كان يقف وسط فناء المنزل الكبير، يتحدث مع طائره الملون القابع في قفص حديدي اعتلاه الصدأ. يصر على استنطاق العصفور الخائف لماذا استعصت الكتابة علي؟
يسهم بعيداً قبل أن يكتشف أن العصفور غير قادر على إجابته، يعود إلى ركنه في الفناء تحت الشجرة الكبيرة التي تختزن ذكريات من مروا بالمنزل القديم. يقف من جديد ويجري صوب مرسمه المتسخ، فيحمل فرشاة وينهال على لوحة بيضاء بضربات متتالية بألوان مختلفة.
يوسف في عقده السابع خريج مدرسة الفنون الجميلة بتطوان وحاصل على إجازة في الأدب العربي وأحد المبدعين الشباب الذين أثروا المكتبة العربية بإبداعات أدبية كان آخرها رواية “مذكرات حمادّ” التي حاز من خلالها على جائزة الإبداع الروائي، التي تمنحها وزارة الثقافة . بالإضافة إلى تألقه في الفن التشكيلي وتنظيمه لمعارض في معظم المدن المغربية والعواصم الأوربية، لوحاته التي كانت تأسر المهتمين ونقاد الفن التشكيلي، حيث غالبا ما كان يعتمد في رسمه على نظرية الأكوان المتوازنة فيعمل على إسقاطها على لوحاته. وكان يصرح دائما في لقاءاته الصحفية على أن أسلوبه في الرسم ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة للبحث عن أشباهه في الأكوان الأخرى، ويعتبر أن الفن التشكيلي وسيلة لتحقيق هذا اللقاء الغريب، ومحاولة فهم التجاذبات مابينه وبينهم.
لاأحد بطبيعة الحال من الصحفيين الذين كانوا يحاورونه يهتمون بأقواله وإنما يستقطبهم جمهور الفنان الباحث عن أخباره وتتبع مسيرته الفنية لذلك كانت تلك المجلات والصحف تلتهم وتشطب من الأكشاك بمجرد تناولها لأخبار الفنان التشكيلي الغريب.
في ذلك اليوم تصادف تواجده بمنزل أسرته القديم في حي المدينة القديمة بالصويرة، عندما طرقت ذهنه ذكريات حبه القديم وحضر وجه حبيبته اليهودية أديفا ابنة التاجر “إسحاق موقنين” الذي كان يملك مخازن الشاي بالمدينة. وتذكر ابتسامتها اللطيفة عندما تلتقي عيناهما في مدخل المدرسة، وكيف هام بحبها وملأ كتبه باسمها ورسومات لوجهها فكانت تلك بداياته مع الرسم، وقاده حبها إلى محراب الرسم وعشق لون عيونها العسلية.
حضر طيف أديفا فأيقظ مضاجع حب دفين كانت نهايته مأساوية ذات صيف في أربعينات القرن الماضي.
يسترجع يوسف دقائق ذلك اليوم الحزين عندما استيقظ على صوت محركات شاحنات كبيرة لم تعهدها المدينة الساحلية العاشقة للأطلسي ورياح الشرقي المتقلبة، مدينة انصهرت في أحشائها عناصر بشرية مختلفة المضارب والمشارب والتقاليد والدين، فيها كان اليهودي يعانق جاره المسلم وتقف اليهوديات على مشارف شاطئ المدينة لتسرقن نظرات حب من وجوه البحارة العائدين من رحلة صيد طويلة.
كانت تلك الصور حاضرة في لوحات الفنان يوسف ولو أنه كان يتعمد أن يخلق لكل امرأة أو فتاة ست نسخ أخرى لكن الثابت في تلك اللوحات هو حضور المعطى الثقافي المرتبط بالتقاليد والأزياء التي يمكن لأي ناقد أن يكتشف فيها العمق التاريخي للمدينة وهوس الفنان بماضي الصويرة وقصة حبه الموؤودة.
في ذلك اليوم الحزين عوت الرياح بضراوة، باعثة الرمال الساكنة دافعة إياها للتحرر من سباتها العميق فانطلقت ذراتها تتراقص مع جزئيات الهواء المندفعة لتصدر صوت بكاء ثكلى فقدت وحيدها غرقا في البحر. وأصدرت طيور النوارس آهاتها الحزينة وتدلت بمناقيرها من على سطوح المنازل الزرقاء معلنة عن حفلة الانتحار الجماعي لصديق المدينة وملك سمائها. وغضب الأطلسي فهاج ووصل زبده إلى مدخل باب المدينة القديمة حزنا على رحيل صبايا الحي الجميلات وفراق عيون المها السوداء.
كان يوسف في مرسمه يجري تعديلات أخيرة على لوحته الجميلة التي ضمت صورة حبيبته اليهودية وهي تحمل جرة ماء على كتفها الأيسر وقد تدلت عليها ضفيرتها ورفعت عن ساقها ثوبها الباريسي فبان خلخالها الأمازيغي المسبوك من فضة الأطلس الكبير… قبل أن يصله هدير محركات الشاحنات فأطل من شباك علوية منزلهم فجمد في مكانه من هول صدمة ما رأى. كانت أديفا تتأبط حقيبتها الجلدية وتصعد سلم الشاحنة الكبيرة وهي تبحث بعيونها عن وجه حبيبها يوسف، لعلها تظفر بآخر نظرة تملأ بها وحشة طريق الرحلة الطويلة.
ملئت الشاحنات بيهود المدينة وأقفلت المنازل وصارت مهجورة بعدما كانت تعج بالحركة، وغابت وجوه الصبايا عن المدينة حاملة معها قلوباً أسرها حبها… بكى يوسف حتى اختلطت دموعه بألوان مرسمه الزاهية، واعتكف داخل محرابه الفني في حي الملاح يرسم ويكتب فكانت لوحاته إطارات لوجوه ونساء غريبات، مكدسات في شاحنات ضخمة بإطارات على شكل قلوب بشرية.
كتب روايته الأخيرة وعنونها بمذكرات حماد الذي هاجر إلى فلسطين بحثاً عن حبيبته أديفا، فانخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعرف بينهم بعاشق اليهودية حيث كان يتأبط بندقيته متأهباً لمعركة الحسم لعله يحرر حبيبته ويعيدها للصويرة إلا أنه وجد ذات صباح قتيلا بعدما غرز أحد رفاق الكفاح الخنجر في ظهره. حكى القاتل لرفاقه كيف تبسم حماد في وجهه وهو يسقط صريعا مردداً: الحمد لله أني لم أقتل على يد قوم حبيبتي أديفا.
كانت تلك آخر رواية ليوسف ليعاني بعدها من مرض الاستعصاء وفقدان المعنى فعاش وحيداً في منزلهم القديم يحاور طائره ويرسم لوحاته المجنونة.