أفضل دليل على روعة الحكمة، مجنون يتكلم: هنري روبنسون
كعادتي، في مقهى النواكرة، أجد راحتي في عزلتي. كوب قهوتي السوداء مشنوق في الفراغ، أرمي فيه قطعة سكر، تتمرد، تعلن العصيان، تستعصي على الذوبان، تتحدى الماء الساخن، ترفض أن تستقر في قاع الكوب. يمتص منه الفراغ عمود دخان لا يخلو من رذاذ لذيذ. رغوة كزبد البحر تعمم هامة كوبي، تمارس لعبة التلاشي، فيها تسري برودة الموت، وتهجرها حرارة الحياة.
على مائدة مجاورة، جريدة متناثرة الصفحات، قصت منها شبكات كلمات متقاطعة وأخرى مسهمة. لصوص الجرائد -بلا حياء- يتلفونها، يقصون… يسرقون… يمزقون… ويتسللون دون أن يشعر بهم النادل. أتصفح عناوين أعمدتها من بعيد، فتخبو رغبتي في القراءة، كل ما فيها يسد النفس: دم… دمار حروب… سرقة… اغتصاب… قتل… انتحار… إعلانات… إشهارات… وحتى العري له من أعمدتها نصيب، كل أمراض العصر محمومة ترقص رقصة الجنون، وتمارس هذيانها المجنون على أعمدة هذه الجريدة، وبخط جميل مضغوط لا يخلو من أخطاء إملائية.
أحول عيني اليمنى عن الجريدة، أحطها على حافة الكأس، واليسرى تراقب حركة الزقاق: أحذية سوداء براقة، نعال متسخة، صنادل ممزقة، أقدام حافية، فوضى من الأقدام البشرية، مسعورة تسير في اتجاهات مختلفة. أشعر بدوار شديد، أحاول الاستفراغ، لكن تخونني مصاريني الفارغة.
طنين يكاد يخرم طبلة أذني، أظنه أزيز طائرة بعيدة، لم تكن غير نحلة سوداء كبيرة، تغرد خارج السرب، تغازل حلاوة قهوتي، ترسو كحوامة على حافة كوبي، ثم تختفي بعد حين، تعود من حيث أتت. وبفراستي أتوقع هجوم جيش من جنسها، سيفسد متعة عزلتي، متأكد أنها لم تكن سوى مستطلعة.
البخار يخبو في فوهة البركان، وتهدأ حممه. ثمة ذبابة كبيرة كخافية غراب أسحم، زجاجية الجناحين، تستقر فوق حافة الكوب، وتحتل مكان النحلة، قريبة جدا من قهوتي، تنظف جناحيها، تمددهما في حركات بهلوانية، كانت تستحم من قذارة المزابل. عيناها شفافتان كبيرتان كمرآة مقلوبة. هزجة تحك ذراعها بذراعها، تترنح غردة كشارب مترنم، وتمعن في التحرش برغوة قهوتي، تقترب منها شيئا فشيئا. ربما تجهل خطورة عمق هذا البركان، وهو يلقي حمما تلفح أنفاسها الوجوه بقوة.
تعلق أرجلها ببلل القهوة اللزج، تخلص الأولى، تغوص الثانية، تعيد الكرة عدة مرات، لسوء حظها تعلق كل الأرجل. يرفرف زجاجها بقوة دون فائدة، سائل القهوة صلب كأسفلت يابس، أو رمال متحركة، تمتص المسكينة شيئا فشيئا. تقاوم، تقاوم، وتخور قواها، فتعلق في ورطتها. يوشوش لي ما تبقى في ضميري البارد من رحمة:
-أنقذها… أنقذها… فهي -مثلك- تحب الحياة، بحركة بسيطة تخرم حبالها، فترميها بعيدا عن قاع الكوب، أنقذها يا هذا.
أنهر نفسي بغضب:
-وما شأني أنا بها؟ لسانك ضعيه في الحنك يا معتوهة، ما قلت شيئا، وما سمعت شيئا. هل يمكن أن أغير ناموس الطبيعة؟ فإما الخلاص أو الموت… كن أو لا تكن… إنها جدلية الصراع من أجل البقاء.
كرة بلورية -بحجم البيضة- ترتطم بالمائدة، تتكسر بعنف، تنتشر شظاياها فوق رصيف المقهى. تحدث فرقعة قوية، تنتشلني من غفوة صراعي، تعقبها بلورة أخرى، وتنهمر كويرات البلور، إنها عاصفة البَرد. يهيم الناس في كل الاتجاهات، يبحثون عن ملاذ آمن، فالبَرد بهذا الحجم الكبير يهشم الجماجم، يكسر الأضلاع، تقذفنا به مردة النار من السماء. تزدحم أبواب الدكاكين، وتغص المحلات التجارية، والمقاهي بمختلف الأجساد البشرية. تشتد عاصفة البَرد، يتكسر بقوة فوق الغطاء القصديري للرصيف، يحدث صوتا أشبه بقرع طبول في أدغال إفريقية.
يقترب ذلك المجنون من مائدتي بحذر، يموت المسكين خوفا من النادل، يصبح قريبا جدا مني، فينبهني أحد رواد المقهى:
-يا أخ، انتبه، هذا الأحمق يسرق أكواب القهوة، ويبتلع كل ما يجده أمامه.
أشكره بابتسامة باردة، أرسمها صفراء على شفتي، وأتظاهر بعدم الاهتمام. يدنو مني المسكين، تصبح همهماته أكثر وضوحا، أسمعها ولا أفهمها. وعلى الرصيف، يخط رموزا مجنونة بقضيبه الحديدي:
-حبيبات الموز؟ آه، لا… لا… إنها حبيبات اللوز منثورة هنا… هناك، وفي كل مكان. ها هي فوقها تسير، تجر قفطانها، تشد أطرافه الذهبية بأناملها المخضبة بالحناء، تكسرها بقدميها الناعمتين: تراخ… تراخ… تراخ… تراخ… تتأفف حسنائي، تتألم في غنج، تعض شفتها السفلى، فيركل خافقي في جنبات صدري، وتصرخ من الألم:
-يا إلهي! أدمى عود القرفة قدمي…عود القرفة أدمى…
-إيه، صحيح، عود القرفة يدمي أقدام الحسناوات!
ويغوص في نوبة ضحك هستيري، فيثير حفيظة النادل:
-كخ…. كخ…. كخ…. كخ…. نحن فصيلة يدمي أقدامها الحجر، وجذوع الشجر، أما عود القرفة فأين نحن منه؟ فلو وجدناه لأكلناه، فله في نفوسنا شوق وحرقة.
ضحكه مجنون، ممزوج بكحات حادة، مشفوعة ببصاق أصفر. يضع يديه على بطنه، ويبالغ في السعال، وأنا أتظاهر بتجاهله، تثير فوضاه انتباه النادل، يأخذ عصا طويلة من الداخل، ويأتيه مهددا بطرده، أشعر بالامتعاض:
-يا أخي، اتركه يحتمي من سطوة البَرد، أتدفعه إلى الموت؟ دعه حتى ترحل العاصفة يا رجل.
يحدق النادل في وجهي، ويتمتم:
-إنك لا تعرف هذه الفصيلة من المجانين، يزعجون زبناء المقهى، يخافون ولا يخجلون يا سيدي.
ثم يختفي في زحمة الكراسي. ويبحر المسكين -من جديد- في هلوساته، يمارس لعبة الجنون، وقضيب الحديد يخط أشياءه الغريبة على الرصيف، وبضحكات هستيرية مرسومة على محياه المثخن بالجراح:
-الشحم هناك… هناك في السماء أشبه بكتل السحاب، اللحم كالمطاط أو جذوع الأشجار، هه… هه… هها… لكن لا نأكله، ليس لنا فيه نصيب، هم -وحدهم- يأكلونه، أما نحن، فما زلنا نخوض حروبنا ضد جحافل القمل. تراخ… تراخ… تراخ… حبيبات اللوز صلبة، تحت قدميها تتكسر، تمر كالريم، فتتضوع منها رائحة المسك… تدغدغ جدائلها وجهي: كخ… كخ…. كخ… أنفاسها تكاد تعانق أنفاسي، إني أكاد أشمها مضوعة بالمسك، إنها هي… هي… هي..
ويعود المسكين إلى النحيب دون دموع، فقد غاض ماؤها، وهجر منه المآقي…
-من تكون هذه يا هذا؟
يسأله أحد رواد المقهى، يقطع نحيبه:
-هي… هي، ها أنا أراها تمر أمامي، تكسر حبيبات اللوز، وعود القرفة يدمي قدميها، ها هي تقوض خيمتها، وترحل إلى الأبد.
يلملم أنفاسه المخنوقة، وبحركة خاطفة، يفرغ كوب قهوتي في جوفه، والذبابة ماتزال عالقة في لصاق القهوة. يتوارى في أزقة المسجد العتيق، ويرحيل مع عاصفة البَرد.