على هامش مقالة لحسين الباز.
(كن قارئا قبل أن تكون كاتبا) عنوان لمقالة نقدية، يطرح فيها الأستاذ حسين الباز اسئلة حول القراءة والكتابة، وأرى انهما متلازمتان تلازم السماء والأرض، الموت والحياة، فلا نذكر هذه دون ذكر تلك، وإن كانت القراءة سباقة على الكتابة نسبيا، لأننا منذ الأزل، ونحن نقرأ العالم المحيط بنا، فنبحث له عن الأسباب والمسببات، ونفكك رموزه، كما نقرأ ماوراء قسمات وجوه الناس فنحلل سلوكاتهم استحسانا أو استقباحا فنتخذ منهم المواقف سلبية كانت أو إيجابية، فالقراءة لا تقتصر فقط على تصفح الكتب وقراءة السطور، والقراءة والقارئ سواء كان ناقدا أو باحثا عن المتعة احتفت بهما نظريات نقدية حديثة من رولان بإرث إلى روبرت ياوس وأيزر.
ونحن أمة إقرأ، أمر الله سبحانه رسولنا الأكرم بأن يقرأ، في السورة: (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم…. إلى آخر السورة، تفتح القراءة أمام القارئ الباحث عن متعة التغذية الروحية كل أبواب العلم والمعرفة والحياة، لأن حياتنا تتوقف على حياة غيرنا من الذين سبقونا أو يعاصروننا، فهي التي تساعد الممارس لفعل القراءة على أن يعيش الحياة عريضة لا طويلة، فقد تعيش قرنا من الزمن نارا بدون دخان، وقد تعيشها عريضة غنية بالعطاء والمعرفة ولنا في أبي القاسم الشابي خير مثال، تعيشها عريضة، أي أن تعيش حياتك في حيوات متعددة، بالقراءة تعيش حياة وظروف الآخرين، حيث تكسر بالقراءة حاجز المكان والزمان، تعيش تجاربهم، وإن اختلفت المسافات واختلفت مميزات الماضي عن الحاضر.
إن شخصية الإنسان تتكون وتبنى من خلال امتزاج خمائر الآخرين من أدباء وفلاسفة على اختلاف مواقفهم الفلسفية وتباين تصوراتهم في الحياة، بخميرة هذا الذي يدمن على القراءة، خميرته التي يكتسبها في حياته الخاصة أو العامة فعلا وتفاعلا تأثرا وتاثيرا، ولكن، امتزاج هذه الخمائر من خلال القراءة -حتما- سيساهم استقلال القارئ بمواقفه وفلسفته الخاصة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننكر أن المعارف الإنسانية والتجارب الحياتية من الماضي والحاضر عبارة عن سلسلة تعضد حلقاتها بعضها ببعض، فلولا قراءتنا أفكار وإبداعات السابقين لما وصلنا لما نحن عليه من تقدم علمي وتكنولوجي، فهذا الروائي الفرنسي جيل فيرن يتنبأ بدورة الإنسان حول العالم في ثمانين يوما، فأصبحنا ندوره في ساعات قليلة جدا، فالاستفادة حاصلة كلما تعددت القراءات وتعددت المشارب والمذاهب دون تحديد الزمن أو المكان.
القراءة مركب قوي المجاديف، نمتطيه للإبحار في عوالم غريبة عن عالمنا، طلبا للتغلغل في متاهات معارف وأفكارالآخرين، فنقرأ الشعر والفلسفة والأدب والتاريخ والأسطورة، فنعيد صهر ما قرأنا في الذاكرة لإعادة إنتاجه في إبداعاتنا وكتاباتنا إذا كنا نشتغل بالكتابة. القراءة بساط سحري ينقلنا من غرائب وعجائب سليل الوركاء، إلى سيف شهريار المسلط على رقبة شهرزاد كل ليلة من الألف وليلة، ينقلنا من روائع بيدبا الحكيم إلى خرافات لا فونتين، من معلقات شعراء العرب إلى هاملت شكسبير، ومن مدينة أفلاطون إلى مدن الملح لمنيف، القراء نشوة مخمور بلا خمرة، ورعشة مطرب بلا طرب، فعل القراءة لا يحتاج إلى تأشيرة عبور واختراق لمجاهيل الزمن والمكان، تحليق من المكان الواحد إلى الأمكنة المختلفة ومن الزمن الواحد إلى الأزمنة المختلفة، حيث تذوب أمامها كل الحواجز والسدود، وذلك خلال هذا التراكم الكمي من المعارف التي تترسب في الذاكرة، لتكون رصيدنا المعرفي الخاص، والذي يرفعنا درجات في أحلك المواقف، ربما لأن ذاكرة الإنسان كالرحى تطحن وتخلط ما تطحنه، وهي أمهر من الرسام الماهر، تعرف كيف تمزج الخمائر، وتصهرها صهرا لتكون فينا تلك البصمة المعرفية التي لا يتشابه فيها إثنان.
لا يمكن – أبدا- أن يستوي من يقرأ ومن لا يقرأ، فالبون بينهما شاسع شساعة ما بين السماء والأرض، والفرق واضح في قوله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)… والمعرفة كنز مرصود لا يظفر بجواهره ونفائسه ويلج أبوابه ويقتحم متاهات مغامراته السحرية إلا قارئ مكافح باحث، يسهر لياليه الطوال بحثا عن المعلومة القيمة أو الفكرة الفلسفية أو تلك الشطحة الإبداعية، التي يقتفي أثرها في بطون أمهات الكتب، هذه الكنوز التي -للأسف- أصبحت تأكلها الأرضة وعرضة للغبار يعيث فيها فسادا على رفوف المكتبات العربية الخاصة أو العامة، ماكانت الكتب يوما تستعمل لتزيين الصالونات فتجد المنازل لاتخلو منها لكن بدون قراء، وهذا ما يلاحظ في مختلف البلدان العربية، من المحيط إلى الخليج، فرغم أننا نبتة ترعرعت في أمة إقرأ، لا نقرأ إلا النزر القليل، وما كان تصنيفنا ضمن الشعوب التي لا تقرأ عبثا أو اعتباطيا، وتحضرني حكاية مدرس لمادة الفلسفة أضرب طلابه على حضور حصصه، فسألهم: لماذا لا ترغبون في حضور حصص الفلسفة؟ فأجابوه جماعة: لا نريد الفلسفة، وكل ما يأتي من الفلسفة! فرد عليهم المدرس بحنق وخيبة أمل: ومتى رأيتم شعوبا تجمعها هدهدة الأرداف الثقيلة وتفرقها هراوة مخزني تقرأ الفلسفة. وهذه شمس لا يمكن حجبها بعيون الغربال، فقد أصبحنا لا نعيش المعرفة المركبة، لكننا نعيش جهلنا مركبا.
أعتقد أن هناك أسبابا مختلفة ساهمت بشكل أو بآخر في تفاقم أزمة القراءة وندرة القراء، وفي عزوفنا عن الكتاب، لعل أهمها هو فراغ الذاكرة من القدرة على طرح تلك الأسئلة العميقة حول الحياة والوجود وما شابه ذلك، لأن عمق السؤال يدفع إلى البحث عن جواب يشفي الغليل، وهذا الجواب مرتبط بالغوص في عالم القراءة، بحثا عنه في معارف من سبقنا أو حتى من عاصرنا، لأن المعرفة إنسانية لا جنسية لها. فقراءة ديوان شعر تدفع إلى قراءة كتاب في الفلسفة أو في الأدب أو التاريخ، فلا يهمنا المصدر إذا وجدنا فيه ضالتنا، وهكذا تشبع الذاكرة حتى تصاب بالتخمة، وهذه المعارف لن تذهب سدى، وإنما يتم استثمارها وقت الحاجة سواء في حياتنا اليومية أو في شطحة من شطحاتنا الإبداعية.
إن تغذية الجانب الروحي في الإنسان لا تقل أهمية عن تغذية جانبه المادي، كتلك الشياه التي لا تقبل على قضم العشب إلا بعد أن تطربها شبابة الراعي. يشعر الإنسان بالجوع فيلتهم ما طاب من طعام، لكنه يملأ معدة واحدة فيعيش حياة واحدة، ويشعر بالرغبة في تغذية جانبه الروحي بالبحث عن المعرفة، فيجدها تمكنه من أن يعيش حيوات عبر العصور في حياته الواحدة، والطائرة لا يمكنها التغلب على الجاذبية بجناح واحد، مثلها الإنسان لا يمكنه أن يعيش على تلبية حاجياته المادية، ويهمل حاجياته الروحية التي لا يمكن بأي حال فصلها عن القراءة مهما تعددت مشارب ومواقف من نقرأ لهم في حياتنا.
إن المصيبة العظمى التي نعيش على وقعها في عصر لا يقرأ، أننا أصبحنا مفتونين بقراءة ما خف وهزل فكرا ومضمونا حد الانبهار، نسبح على السطح بمركب مهترئ ومجداف مكسور، ونبحث عن السهل الذي لا يمكن ان نبدل فيه أي مجهود يذكر، لا نغوص في الأعماق بحثا عن الدرر والجواهر، فتظل معرفتنا الضحلة الفقيرة تراوح مكانها، وربما لأننا فقدنا تذوق طعم القراءة، ولم نعد نشعر بأية لذة عندما نقرأ، فقد تحجرت أذواقنا، فنهلل ونطبل كما يقولون لهذا الغث والتافه، ونتخذه مصدرا من مصادر معرفتنا، فكانت النتيجة متوقعة: هزال الذاكرة التي أصبحت تشكو من العجز على الاستيعاب، فقد أصابها الضمور والفتور، وأتخمت بهذه اللامعرفة، حيث تسبب ذلك في تدني مستوانا الثقافي الذي انعكس على أخلاقنا، لأن القراءة تعتبر من أهم مصادر التربية الإنسانية. لا غرابة في هذا ما دامت رحانا لا تطحن إلا الفراغ، منذ أن صادرنا حقوق الكتاب علينا، فأجبرناه – قهرا- أن يعيش في بطالة أوعطالة. ولست ضد ما تجود به علينا مصادرنا الرقمية من معارف، لكن ما يدعو للقلق هو أننا لم نعد قادرين على اختيار ما نقرأ بدقة العارف والذي يختار بسلامة ذوق، لأن اختيار الجودة في المقروء تستوجب الجهد والتعب، ونحن في غنى عن هذا الصداع.
وربما يعود سبب الإحجام عن القراءة، هو أننا فقدنا الاستعداد، والاستعداد -بطبيعة الحال- من أسباب خلق لذة القراءة، و هو نوع من التأهل المعرفي الذي يتوقف على مدى مخزون القارئ وترسباته المعرفية التي تمكنه من فعل القراءة، أو على مدى ما راكم من تجاربه وتجارب غيره.
فقد نقرأ إبداعات مبدع مميز، لكننا نلومه على تعقيد ما يكتب، ونحن من عشاق المعرفة السطحية التي تقدم على طبق من ذهب، لا يستهوينا القصي والعصي من المعاني البعيدة المنال، ولا تروقنا تلك المسافات بينا وبين ما نقرأ، لكن العتب واللوم لا يجب أن يقع على الكاتب بقدر ما يجب أن يقع على هذا القارئ الذي لم يؤهل نفسه لقراءة ما يكتب هذا أو ذاك، والتأهيل ديدنه وإكسير حياته القراءة الجادة التي تمتطي صهوتها بحثا عن تحقيق متعة القراءة. وربما سيتكرر يوميا ذلك السؤال الذي وجه لأبي تمام، حين سأله أحد قرائه يلومه على صناعة معانيه حد التحجر: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجابه: ولماذا لا تفهم ما يقال؟ وهو يقصد: لماذا لم تؤهل نفسك بالمعرفة والعلم لتقرأ، فأنا لا يمكن أن انحدر إلى مستواك المعرفي هذا. فهل نلوم من راكموا كل تلك الكتب والمصادر التي لا تعد ولا تحصى، وبقيت عرضة للغبار، تنحتها تعرية الزمن على رفوف المكتبات العامة أو الخاصة، أم نلوم هذا القارئ الضحل الفكر الفقير الفكرة، والضيق النفس في طلب العلم والمعرفة، والمفتقر إلى الدربة والمراس المعرفي، لا أعتقد ذلك، ما دام الكتاب طلقناه طلاق الثلاث، وإنسقنا انسياقا أعمى وراء ما تجود به علينا المصادر الإلكترونية من معارف فقيرة لا يخلو معظمها من أخطاء على مستوى اللغة والفكرة. أنبهرنا بالنتفة الشعرية أو الشذرة، لأننا أصبحنا عاجزين عن قراءة القصيدة بحجم المعلقات، كما أصبحنا ميالين لقراءة القصة القصيرة، لأننا لم نعد قادرين على تتبع أحداث الرواية، وأصبحنا نجري لاهثين وراء القصة القصيرة جدا، لأننا فقدنا القدرة على قراءة القصة، فأصبحنا نختزل معرفتنا في حفنة من أفكار أو في سطور قليلة جدا. لست ضد التجديد في الأجناس الأدبية، لأننا نؤمن بأن لكل عصر رجاله، ولكل بيئة أدبها، وسرعة العصر أنتجت الومضة أو القصة القصيرة جدا أو الشذرة وما شابه ذلك، لكني ضد هذا التجديد الذي لا يرتكز على قراءة الموروث الثقافي الإنساني، والانبهار بهذه المعرفة السريعة، معرفة الساندويتشات، أو الأكلات السريعة.
لكن، أعتقد أن ما نعيشه من سرعة في هذا العصر ليس مبررا للعزوف عن القراءة الجادة والمتح من مصادر المعرفة الجادة، ليس مبررا لجهل أو تجاهل تراثنا الأدبي وتراث غيرنا وعبر كل الأزمنة والعصور من فلاسفة وشعراء وأدباء. فماذا تعني الكتابة في مجال القصة أو الرواية ونحن لم نقرأ ولو رواية أو قصة ليوسف إدريس أونجيب محفوظ أو كارسيا ماركيز أو كوكول أو جي دي موباسان أو إدكار ألان بو وغيرهم كثيرة؟ فكيف سنعرف هذه الأجناس ونحن نجهل روادها؟ فلذة القراءة لا محالة تحصل بالجهد والمراس وطلب النائي من المعاني، والإبحار في مصادرها دون كلل ولا ملل، كيف نستسيغ ترك قمة الجبل ونتبع تردد الصدى في السفح؟
إن أزمة القراءة تنعكس سلبا بشكل مباشر على الإبداع العربي بصفة عامة، وبطريقة لا نحسد عليها بين الشعوب، فننتظر أن يعرفنا كتاب الغرب بما ترك أجدادنا من إبداعات، فنقرا ألف ليلة وليلة من خلال قراءات مفكرين غربيين، وبغباء ننتظرهم ليقولوا لنا ماذا قال اجدادنا، لأننا عاجزون تماما عن فتح هذه الخزائن الثمينة.
يلخص الأستاذ حسين الباز ما تم نقاشه من خلال هذا السؤال العريض الذي يبحث عن جواب شاف، جواب يتطلب عمق التفكير والتروي والتمحيص في محتوياته، لأننا بالفعل نعيش في عصرنا العربي المتخلف أزمة في القراءة وفي الأخلاق وفي منظومة القيم، كيف لا ونحن نصنف ضمن الشعوب الأضعف أو التي لا تقرأ، وهذه المعضلة تنعكس سلبا على كتاباتنا، فقد تعودنا على استهلاك إنتاج غيرنا دون أن نكلف أنفسنا ذرة من التفكير فيي إنتاجنا الخاص.
يقول الأستاذ حسين في تساؤله عن جدوى القراءة: وما النفع من القراءة؟
إن أنت كلما فتحت كتابا في وقت ميت لتعيش، وجدت نفسك تحتضر بعد سطرين…
إننا نعيش هذه الأزمة في القراءة والكتابة معا، فما يكتب لم يعد قادرا على تلبية رغبات من يبحثون عن المعرفة الحقيقية، وإن كان هؤلاء عبارة عن صدفات في أعماق المحيط. فضعف الكتابة من ضعف القراءة، ما دامت القراءة والكتابة متلازمتين، ولا أريد أن أتطرق للسؤال في محور الكتابة لأنه يحتاج مقالة خاصة به، فلنؤجله إلى فرصة أخرى، وأشكر الأستاذ حسين الباز الذي يستفز قراءه بهكذا أسئلة عميقة تستلزم بحثا عميقا، وليس الاكتفاء بانطباعات أوآراء شخصية…