توفي مؤخراً الفنان “عزت العلايلي” وكلما توفي أحد الفنانين أو أحد العظماء الذين منحوا البشرية جمالية العطاء وروعة الإنسانية أشعر أن الكرة الأرضية عقدت اتفاقاً مع الشر لجعل الوجوه الجافة المستمرة في تخطيطها الجهنمي مسيطرة على أيامنا التي دخلت أنفاق الخوف و الانبطاح والرعب والتخاذل والهروب إلى الأمام واحتضان الاتفاقيات التي بين سطورها ينام شيطان التنازل.
هناك محطات مضيئة في الأرشيف الفني للفنان “عزت العلايلي” صاحب التاريخ الفني الطويل، فقد قام ببطولة فلم “السقا مات” عن رواية يوسف السباعي وهي رواية فلسفية تتحدث عن الحياة والموت، وفيلم “المواطن مصري” المأخوذ عن رواية الكاتب “يوسف القعيد” الحرب في بر مصر، والذي حاول فيه الفنان إبراز دور الجيش المصري إلى جانب التزوير والرشوات التي تتم بين العمدة والقيادة العسكرية.
لكن يبقى أهم أدوار الفنان “عزت العلايلي” تمثيله شخصية العقيد راضي في فيلم “الطريق إلى ايلات” أو قائد العملية التي تمت أثناء حرب الاستنزاف عام 1969، وهذا الفيلم -حسب رأيي- من أهم الأفلام العربية، إلى جانب أن التي قامت بإخراجه امرأة عربية “انعام محمد علي”.
أثناء لقائي مع مخرجة الفيلم “انعام محمد علي” في أوائل الثمانينات، أكدت على المشاق التي واجهتها أثناء الإعداد والتحضير للفيلم، من الميزانية القليلة التي خصصها “اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري” وهناك من حارب الفكرة بحجة طي صفحات الحروب فنحن الآن في عصر السلام، وكان هناك الرهان أن هذا المشروع بحاجة إلى مخرج رجل وليس امرأة تتميز بالرقة والنعومة.
كلما كان يبث فيلم “الطريق إلى أيلات” -فقط يبث على الشاشة المصرية في المناسبات الوطنية، مع العلم أن الفضائيات العربية لا تقوم ببثه- أشعر بمسحة من الكرامة المفقودة تعود وتنهض في داخلي، مع أن الفيلم مجرد شريط فني مربوط بسيناريو وإخراج وأبطال يمارسون البطولة الوهمية وديكور مبهر، إلا أن مجرد لمس الفكرة وإخراجها من أرشيف الذاكرة وتقديمها للأجيال، عملا يرسخ الضوء والانتصار ويطرد عتمة الإحباط. والضوء هنا ليس إغراق الأماكن بالنور بقدر ما هو إغراق النفوس الخائفة، المهزومة، الممتلئة بالخيبات والهزائم بنور الثقة والقوة، خاصة نحن في زمن دخل فيه المواطن العربي حالة “الكوما” الغيبوبة الوطنية والقومية بعد أن ربطت أنظمتهم تفكير المواطن برغيف الخبز و”طوابير العيش” وببرامج فنية تقذفها الفضائيات لترسخ مفهوم التفاهة وتعمق الشعور بالانسلاخ عن الواقع الصعب.
“الطريق الى ايلات” ليس فيلماً عادياً وليس فبلماً خارقاً كأفلام حرب النجوم الخيالية، بل الفيلم مأخوذ من سجلات البحرية المصرية، وبالتحديد أثناء حرب الاستنزاف -1969- حين قام رجال الضفادع البشرية المصرية بتدمير “السفينة بات شبيع” و “السفينة بات يام” اللتين كانتا تقفان على الرصيف الحربي بميناء ايلات، هذا التدمير الذي كان له أصداءً سياسية واسعة، غلف هزيمة 67 بغلاف انتقامي، بالإضافة إلى الرسالة التي وصلت للإسرائيليين أن هناك استعداداً وتخطيطاً من الجانب المصري على تغيير الصورة المنتصرة التي أرادت إسرائيل أن تنقلها للعالم بعد انتصارها في حرب 67.
إخراج قصص وحكايات ومعارك من أرشيف الذاكرة الوطنية، التاريخية، الشعبية، العسكرية، تعتبر أداة لربط الشعوب بذاكرتها وإعطاء هذه الشعوب القدوة والجمر لإشعال الارتباط كي يبقى حاراً، ومتواصلاً، وما الدول إلا مجرد شعوب حريصة على أن يبقى شأنها عالياً بين الشعوب الأخرى.. “الطريق إلى ايلات” من أفضل الأفلام العربية التي لمست التاريخ بجرأة وواقعية بعيداً عن الفنتازيا واستعراض العضلات، عدا عن الحوار الذي تجلت فيه روح العزيمة والإصرار.
أما الفنان “عزت العلايلي” أو “العقيد راضي” قائد المجموعة الذي قامت بالتدمير فقد سجل في تاريخه الفني شرف فتح نوافذ الكرامة والكبرياء الوطني، رحم الله الفنان “عزت العلايلي”.