وتنضم إليهن نساء أخريات، كل ثلاث نساء أو أربع يمشين مع بعض وتكبر المظاهرة، تتسع أزقة الحارة، هكذا نراها، تختفي الحفر والمياه الآسنة، يصبحن هن العنوان لحارة تتنفس عطراً.
يذهبن قبل عرض الفيلم حتى يتسنى لهن اختيار الكراسي المناسبة للجلوس لكي تكون المتعة كاملة، غالباً ما كانت كل واحدة منهن تعرف كرسيها، لكن الذهاب قبل بدء العرض جزء من متعة المشوار.
ابنتي التي لم يعجبها تلفزيونها الخاص والفضائية التي تبث الأفلام العربية طوال اليوم سألت جدتها:
بعدك يا ستي بتحبي فريد الاطرش؟
آه سقالله على أيام فريد، بس فريد في السينما مش زي فريد في التلفزيون!! في السينما أحلى..
أرى دموعها من بين التجاعيد، اختفى بريق يوم الجمعة واختفت النساء، حتى الحارة ضاقت واختفى الحرش بين زحام البنايات، لكني مازلت اسمع صوت جرس أبو دليله.
ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين
