قبل عشر سنوات، رحل عنا فيلسوف “التفكيك”، سنحاول، من خلال هذه المقالة، البحث في الإرث الذهني، لمفكر يرتاب من الورثة.
جاك ديريدا، مسكون أكثر بهاجس البقاء، من الموت. قلقه ذاك، هيمن عليه كليًّا، سواء في تجربته اليومية، وكذا نصوصه الفلسفية، يقول بهذا الخصوص: «مختلف المفاهيم التي ساعدتني على الاشتغال، لاسيما مفهومي الأثر والطيف، كانا مرتبطين، بـ”البقاء الأصلي”، بوصفه بعدًا بنيويًّا».
سنة 2004، حين اكتشف إصابته بداء السرطان، ستنشر له جريدة “لوموند”، حوارًا أخيرًا لمنظر التفكيك الشهير، بحيث منحه طابع وصية. ديريدا الذي كان يبلغ 74عامًا، أدرك جيدًا أن بقاءه أضحى مسألة وقت، فبدا أكثر انشغالاً، بإرثه الفكري: «أترك هنا، قطعة ورق، ثم أذهب كي أموت: يستحيل الخروج من هذه البنية، إنها الصيغة الثابتة لحياتي. خلال كل مرة، أسمح معها برحيل شيء ما، فإني أحيا موتي داخل الكتابة. اختبار في حده الأقصى: إننا ننزع الملكية، دون أن نعلم إلى من انتهى الشيء الذي تركناه، من سيرثه؟ كيف سيتحقق ذلك؟ بل، هل سيكون له ورثة؟».
عشر سنوات مرت على رحيل جاك ديريدا، وبالضبط يوم 9 أكتوبر 2004. حدث، يطرح ثانية التساؤل بكيفية عاجلة، ومن ثم فهو الذي نسف لبنة وراء لبنة، يقينيات الفلسفة، ثم ألهم بكتاباته المحللين النفسانيين والقانونيين والمهندسين والسينمائيين- نستحضر فقط فيلم “Deconstructing Harry” لصاحبه وودي ألن- هو “اليهودي الجزائري الصغير” المجسد للفكر في عيون العالم قاطبة. ديريدا، المثير الذي حظي داخل أمريكا بوضع لا يعيشه أصلاً سوى نجوم السينما، هو الذي خصصت له جريدة “لوموند”، ملفًّا خاصًّا تضمن عشرات الصفحات، لحظة موته، مما شكل واقعة استثنائية. ديريدا، الذي يبدو حاليًا، أنه اهتدى ثانية، إلى وضع التطهير.
بالنسبة لأغلب الفلاسفة الذين استفسرناهم، لم يعد ديريدا يستشهد به، بذات الزخم، كما كان على قيد الحياة. أيضًا، هو أقل مقروئية، قياسًا لوجوه أخرى يرتبط بها اسمه بكيفية فورية، ولنبدأ بـ”دولوز” و”فوكو”: «حينما تشغل مكانة مهمة جدًّا كما الحال مع جاك، فبالضرورة ستعيش انحدارًا بعد ذلك. الوضع ذاته، عاينته لدى سارتر، حينما كنت طالبًا»، يتذكر “جون لوك نانسي” أحد أقرب أقربائه. ثم يضيف، “ماتيو -بوت- بونيفيل”، البالغ من العمر 35 سنة، لحظة وفاة الفيلسوف: «يعد هذا المفعول للتطهير، كلاسيكيًّا. حين وفاة فوكو أيضًا، انتظرنا عشر سنوات، كي نتمكن من إعادة الاستشهاد به، لأن مختلف القضايا التي ألهبها، تم التخفيف منها بعدم مناقشتها. لكن ديريدا، أحدث بغضًا نادرًا من نوعه، لاسيما في فرنسا، فلم يظفر قط بمنصب جامعي. زيادة على ذلك، الكوليج الدولي للفلسفة الذي أسسه ديريدا سنة 1983، كي يسائل هوامش المؤسسة الفلسفية، بجعلها منفتحة على التدريس الثانوي وكذا الأجنبي، ثم الحقول غير الفلسفية. من ثم، الكوليج الذي جسد كل شيء، غير كونه مدرسة مكرسة لفكر ديريدا، يمثل اليوم موضوع تهديدات جسيمة من لدن وزارة البحث».
إضافة، إلى هذا الجانب، الناتج على “ردة فعل”، تقوم مبررات ثانية، تفسر التراجع النسبي لديريدا، من المشهد الفلسفي الفرنسي والدولي. لنبدأ، بصلته الخاصة بسؤال التركة، فأن ترث تعني بالضرورة، المحافظة لكنه كذلك خيانة، يستطرد صاحب “الوفاء الخائن”، محذرًا باستمرار تلامذته، من أفخاخ النقل، وكذا الاقتراض: «ديريدا قارئ كبير للأدب وكذا فرويد ولا كان، هكذا منح إمكانية إعادة قراءة جميع نصوص الفكر، خارج رطانة المدارس»، تشرح “إليزابيت رودينسكو”، مؤرخة التحليل النفسي.
لهذا السبب لا يمكن أن يوجد، شيء ما بمثابة “ديريديين”، اللهم إذا أخذنا في الحسبان من يكتفون بترتيل لغة الأستاذ. ذاك، النثر العجيب، الذي ستتفاعل معه هامسًا كأنك تخرج الصوت من بطنك، منذ الدقائق الأولى لمصادفته: «أعشق كثيرًا المحاكاة الساخرة، لذلك أخبرت ذات يوم جاك، بأني أتطلع فعلاً إلى كتابة عمل يحاكي سخرية الفلاسفة، تؤكد شهادة جون “لوك نانسي”، فأجابني على الفور: “ليس أنا، إذن؟”، كما لو يشعر، كونه أحد أكثرهم سخرية».
للأسف تلك الكتابة الجذابة، بصيغها المعروفة بسهولة مع تعابيره الرمزية، توشك أن تختزل عمله بعد رحيله، إلى مجرد اجترار كلامي، وكذا تلامذته إلى ثرثارين. يقول “بيتر زيندي”، الذي سبق له الالتقاء بديريدا سنة 1995، لحظة إنهائه لأطروحته: «تتصف وضعية ديريدا داخل فرنسا، بكونها إشكالية. يستحسن تجاهله باحترام، لكن الأسوأ هو أن نمارس حياله تقليدًا إيمائيًّا خالصًا، ففكر ديريدا هو فكر الواقعة، التي تأنف من تحمل التكرار، من ثم تمثل أيضًا انتقاداته، أفضل من يرثه».
ضمن هؤلاء، “كاترين مالابو”، التي كانت قريبة من ديريدا، قبل أخذها مسافة منه. بالنسبة إليها، فزيادة على الضغينة التي شكل الفيلسوف موضوعًا لها، أو كذا علاقته بالإرث، سيمثل منذئذ، مفهوم “التفكيك” نفسه شاشة لإشعاعه، تقول: «التفكيك، هو أن تسائل، كل ما يطرح نفسه باعتباره بداهة. لكن، مناحيه ينبغي أن تتغير. عند ديريدا، انصب كل شيء حول الكتابة والنص والكتاب…. اليوم، يتأتى الانقلاب من جهة أخرى، من قابلية التشكل، بمعنى هو أثر، غير مقيد، لكنه شكل متحرك كما في الدماغ أو نظارات غوغل. إذا لم يستحوذ التفكيك على كل هذا، سيغدو فكرًا بدون مستقبل».
السير على هدى ديريدا، من أجل تعبيد طريقه الخاصة، وخلخلة معجمه كي نستحضر اللغة ثانية معه، سيكون ذلك ربما أفضل وسيلة لاستعادته في نهاية المطاف: «يعد ديريدا، مرجعية لا مناص منها،غير أن الأفراد لايدركون كثيرًا عن ماذا يتكلمون، حينما يستشهدون به -يشير جاكوب روغوزنسكي في كتاب صادر عن ديريدا بمناسبة حلول هذه الذكرى العاشرة- عندما يستكشف رولان بارت، ملاحظات تلامذته حوله، فقد أثاره رؤية رأسه وقد أضحى صغيرًا، مثل الرأس المقطوع عند قبائل هنود جيفاروس jivaros، هذا يلائم بشكل خاص ديريدا، لأننا ما إن نختصر فكره حتى نعمل على تحويره، فلا توجد لديه كلمة سيدة، التي بوسعنا أن ننقلها بسهولة. وضع يجعله مكروها، من لدن المؤسسات وكذا حراس التفسير».
ليس هناك كلمة سيدة، لكن كتابة مرهفة، ترفض أن تجزم، تتحسس باستمرار وتبدي تصدعاتها وشكوكها. سنجد لديه، بدل حيز مكان خط سوي، مسلكًا متحمسًا لكنه متعرجًا، ترصعه منعطفات متوقدة، وكذا مماطلات خصبة. هكذا يطرح، الفعل النقدي عند ديريدا، سؤالاً حول سؤال، منتهيًا بشكل عام، بطرح السؤال حول السؤال ذاته. مجازفًا، بالانتقال إلى متشكك، والظهور بصورة مفصول، عن سياق مدة تاريخية عاشت تحت ضغط تلهفها لليقينيات.
يقول باتريس مانجلي، المنتمي إلى طليعة الفلسفة الفرنسية: «بقدر ما هناك خط مستقيم، متخلص من العقد، توجد اليوم ميتافيزيقا جديدة متحررة من العقد، ترفض مركزة النقد، ومتوخية إعادة الارتباط، بأشكال للإثبات، نحيل مثلاً على “برونو لاتور” أو “آلان باديو”. لذلك، جسد ديريدا بشكل من الأشكال، وجهًا مميزًا بالنسبة لشباب يتطلعون كي يقولوا الحقيقة وفق صيغة الراديكالية السياسية. لقد علمنا ديريدا أن نتأمل، ونتمهل، فأوجد للشاب المرتاب بل والمعقد كذلك، أفقًا فلسفيًّا، كان رائعًا جدًا. لكن اليوم، يرغب كثير من الشباب، في الفعل».
بالتأكيد، لعمل ديريدا قوة سياسية أصيلة، لأنه يلغم كل الانتماءات ويتوخى شروط عدالة مستقبلية، مثلما يشهد على ذلك، حضور الفيلسوف إلى جانب نضالات المهاجرين الذين لا يملكون أوراق الإقامة، أو رحيله إلى زنزانة نيلسون مانديلا. مع هذا، وقياسًا إلى فوكو ودولوز بل وسارتر، تبدو نصوص ديريدا، أقل تحريضًا على النحو المباشر: «لقد كتب ديريدا وسط عالم، يقف حيال يقينيات كبرى، سواء ماركسية أو كاثوليكية. في عالم ساخر، مثل عالمنا، يبدو أقل جدوى. إن ديريدا، مثل فاضح لأوهام السحر، يحتاج إلى اعتقاد الحشد، حتى يكون لتفسيره صدى. حاليًا، الحشود ليس لها الوقت، كي تعتقد بسحر ما» يلاحظ، “تيموتي سوكري”، وهو أستاذ شاب بجامعة مانشستير. لكن بشكل مفارق، فهذا المحو لديريدا النجم، والوسيم والجذاب والمعشوق، مكنه كي يصير في النهاية كلاسيكيًّا، ضمن صمت المختبرات والمكتبات.
مؤخرًا، نظمت في صالة مسرح المدرسة العليا بباريس، شارع أولم Ulm، المتواجدة في الطابق السفلي، ندوة كبرى، تمحورت حول ديريدا. غمرت قاعة العرض، إضاءة خفيفة، مسرح بالنسبة لهذا الكاتب المسرحي، وشبه عتمة لصاحب تنظيرات ما هو خفي: هذا المرة، كان ديريدا متواجدًا بين أفراد أهله، بوصفه أحد تلامذة تلك المدرسة، التي انقطع عنها منذ مدة طويلة: «في شارع أولم، هناك فريق يسمى: “اقرأ ديريدا واشتغل عليه”، حيث يتلاقى باحثون في مرحلة الدكتوراه من مختلف بقاع العالم» تشير شهادة ل “مارك كريبون”، المشرف على قسم الفلسفة، في المدرسة العليا للأساتذة.
رغم أن ديريدا، لازال بعد يثير كثيرًا من العدوانية، فقد ولج قائمة كوكبة الكلاسيكيين، ونقرأه آنيا مثل سارتر أو ميرلوبونتي. لقد ناقشت أطروحتان في السوربون، تمحورت حوله، حدث لم يكن واردًا قبل عشر سنوات! هذه القراءات الثاقبة، التي تتلخص من المحاكاة، تهم ليس فقط نصوصه الإتيقية المتعلقة بالوعد والمسؤولية والصفح والعدالة أو الإعدام، لكن كذلك ما نعته “جون لوك نانسي” بـ”أسس التفكيك”، مثلاً كتاباته حول هوسرل والفينومينولوجيا، ثم ما أسميه بـ”نخبوية التناول”: كتب ديريدا، باستفاضة عن أنطوان أرتو، وجان جينيه، وبول سيلان، وولتر بنيامين، وكارل شميت…، فما إن يتجه اهتمامك نحو واحد من هؤلاء، حتى تعثر على ديريدا مع كل لحظة وأخرى.
أرتو وجينيت وسيلان…، كثيرة هي الأسماء التي تذكر بمصاحبة ديريدا للشعراء والكتاب، ورفضه المعلن دائمًا بخصوص الفصل بين الأدب والفلسفة، مما كلفه ثمنًا غاليًا، لأنه في الوقت الحالي أيضًا، يسخر منه مغتابوه الأكثر غيرة، بدءًا بكبار ممثلي الفلسفة التحليلية، مادام ديريدا يظل ببساطة في نظرهم، مجرد مدرس للبلاغة. لكن، ذلك، مكنه أيضًا من التوطد داخل مؤسسات أكاديمية، رفضت استضافته.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلم يمارس فقط تأثيرًا جليًّا على أقسام الأدب المقارن، بل ساهم في أن يشكل هناك نماذج للتدريس، بحيث مثلت نصوصه غالبًا، مرجعية، كما يقر بالحقيقة “دينيس هوليير”، أستاذ بجامعة نيويورك:«لقد غير ديريدا مجرى الحياة داخل هذا الفضاء الرهباني، كما الحال مع وضع الجامعات الأمريكية. بالنسبة إليه، لا يتأتى الارتباط فقط من الموسوعية، حتى ولو عجز عن التفكه بآلاف النكت، التي كان يدلي بها خلال كل واحدة، من زياراته، إلى الحرم الجامعي. حتما توجد جماعات الرفض، لاسيما في الدراسات الأدبية التقليدية، التي تستكين إلى الموسوعية دون مجازفة مفهومية. كذلك، احتاج الطلبة أكثر، إلى إرساء مع ديريدا، حول أسئلة راهنة مرتبطة بالنسوية، ثم ما بعد الكولونيالية، غير أنه صار كلاسيكيًّا. في المداخلة التي خصصتها للسيرة الذاتية، فمختلف الأسئلة التي طرحها الطلبة، انصبت عليه، والكثير منهم قرؤوا مرارًا مقاطع عن روسو، وردت في كتابه عن الغراماتولوجيا».
ديريدا، الأقل شهرة فيما وراء المحيط الأطلسي، قياسًا بمكانته في الماضي، ثم الأقل إثارة من الناحية السياسية كما الحال مع فوكو أو دولوز، مع ذلك فهو يستفيد من هالة جديدة، تتعلق بالكاتب الموروث، والدليل على ذلك، المشروع الهائل للمطبوعات الجامعية بشيكاغو، التي قررت ترجمة مجموع محاضراته إلى الانجليزية، تقول المؤرخة جيزيل سابيرو:«هو مشروع بدون نظير، أتى على إصدار دراسة مثيرة للاهتمام حول ترجمة العلوم الإنسانية. فريق، يضم مختلف المختصين، سيجتمع كل سنة كي يناقش الترجمة. سعي مدهش، حينما نعلم انحسار الترجمات من اللغة الفرنسية، وضعف الوسائل. فضلا عن ذلك، فمابين 2002 و 2012، لاحظنا بأن دور النشر الفرنسية الأولى، الأكثر ترجمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، هي دار النشر العريقة “”le seuil، أما الثانية فهي دار نشر صغيرة تسمى “غاليلي”، المكلفة بنشر أعمال ديريدا!».
مثل باقي المفكرين، الذين نصنفهم تحت تسمية “النظرية الفرنسية”French theory ، (دولوز، فوكو، بودريار، ليوتار)، سيعود ديريدا فيلسوف التعرج إلى منزل الأهل، بعد تجوال طويل، في أمريكا: «تقريبًا مثل هيدغر، العائد إلى ألمانيا عن طريق فرنسا، سيرجع ديريدا إلى فرنسا عبر أمريكا»، تشير ضاحكة الفيلسوفة باربارة كاسان.
كذلك، انتقل ديريدا كثيرًا بين تركيا والبرازيل والهند واليابان، بلدان عديدة، تضم كثيرًا من تلامذته، المدركين لوجوده أم لا: «كما تكلم ديريدا أحيانًا عن مناصرين سريين للماركسية، فكذلك يوجد اليوم مناصرين سريون لديريدا، بحيث يوظفون هذا المفهوم أو ذاك، دون إدراكهم، بأنها تنتسب إليه» يلاحظ كازاوا ماسودا، أستاذ في جامعة طوكيو.
سافر ديريدا كثيرًا، وعاد مختلفًا وبنجومية أقل، وبشخصية تراجع زخم قوتها، قياسًا للسابق. الفلاسفة الشباب، الذين استحوذوا على نصوصه، لم يعرفوه في الغالب، من ثم يشعرون بحرية أكثر نحوه:«ديريدا المتعب، والصامت، والمكتئب على الدوام، هو ديريدا الصفح والعدالة. نتشوق إلى ديريدا المنتعل لأحذية سوقاء، مع إثارة، ديريدا الروك أندرول. على النقيض من الفلسفة الواقعية الجديدة الحالية، التي تفكر في إمكانية صنع التساوي، بين الواقع والتأمل، سيعلمنا ديريدا أن التفكير مجازفة، بحيث لا ندري قط أين المنتهى بين الفكر والواقع. مثلاً الاشتغال ثانية، مع ديريدا عن مفهوم الحيوان، يعني الشروع، بالعيش وسط عالم، لا يمكننا في إطاره أبدًا، تمثل اللحم بذات الطريقة. ليس هناك لحم، بل، جسد مغتال»، الحديث لباتريس مانيغليي.
مسار ديريدا، بوصفه وفاء غير وفي، المؤمن بأن أفضل طريقة لاحترام إرث، تكمن في العمل على إفرازه كي ننقذه، ثم تحويله حتى نجعله ينطلق ثانية بشكل أفضل: «ليس أن نختاره (لأن ما يميز الإرث، أننا لا نختاره أبدًا، بل هو الذي يختارنا ويصطفينا بحدة)، بل اختياره، كي نبقيه حيًّا… . ينبغي التفكير في الحياة، انطلاقًا من الإرث، وليس العكس»، يؤكد الفيلسوف في حواره مع إليزابيث رودينسكو.
وراثة جاك ديريدا، بعد عشر سنوات من وفاته، يعني أن ننصفه. الجواب سيكون، بإخراجه من المِطْهر وعرضه أمام كل الرياح. أولاً، تبيان أن التفكيك، الكلمة التي أعلن ديريدا بنفسه منذ زمان عن استهلاكها، وبعيدًا عن كونها مسارًا سالبًا وعدميًّا، تمثل بالأحرى فعلاً للإثبات وفلسفة للحياة. يؤكد صديقه جون لوك نانسي، قائلاً:«الوجه الأكثر اختفاء لجاك، هو ما يصنع راهنيته، إنه تأكيد حقيقي. فيما وراء سلبية ظاهرة، يقول ديريدا الآن، نعم. إنه حاضر، مثل الذي ينفلت، لكن له بالضبط مكانًا، من خلال انفلاته. إنه حضور شخص، والالتقاء والمجيء».
نعم، يعود ديريدا، لقد انبعث ثانية منذ مدة، لكن وداعًا للمِطْهر، ثم مرحبًا بالتحويل.