قراءة نقدية في المجموعة القصصية “أزياء لقصائد السيدة سين” للقاص التونسي عيسى جابلي / بقلم: د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



تحت عنوان: سؤال الكتابة القصصية، و جمالية بناء الموقف


ـ تقديم موجز:
أزياء لقصائد السيدة سين… مجموعة قصصية من تأليف القاص التونسي عيسى جابلي. صدرت في طبعتها الأولى عن دار زينب للنشر و التوزيع 2014. الكتاب من الحجم المتوسط (127 صفحة)؛ يضم 12 قصة قصيرة.

1ـ الظرفية التاريخية:
صدرت هذه المجموعة بُعَيْد “ثورة الياسمين” التي أطاحت بنظام “زين الدين بنعلي” بقليل. محطة زمنية حرجة تكبدت مخاطرها الشعوب المغاربية و الشرق أوسطية تحت مُسمّى “الربيع العربي” (و هل كان عربيا فعلا؟!). و الغريب أو ربما “الجميل” الثقافي الذي أفرزته هذه المحطة التاريخية هو كثرة الإنتاجات الأدبية و الفنية، حتى حقّ السؤال: ـ هل يزدهر الأدب و الفن أثناء الحروب و الثورات؟

يبدو أنها ظاهرة كونية؛ فالمتتبعون لتاريخ الأدب الحديث (و الفنون الجميلة عامة) لا شك استنتجوا الكمّ الهائل من الأعمال الأدبية و الفنية التي انتشرت أيام الثورات و الحروب و الأوبئة، و لعلّ أحسن مثال على ذلك ما سُمّيَ بِ “أدب الحرب” قبل و إبّان و بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية في أوروبا.

و إذا كانت هذه الظاهرة العالمية قد حفّزت إبداع كمّ هائل من الأعمال الأدبية و الفنية، فهي في ذات الآن صاغت قوالبها و أشكالها و بُناها بأساليب “طلائعية جديدة” بعيدا عن المدارس الأدبية و الفنية التقليدية ك “الكلاسيكية”، و “الرومانسية”، و “الواقعية”… حتى غاص بعضها في “الغرائبية/ العجائبية”، و بعضها الآخر في “العبث الوجودي”، و أخرى في “اللا ـ معقول السريالي”، و غيرها في المخاض…

لذا اخترنا في هذه الورقة المخصصة لمقاربة هذه المجموعة القصصية “أزياء لقصائد السيدة سين” للقاص التونسي عيسى جابلي (للتذكير: عيسى جابلي من مدينة سيدي بوزيد التونسية التي انطلقت منها الثورة) أن نطرح كمحور أساس للقراءة النقدية إشكالية سؤال الكتابة. و السؤال المحوري هو:
ـ كيف نكتب القصة القصيرة هنا/ الآن في تونس بعد الثورة؟ أو بعبارة أخرى ما هي القيمة المضافة التي جاءت بها المجموعة القصصية “أزياء لقصائد السيدة سين” ضمن هذا الكمّ الهائل من الأعمال القصصية التي تنشر كل يوم على مواقع التواصل الاجتماعي و الصحف الالكترونية و الورقية التي غالبا ما يتعامل معها بعض المحسوبين على النقد كشرطة مرور، أو عساكر حدود…؟

2ـ سؤال الكتابة القصصية الأدبية.
2.1ـ
إقحام المُتَلقّي:

قد يرتبك القارئ أمام تحديد جنس هذا العمل الأدبي رغم العبارة التي تضمنها أسفل واجهة الغلاف “نصوص قصصية” بسبب العنوان الذي قد يوهم القارئ أنه سيقرأ “شعرا” (بالمعنى المتداول للشعر): “أزياء لقصائد السيدة سين” قد توحي بآفاق انتظار كهذه؛ لكن الرؤيا ستتضح أكثر و تدريجيا مع قراءة أول قصة في المجموعة و ما يليها، لنستدرك أننا في مقامات “الشعرية” كما سماها “تودوروف”، و ليس بالضرورة في سياق الشعر كجنس أدبي مستقل. و يتضح لنا كذلك بأن “الأزياء” مجرد استعارة وظيفية في ارتباط عضوي مع سؤال الكتابة القصصية؛ نقرأ ص: 101:

“حرري الحرف، أتركي للآخرين أن يُلبِسوا كلماتكٍ الأزياء التي يريدون. صدقي آراءهم، صحيحة كانت أم خاطئة. في الابداع لا صحيح و لا خطأ… دعي الأحرف… اطلقي عنانها”
ـ هي شبه إشارة لإقحام المُتلقي في العملية الابداعية كما تدعو إلى ذلك نظرية جمالية التلقي الألمانية….

و يؤكد الكاتب عيسي جابلي هذا الطرح بصِيّغ مختلفة في قصص أخرى، نذكر على سبيل المثال ما كتبه في القصة الأولى حيث نقرأ ص. 9:

“يحلو لنا أحيانا أن نصنع لأنفسنا مسرحيات، فنكون ممثلين و جمهورا في الوقت نفسه. نؤدي الأدوار على الركح، و عندما ينتهي العرض، نقفز إلى المدرج لنصفق لنا طويلا”.
و يتبين من خلال هذه الفقرة أن إقحام المُتلقّي في عملية الابداع ليست حكرا على نظرية جمالية التلقي، هي حاضرة و بقوة في المسرح البريختي…. الذي يترك للمتفرج فسحة اختيار النهايات التي يرغب بها. و هي نفسها الفكرة التي جاءت على لسان “السيدة سين” في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة حيث نقرأ: ـ “أكتب بأكثر من نهاية. اختم بما شئت” ص. 103.

2.2ـ شخصيات (أو شخوص المجموعة القصصية): شخصيات قصص هذه المجموعة بدون أسماء مع استثناءات قليلة؛ و هي فكرة أسس لها تيار “الرواية الجديدة” (Le nouveau roman) أو موت الرواية (La mort du roman) مع ناتالي ساروت، و روب غريي… حيث الشخصية تُسمى “هو” أو “هي” أو “هُم”؛ و هذا تكريس لفكرة “اللا بطل” (l’anti-héros) أو موت “البطل” التقليدي كما يتمظهر في الحكايات و الروايات الكلاسيكية و الرومانسية. و قد عبر عيسى جابلي عن هذه الظاهرة في أكثر من قصة من مجموعته هذه بتغييب الأسماء ص. 100 حيث نقرأ:

“دعك من الأسماء (…) سيدَعُها بلا أسماء إذن. كثيرا ما قتلتنا أسماؤنا وألقابنا…”
و خلاف مبادرة “ديدرو” في روايته Jacques le fataliste et son maître (القرن 18) الفرنسي التي بِداية من عنوانها عرّفتْ باسم العبد (جاك)، و تركت السيّد نكرة، و ما لهذه المبادرة من رمزية في فلسفة “الأنوار” التي مهدت ل “الثورة الفرنسية”، قام القاص عيسى جابلي بتوظيف أسلوب “التنكير” (l’anonymat)، و كأنه بذلك ينتقد الأوضاع التي جعلت من المواطن البسيط مجرد “رأس” وسط “قطيع” (“القطيع” من وجهة نظر فلسفية كما روج لها “فريدريك نيتشه”) لا تهمه إلا غرائزه الحيوانية المبتذلة كما في قصة “الشنفري يزور حميران” (ص. 7)، و قصة “الحظيرة” (ص 19)، و قصة “ليل و صنوبر” (ص. 61) و هي شخصيات رهينة بالمكان ك “الحظيرة”، و قرية “حميران”.

2.3ـ الزمن في المجموعة القصصية:
لقد أشرنا من خلال فكرة إقحام المتلقي أن هناك شبه تزامن بين زمن الكتابة و زمن التَلقّي. عادة ما يتموقع الكاتب (كاتب القصة أو الرواية) في وضع يسميه (ج. جونيه) ب “تبئير درجة الصفر” (focalisation degré zéro)؛ أي أنه لا يتدخل في الأحداث، بل يتحكّم فيها من خلال “ذات ساردة عالمة” (narrateur omniscient)، لكن القاص عيسى جابلي اختار و بفنية عالية إقحام الكاتب داخل النصوص القصصية ك “شخصية” من بين أدوارها “كتابة القصة” داخل القصة كما في قصة “مرايا” (على سبيل المثال لا الحصر) حيث نقرأ ص. 74:

“قالت له: لماذا لا تكتبنا في قصة من قصصك؟ ألسنا أهلا لأن نحتل نصا؟ لم لا تكتبنا للتاريخ؟… صمت قليلا، استوى دفتره على الفخذ الناعم، و أخذ يكتب… «… بل يذهب الكاتب بعيدا في فكرة إقحام زمن الكتابة في السرد لما يتحول إلى ما يشبه كاتب السينوغرافية أو مخرج مسرحي كما في مشهد اختيار “المعطف الأحمر” لإلباس شخصيته كما في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة “أزياء لقصائد السيدة سين”» (ص. 100).

هكذا يتداخل زمن الكتابة مع زمن السرد مع زمن الحكاية مع زمن التلقي…
أما الزمن الوقتي (الكرونولوجي) الذي لا تقوم للأحداث قائمة إلا بداخله في الأجناس السردية، و منها القصة، فلقد وظفه القاص عيسى جابلي ( و بفنية عالية كذلك) وِفقَ نظرة تقارب فلسفة “اللا ـ معقول”، و كأنه من أزمنة الأدب “الغرائبي/ العجائبي” (كما في “ألف ليلة و ليلة”، و “الأزليات”، و “كليلة و دمنة”، و في قصص “هوفمان”، و “إيدغار بو”… هو ليس لا بزمن المتتاليات السطرية (Séquences linières)، و لا يكتفي كذلك بدمج الذكريات بالزمن الحاضر بتقنية “الفلاش باك” المعروفة، بل يخلط بين الأزمنة كلها حتى يتعذر على القارئ عزل هذا الزمن عن أزمنة أخرى؛ نقرأ (ص: 102) :
” لقد بدأت تقفز بين الأزمنة كأرنب مخمور برائحة الربيع…”

2.4ـ أسلوب السخرية:
تُرى عن أي “ربيع” يتحدث عيسى جابلي في سياق هذه الشخصيات التي فقدت هويتها، و هذه الأمكنة التي تحوّلت إلى “حلبات لسباق حمير” (حمير نسوا مهمة السباق الموكولة إليهم لينقلبوا إلى مجرد مهووسين باللذة الجنسية المبتذلة)، و أزمنة لا نستشرف من خلالها أي مستقبل واضح المعالم، و يصبح فيها الحاضر أكثر “جاهلية” من “عهد الجاهلية” نفسه كما تتمثّله كتب التاريخ؟

هل هو “الربيع العربي”؟ هل هو “ربيع تونس”؟
لا أجوبة صريحة في المجموعة القصصية، لكن و بأسلوب ساخر (يذكرنا بأساليب “برنارد شو”)، لجأ الكاتب عيسى جابلي (من خلال تقنية “التبئير الخارجي” (Focalisation externe) إلى عدة أساليب بلاغية (مجازية)، و سيميولوجية (رمزية) لبناء موقفه من الظرفية التاريخية الآنية عبر قصصه؛ منها:

ـ استعارة شخصية “الشنفرى” (و هو من الشعراء الصعاليك الذين وشموا الشعر العربي القديم) ليدلو بدلوه في الزمن الحاضر و هو يتفرج على حمير مسعورة همها قضاء حاجتها البيولوجية الجنسية…

ـ اللعب على معنى بعض العبارات المتداولة بشكل مُمَسرح (quiproquos) كما عبارة “تبرأتُ منك!”؛ عبارة لصيقة بالشخصية كما لقب من وحي لعنة اسمها البطالة المستفحلة؛ نقرأ:

“كانت تقول لي: اقبل كل الأعمال.. إلا الحظيرة!”. لم تكن تعلم أنني كنت أصارع موجا متلاطما من اللعنات لم يصارعه إبليس نفسه يوما. ـ تبرأتُ منك! كانت عشرة أعوام من البطالة و الجوع و التشرد كافية لتجعل مني كائنا غير مرئيّ، لا فرق بيني و بين حشرة تعشش في أذن كلبتنا العجوز…” (ص. 21، قصة “الحظيرة”).

ـ عبثية فكرة “المسخ”:
“لا فرق بيني و بين حشرة تعشش في أذن كلبتنا العجوز”، و صورة منبت “الذنب” في المؤخرة في نفس القصة (“الحظيرة”)، و حدث ولادة طفل برأس حمار في قصة “ليل و صنوبر” حيث نقرأ (ص. 68): ” و من الصباح كان الكوخ الصغير يستقبل أمواج القرويّين الذين جاءوا لرؤية المولود الجديد. كانت تلك أعجب عجيبة رأوها في حياتهم من زمن نوح. طفل برأس حمار “!

هي نماذج ينطبق عليها المثل المعروف “و شر البلية ما يضحك!” قريبة من التوجه العبثي لدى فرانز كافكا كما تجلى في قصته المشهورة “المسخ” (La metamorphose)… و على ذكر هذا التوجه “العبثي” في الكتابة الأدبية عند كافكا الذي انطلق باستنطاق واقع أغرب من الخيال، فتجاوزه للبحث عن إجابات في “اللا ـ معقول”، تباغثنا قصة “متهم بعدم الانحياز!” من مجموعة “أزياء لقصائد السيدة سين” (ص. 89) بمحاكمة تشبه إلى حد بعيد قصة “المحاكمة” (Le procès) لفرانز كافكا، لكن تشابه لا علاقة له لا ب “التناص”، و لا ب “الاقتباس” لأن نهاية قصة “متهم بعدم الانحياز!” فتحت أبواب التفاؤل الحتمي على مصراعيها؛ نقرأ:

“كانت تحدثني عن مباراتها أمس مع أطفال الحيّ. وصفت لي بالتفصيل كيف انتصر فريقها بضربة طارت لها في الفضاء و سجلتها بِيُسراها قبل أن يرفعها أصدقاؤها على الأكتاف” (ص. 96).
هو “انتصار اليسار” ضد “اليمين”؛ لكن ليس بالدلالة الإيديولوجية و السياسية ل “اليمين” و “اليسار” بالضرورة كما المتداول عن الأحزاب السياسية، أو كما أصل المفهومين في البدايات في البرلمان البريطاني. “اليسار” في هذه القصة استعارة كبرى بدلالات متعددة و غنية تفيد “التجاوز”؛ تجاوز التقاليد البالية و التمثلات الشعبية التي تعتقد جازمة بصحة “الموروث” أو “المُكرّس” كمسلّمات خارج حسابات العلم و منطق العقل.


و لنا عودة للمجموعة و لكتابات أخرى للقاص التونسي المتميز الصديق عيسى جابلي في القادم من الأيام بإذن الله.
مع تحيات نافذة النقد

د. خالد بوزيان موساوي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *