تحت عنوان:
حكاية عبور إلى الما ـ ورائيات على صهوة الشعر: مقاربة سيميائية.
1ـ انطباع:
“فلك المنازل” ديوان للشاعر المغربي عبد القادر الغزالي، صدر عن مطبعة “تريفة” بركان ـ المغرب. الكتاب من الحجم المتوسط (192 صفحة)، يضم 85 نصا شعريا.
قبل البدء أقترح قراءة هذا النص لتكوين انطباع أولي بخصوص نوعية الكتابة في هذا الديوان؛ نقرأ (نص “مُصارع” ص. 23)
“هذا المصارع قديس؛
يملأ الفضاء،
مثل الفجيعة
ينتقي ضحاياه من بين الجثث.
مثل “إيكار”
ترديه المشيئة في بئر سحيقة
يحبو… يكبو…
يزلزل الأرض من تحته؛
لكن مع العاصفة تبلعه الرمال…
يريد فكّ الترابط لا يستطيع.”
2ـ حيثيات:
ثنائية جدلية الموت و الحياة (أسطورة “إيكار”)، و سؤال الوجود و العدم (مبدأ “الهيولى”، و قانون نفي النفيْ)، و حرقة القلق الوجودي (السؤال الإبستمولوجي عن “البداية و النهاية”)… جعلت المنحى التجريدي (الفلسفي و الصوفي و الأسطوري) يهيمن على نصوص الديوان لتشابك ما هو وجداني صرف، مع ما هو معرفي/ فلسفي، مع ما هو شعري/ استطيقي؛ نحن أمام نوعية من الخطاب الأدبي وصفه تزيفيتان تودوروف على أنه “خطاب انقطعت الشفافية عنه (…) يتميز بكونه ثخِنا غير شفاف يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكِّنك من عبوره و اختراقه.” ولأننا نقرأ ديوانا شعريا دعامته غواية التشكيل بالحرف، تقتضي منهجية المناولة الاستئناس بآليات النقد الأدبي دون غيرها؛ و منها في سياق قراءة هذا الديوان المقاربة السيميولوجية.
3ـ عتبات:
أ ـ مكونات الغلاف: تتشكل واجهة غلاف هذا الديوان من العنوان الرئيس: “فلك المنازل”، و من لوحة تشكيلية فنية للفنان عبد الحفيظ مديوني. و لولا هذه اللوحة لكُنّا أرخينا اللجام لتأويلات عدة تبيحها صياغة العنوان نحويا و معجميا و أسلوبيا و دلاليا؛ عمق اللوحة سواد قاتم كالعتمة، و أسفل اللوحة يسار الغلاف، و في ظل نفس السواد القاتم، يقف شخص فوق صخرة مُوَجِّها نظراته لوسط اللوحة حيث تتمركز دائرة مضيئة بلون النار (أحمر و أصفر)، كأنها “قعر من لهب” (التعبير للشاعر ص. 9) تشبه الشمس وقت شفق أو غسق تدور الأجرام في فلكها. و لولا تصنيف المُؤلِّف مباشرة تحت اللوحة للكتاب ضمن خانة “شعر”، لاعتبرنا المتن كتابا علميا في “علم الفلك”.
ب ـ “قبعة النصوص” (Chapeau de texte) و نقصد بها بعض الفقرات القصيرة التي يضعها الشاعر عبد القادر الغزالي على رأس كل “باب”/ “جزء” من هذا الديوان على شكل “أقوال مأثورة” أو “استشهادات” من توقيع مفكرين و شعراء غيره مثل فرناردو بيسوا (ص. 9)، و النفري (ص. 24)، و هلدرلن (ص. 31)، و خوصي أنخيل بانطي (ص. 69)، و راينر ماريا ريلكه (ص. 85)، و عبد الله راجع (ص. 101)، و محمد علي شمس الدين (ص. 127). و الإحالة على هذه الأسماء وظيفيّة بامتياز لاعتبارات لا علاقة لها ب “التناص” كتقنية أسلوبية فنية تقحم قراءات الكاتب أو الشاعر لنصوص غيره داخل سياق فكري أو جمالي/ استيطيقي، بل كتقنية سيميولوجية (Hypotexte/ épitexte) وظيفتها التقديم لتيمات النصوص الموالية شكلا و مضمونا؛ شكلا، لأن هؤلاء من رواد الحداثة في الشعر عالميا و عربيا، و طُرِحتْ معهم حرقة أسئلة من بينها “إشكالية القصيدة المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد” من منظور عبد الله راجح، و و تموقف الشاعر محمد علي شمس الدين الذي يرى أن “الشّعر اليوم في حالٍ من التشظّي والتّجريب المفتوح على كلّ الاحتمالات.”
و مضمونا، لأن مقامات الديوان بمختلف سياقاته الموضوعاتية استدعت “الوجودية و الذوبان في الآخر” عند بيسوا، و “التصوف و الما ـ ورائيات” عند النفري، و تيمات “اللاهوت، و الموت، و الجنون” عند هلدرلن، و رؤية خوصي أنخيل بانطي للموت ك “شاعر الاختفاء، و الشاهد على الزوال”، و “فوبيا القلق من الموت، و مرض اللوكيميا” لِ راينر ماريا ريلكه (الذي يسمونه الشاعر الذي قتلته وردة).
ج ـ الفهرس: و يعتبر “عتبة” أخرى رغم تواجده في الصفحات الأخيرة لأنه غالبا مع أول تصفح لأي كتاب، جرت العادة الاطلاع على فقراته مباشرة بعد إلقاء نظرة على الغلاف. و فيه نكتشف أن الشاعر عبد القادر الغزالي قد جزأ ديوانه هذا إلى سبعة “أبواب” اختار لها هذه العناوين الفرعية: “في قعر من لهب”، و “الفراغ سيرة الحروف”، و “الوصول زلة قدم”، و “نيران فارسية”، و “لقاء إلى حين”، و “في العراء”، و “مواطئ غير آمنة”. هي عناوين ثلاثية الأبعاد؛ بُعدٌ لغويّ يُشكِّل بمُعجمِه حقولا دلالية تسلط الضوء على إحدى التيمات الرئيسة للديوان: “العبور إلى الموت”؛ و بعدٌ أسلوبي/ بلاغي يوظف الانزياح في اللفظ و التركيب و الصورة ، بإيحاءات متعددة عبْر دالات ك “الفراغ”، و “العراء”، و “المواطئ”؛ و بُعدٌ سيميولوجي يعتمد تقنيات فك شفرات بعض تمظهرات الصّوَر الخطية و الإيقونية و التشكيلية كعلامات، كأنْ نقرأ في هذا الديوان مثلا: “سيمياء المشيْ”، و”سيمياء الفلك”، و “سيمياء النفي”.
4 ـ سيمياء:
أ ـ سيمياء الفلك:
و قد أحال الشاعر على أريسطو دون الفارابي أو أفلوطين، كما ذكرنا، لعدم إيمانه بالمثاليات لأن الواقع المادي المحسوس يوقظ الحالمين ببلوغ الحقيقة المطلقة؛ نقرأ (فقرة من نص “وصايا بروكيست” ص. 96):
“من لا يحمي الرأس لا يلوذ بالعراء.
من يحيى بلا ليل لا يدركه الصباح.
من يغتني بالرثاء تمحقه العاصفة.
من يكتري خيمة و نجوما في الأعالي
تصفعه الشهب.
من يصيح لا يدركه المغيب.”
و تتأكد فرضية هذه الرؤية لسيمياء الفلك في الديوان أكثر لما يجعله الشاعر مرادفا لملاذ أخير سماه “ياقوتة” تشبه “قعرا من لهب” و كأنه القدر، كأنه الجحيم نفسه؛ نقرأ (فقرة من نص “ياقوتة” ص. 16)؛ نقرأ:
“أيتها المنذورة للغياب؛
تجمعين و لا تنمحين،
تفجرين عيونا في الصحاري،
و تفتحين البدايات.
كلّما أنهكنا السفر
أسندنا ظهورنا إلى صرحك العتيد،
و تلمّسْنا ياقوتتك في قعر من لهب.”
هكذا يصبح الفلك قعرا من لهب؛ نيرانه تحرق الهنا قبل الهناك، الحياة قبل الموت، لذا خصص الشاعر عبد القادر الغزالي جزءا كاملا لتيمة النار في هذا الديوان، من بين عناوين نصوصه: “نار الفقد” (ص. 45)، و “نار الخراب” (ص.46)، و “نار البرد” (ص.47)، و “نار العزلة” (ص.48)، و “نار المسّ” (ص. 49)، و “نار الإعصار” (ص. 50).
ب ـ “سيمياء المشيْ”:
قد ينتبه قارئ هذا الديوان (فلك المنازل) لتكرار فعل “مشى/ يمشي” (و مرادفات بمعاني جد متقاربة) على طول ربوع الديوان. و لفعل “المشي” في سياقات هذا المتن عدة دلالات تغرف جلها من قاموس الفلسفة و التصوف و الشعر الرمزي التجريدي؛ من بينها:
ـالمشي بمعنى “العبور” الوجودي إلى “زمن مُنفلتٍ من الزمن”/ إلى العدم؛ نقرأ (فقرة من نص “مواكب تعبر على عجل” ص. 141):
“ليلة باردة
بلا كوابيس
بلا أرق…
بلا هواجس…
تعطيل التأمل الحسّي
و الاسترخاء في الاسطبل اليومي
حيث تُجرّ المخيلة من القرنين
إلى قبور أسلاف بلا هوايات
لولا إيهاب شعاع خاطف يصفع الجسد
في هذه الظلمة التي تتسكع متبرّجة بين الأسرّة
لماذا تأخر إلى هذا الزمن المنفلت من الزمن.”
ـ المَشيْ بمعنى البحث عن المعرفة، و خلاف انتظاراتنا من الشاعر عبد القادر الغزالي إحالته على نظرية “الفيض” عند الفارابي كما يوحي بذلك عنوان الديوان و لوحة واجهة الغلاف، فاجأنا بالمرجعية الأرسطية، كما توحي بذلك لفظة “المشائين” (و المشائية مدرسة أريسطو التي اعتمدت المشي وسيلة في تحصيل و تلقين المعرفة) كما جاء في هذه الفقرة من نص “سآتي على…” ص. 39)؛ نقرأ:
“تمدّ كطائر خرافيّ جناحيك
يا قرين الانطلاق
سبط المشائين
يا صنو النزال الخاطف
تعيش للمداهمة و المحو
لأن العري بداية الصباح،
حبل التكبيل و النهاية.”
ج ـ سيمياء النفي:
الإحالة شبه واضحة من الشاعر عبد القادر الغزالي على مبدأ “نفي النفي” عند كارل ماركس (و هو أحد اسس المنطق الجدلي. ينص على أنه لا يوجد شيء مادي باقي، بل الحياة في تطور دائم، فكل شيء للزوال لا يدوم سوى المادة التي لا تفنى، حسب نظرية لافوازيه)؛ نقرأ (فقرة من نص “فارس الما ـ ورائيات” ص. 82 و 83):
“مثل “إيليس” لا يثنيه العمى،
يفك أغلالا مشدودة بالشرط،
يهدم تواطؤ المادة و الهيولى.
يحزم
و مثل الوجه القائم بعيد،
يُشظّي صورته عبر التكوين.
تلوّح له أيادٍ بألوية لا يبالي،
يمضي خفيفا
إلى مملكة الإرادة العليا.
ينفي النفي
يغفو فترديه المشيئة في الرحم.”
و كأن الشاعر يدعونا لقراءة ممكنة لديوانه عبر آلية (خطاطة) ما يطلق عليه “المربع السيميائي” (ويتكون من أربع زوايا تمثل الزاويتان العلويتان الشيء ونقيضه، أما الزاويتان في الأسفل فتمثلان نفي الشيء ونفي نقيضه.)، و ربما كان التلميح أكثر وضوحا من خلال هذه الفقرة من نص “وصايا بروكيست” (ص. 96)؛ نقرأ:
“وحيدا يفتك به العراء
مخمورا يصدع بالنفي:
المنفى خارج من حساب الخسارات
النافي داخل في ملاجئ الذاكرة.
الانتفاء سرّ البقاء.”
و لنا عودة… مع تحيات نافذة النقد