عجبا! وأنا أتجول بين أعمدة منتديات العالم الأزرق، أقتنصت منشورا يدعو فيه صاحبه إلى كيفية تعلم وتعليم كتابة القصة القصيرة والشعر، فتساءلت: كيف لهؤلاء أن يعلموا غيرهم كتابة القصة القصيرة والشعر؟! قلت في نفسي بامتعاض: ربما تحول فن القصة القصيرة، والشعر، حرفة من الحرف اليدوية التي يمكن أن تتعلم في مراكز التكوين الحرفي كالنجارة أو الحلاقة أو غيرها، وأنا لا أنكر مهارة التعلم، لكن شريطة توفر عنصر الموهبة، خصوصا في مجالات الفنون التعبيرية، فليس كل خريجي مدارس الفنون الجميلة فنانين بالضرورة.
تحضرني حكاية طريفة لأحد الذين يعتبرون أنفسهم نقادا، مر هذا الناقد على نص من نصوصي، فعلق تعليقا طريفا، مفاده: [عليك أن تتعلم كتابة القصة القصيرة]، وبعفوية أجبته:
-كيف لي يا أستاذي، أن أتعلم كتابة القصة القصيرة؟ فهل هذا الفن المعقد مادة تعلم في المدارس، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو أو المعادلات الرياضية؟ فإذا كان الأمر كذلك، فكل خريجي كليات الأدب سيكونون شعراء وكتاب قصة قصيرة أو رواية، فيكفيهم من ذلك عناء تعلم الأسس والقواعد وكفى بالله شهيدا.
وتحضرني كذلك حكاية حدثت، ذات محاضرة في الأدب العباسي بمدرجات كلية الآداب، حدث ذلك بين طالب في صفوفنا وأستاذ الأدب العباسي. طرح أستاذ الأدب سؤالا طريفا:
-هل كلنا شعراء؟
وهو يروم من ذلك مجموعة من المقومات الشعرية، فكان فهم الطالب غير ما ذهب إليه الأستاذ فأجابه بعفوية:
-نعم يا أستاذ كلنا شعراء!
فرد الأستاذ بانفعال ملحوظ:
-وكيف ذلك يا هذا؟
أجابه الطالب:
-نعم كلنا شعراء يا أستاذي، لأننا نشعر.
فاستشاط الأستاذ غضبا، وطرد الطالب خارج قاعة الدرس، فمن منهما كان على صواب؟ ومن منهما كان على خطأ؟ فالأستاذ اعتقد أن الطالب يسخر منه، والطالب أجاب عن السؤال بعفوية، ولكن بدقة. فربما انطلق من اعتبار الشعر نابعا من الإحساس ومن الشعور، وهو خاصية في الإنسان، لكن يختلف التعبير عن هذا الشعور من شخص لآخر. لا نعبر كلنا عن أحاسيسنا بالشعر، ولا ننقلها، دائما، للمتلقي شعرا، وقد ننقلها له من خلال القصة أو الشعرا أو النحت أو الرسم، أو ننقلها له من خلال كلام عاد، أو عن طريق الإشارات أو بعض الانفعالات، فلا يضطر المتلقي إلى توظيف الفكر، وشحذ الذاكرة من أجل فتح مستغلق، أو تفكيك رمز، أو حل شفرة.
يمكن أن نتساوى في امتلاك الإحساس والشعور، لكن نختلف اختلافا كبيرا في وسائل التعبير. ولعل هذا الاختلاف في التعبيرعن الشعور هو سبب هذا التنوع الذي لا حصر له من وسائل التعبير عبر مر العصور والاجيال من عصر الأسطورة إلى العصور الحديث.
لكن هل يمكن أن نتعلم كتابة الشعر والقصة في ورشات، كما نتعلم قواعد {مالا ينصرف} مثلا أو {حملة نابليون على مصر}، أو {إحراق نايرون روما}، فهذه معارف يمكن اكتسابها. لكن بالنسبة للقصة أو الشعر، فقد نتعلم القواعد ونتزود بالأسس والمقومات والتقنيات العامة، لأنها- بشكل أو بآخر- تبقى في متناول الجميع، محصورة على المستوى النظري، أما على مستوى التطبيق، فإن ذلك يبقى بعيد المنال. كان على من ينظم ورشة لتعليم القصة و الشعر أن يوظف كلمة صقل المهارات، والصقل يختلف اختلافا كبيرا عن مهارات التعلم، لأن الصقل يقصد به شحذ الذاكرة بالمعارف وتزويدها بالزاد المساعد فقط.
ففي مجال الأدب يبقى هذا قاصرا عن تحقيق الهدف المتوخى، في حال عدم توفر الموهبة والميول، والقابلية للكتابة في هذا المجال أو ذاك، وعندما نريد تعليم قول الشعر أو القصة، فإننا نقوم بعملية إجهاض للجنين الذي يركل في الذاكرة منذ زمن بعيد، لأننا نحرق جميع مراحله من سقوطه نطفة في رحم الذاكرة إلى مرحلة التكوين إلى مرحلة المخاض إلى مرحلة الاكتمال واجتياح عالم القراء. فقد نتعلم التقنيات والقواعد، لكن هل بإمكاننا تعليم خصائص الكاتب النفسية، والتي تعتبر إكسير الحياة بالنسبة لميلاد النص، والتي نجملها في [الإلهام]، و[التخييل]، و [الانفعالات]، و [الاعلاء] بمفهوم فرويد. فهل نشتري من السوبرماركت – لهؤلاء الذين نعلمهم- ربة الشعر-كما يسميها- هوراس؟ أو نقتني لهم شيطان وادي عبقر/ العرب من أي محل كما لو اشترينا لعبة بلاستيكية لطفل صغير!
الإلهام خاصية يتفرد بها كل شخص، تبعا للتربة التي اقتات من نباتها والماء الذي شرب منه، وتبعا للخلفية الثقافية، والتاريخية، ولا ننسى المخزون المعرفي، العالق بجدار الذاكرة كالجنين الراقد الذي ينتظر أن يستدعيه السياق المناسب تواردا وتداعيا.
أبو نواس استأذن خلفا لقول الشعر، لكنه لم يعلمه قول الشعر، بل أمره أن يحفظ كما هائلا من الأشعار، وعندما حفظها أمره أن ينساها وعندما نسيها قال له:
-الآن آذن لك بقول الشعر.
وكان الهدف هو تخمير الخمائر لتمتزج بخميرته، وليحل ويتحد بكم هائل من الشعراء، وهذا سيمكنه من خلط الألوان ليبدع في نهاية المطاف لونه النواسي الخاص به، ويبصم الشعر ببصمته الخاصة، والتي تميزه عن غيره عبر الزمن.
ولعمري، إن في هذه الوصفة السحرية درسا لكل من يعتقد أن الشعر يتعلم (بضم ياء المضارعة). فالشاعر أو القاص أو الرسام يكون بمثابة فلتة من الفلتات التي قلما يجود بها الزمن؛ أو يكون حالة استثنائية، تقع مرة واحدة في حقب زمنية متباعدة، وليس قاعدة، فقد صدق من قال: (لا نستحم في النهر مرتين) أضف إلى ذلك عنصر{التخييل}، فهو ليس وحيا ينزل من السماء، وإنما تتحكم فيه مجموعة من العوامل التي تكون شخصية الإنسان، فهو بمثابة بصمات اليد، كلها تتشابه ولا بصمة تشه الأخرى، كوجوه الأسيويين كلها تتشابه ولا وجه يشبه وجها. ونعرف أن ديدن الإبداع الأدبي هو التخييل، وأما {الانفعال} فيعتبر من أبرز العوامل المساعدة على الإبداع – إن لم نقل عموده الفقري- وهو لا يتعلم في ورشات كما يعتقد البعض. فالانفعال، لابد وأن تتوفر فيه مجموعة من الشروط والحوافز، وبدونها فلا انفعال وبالتالي لا إبداع. وأعتقد أن النقاد العرب قد تطرقوا إلى هذه الخاصية، وقد لخصها “أرطأة بن سهية” في ثلاثة عناصر أوأربعة، نذكر منها {الغضب} و{الطرب} و{الشرب}، هذه انفعالات تساعد على الإبداع: أن تغضب من واقع متخن بالجراح، وتنظم قصيدة تؤدي بك إلى حبل المشنقة، أو تكتب قصة أو رواية، فالأدب ابن بيئته، أو تطرب، وما أكثر المواقف التي تدعو إلى الطرب، أو كذلك إلى الشرب، أي وسائل الإقلاع القصري عن الواقع المعيش. فهل يمكن أن نعلم الإنسان كيف يطرب أو يغضب أو يشرب؟ والله، إنه العبث، إننا نعلم كتابة القصة مثلا من حيث القواعد والتقنيات ونترك المتعلم يدبر أموره وفق موهبته وإلهامه وطربه وغضبه وشربه، معتمدا على قدراته على التخييل، وما نقوله عن القصة نقوله عن الشعر، أو باقي الفنون الأدبية الإبداعية التي تستوجب ذلك. فهذه أمور نفسية لا علاقة لها بالورشات في المدارس، فالعوام نعلمه مباديء السباحة، ونقذف به في بحر متلاطم الأمواج، وما عليه إلا أن يدبر أموره إذا أراد النجاة بجلده.
فالابداع لا يتعلم في ورشات أو في فصول الدراسة، وعلينا أن نفرق بين تعلم المباديء والأسس والقدرة على الإبداع، أي الموهبة التي تعتبر فلتة من فلتات الزمن، وهذا حال العباقرة عبر التاريخ من هوميروس إلى شكسبير إلى السياب.. فقد لا يلد الزمن منهم اثنين أبدا.
نخلص إذن إلى تعليم الإنسان كيف يشحذ موهبته من خلال الإدمان على القراءة لعباقرة الشعر والقصة والرواية، وما عدا ذلك فضباع تدور في فلك هؤلاء الكبار. صف لهم وصفة خلف لأبي نواس، ولا تجبرهم على أن يتقمصوا إلهامك وانفعالك، وأن يركبوا خيالك ويطربوا طربك ويغضبوا غضبك ويشربوا شربك، وأعتقد أنه لا يجب أن نخلط المفاهيم.