تعد التحولات النوعية – التحتية أو المجاورة قضية محورية في التجريب القصصي، إذ تعمل على إزاحة البناء القصصي من المغلق إلى المفتوح، فتقترح مكونات نسيجية متفردة، تعتمد على متغيرات جزئية أو كلية، فينهض هيكلها الحكائي على تقانات تتظافر فيها اللغة والرموز والدلالات لتأثيث تشكيل نصي لا يؤسس حبكة معقدة بقدر ما يصوغ قص مغادر للمألوف.
من هذه الرؤية انطلق سفيان رجب في رؤية مغايرة تبحث عن الجديد في البنية القصصية لا بوصفها موضة عابرة، بل ممارسة كتابية تواصل محاولاتها للتخلص من هيمنة السرد التقليدي، وسحب (وسادة الكسل) من تحت رأس المتلقي، وإشراكه في (كتاب قصصي) صدر عن دار زينب للطباعة والنشر عام 2020 كما جاء في الموجه القرائي. وحسب هذا الموجه فانه يفعّل الكتابة باتجاه إدراكه لروح المرحلة ووجدانها، منتظرا استجابة التوافق القرائي لرؤيته وأفكاره وانفتاحه على الحدس والتأمل بعد استفزاز وعيه، وبهذا تتحول الكتابة إلى أنموذج رمزي تخييلي، تتجسد ضرورته في التفرد والترابط في الآن نفسه. وهذا ما عبّر عنه في قوله ((التجريب هو جوهر العمل الفني الذي يبحث عن التفرد والتميّز، لكني أعتبر التجريب وسيلة لا غاية، عكس الكتاب التجريبيين، أبحث عن نقطة التقاء مع القارئ، وألعب على حيل المعنى، ألتقي مع الكتاب الكلاسيكيين في ممارسة سلطتهم على القارئ، وألتقي مع الكتاب التجريبيين في مراوغة القارئ وفتح مربعات للعبث داخل النص)) مبتعدا عن التحديد الزماني والمكاني حينا، ومقتربا من الزمان والمكان الكونيين حينا آخر، وهذا ما يمنحها بعدا إنسانيا أكثر شمولية وعمقا. مكانيا (الجنة، تونس، روسيا، باريس، موسكو، لوس انجلوس، هافانا، لندن، بيرو، برلين….وغيرها) وزمانيا (زمن الآلهة الأسطورية، زمن الموروث الإسلامي، الزمن الراهن). ومختزلا الأفق الإنساني عبر خلخلة المحمولات الدلالية، وزجنا في متاهاتها، وإعادة تركيبها، وقد وجهنا إلى ذلك في قصة (ملخص للصراعات البشرية):
((جاؤوا إلى إنسان أسير، فكّوا قيد يده، وربطوا عقله)). الكتاب القصصي: ص 90.
وعلى أساس ما تقدم فالوقت المخصص لقراءة مجموعة (أهل الكتاب الاحمر) كثيرا ما يغادر تقبل متعة النص على التلقائية والجاهزية التي يقدمها له المؤلف من خلال القص الحكائي التقليدي، ويغامر في دخول دائرة التفاعل والتشارك جراء القلق الذي يواجهه القارئ ، ففقدان الترابط والتسلسل يستدعي بالتأكيد جهدا إضافيا في تجميع الشتات، وفك الرموز وتركيبها، وملء الفراغات وغيرها. وهذا ما وجدناه في الكتاب القصصي الذي احتشد بالمفارقة والسخرية والتشظي والاشتغال على المغايرة التي اعتمدت تداخل الأزمنة والأمكنة في الواقع النصي وهو يقدم الأحداث المكثفة بأساليب وكيفيات جديدة عملت على تخليصه من السرد الحكائي المنظم، فبدلا من تقديمه لنا سردا قصصيا، تركنا نعيش قصة السرد ونختبرها. ونختبر وحدات القص وهي توجه فعله إلى متكآت محايدة أو مجاورة تعمل على تشييد بنية مغايرة. توظف آليات ما بعد الحداثة في تعميق الفرادة في التشكيل، والمعرفية في التدليل، عبر استلطاف تفاصيلها الشائكة والكثيرة، ضمن حساسية جمالية تنحاز إلى النصوصية، في نسق حكائي يندرج ضمن خطاب مفتوح على التجربة الإنسانية. والسخرية في هذا الكتاب القصصي من المهيمنات الرئيسة التي تعاضدت مع الواقع السحري من أجل تقديم قص مختلف. وقد جاء توظيف السخرية لضرورة كتابية اقتضتها المضامين المتنوعة، فضلا عن تشكيلها جزءا من شخصيته المعيشة: ((بطبيعتي كائن ساخر في الحياة، وكتاباتي بعض مني إن لم تكن صورا مبعثرة مني، لذلك فالسخرية هي أصل وجوهر في كتاباتي وليست مجرد تكنيك فني، الكثير من الكتاب يتسترون بالسخرية لغايات فنية ورؤيوية، أما أنا فأرى الوجود في أصله شكلا من أشكال السخرية))
إن التحولات التي فرضتها المتغيرات الجديدة على الواقع التونسي هي التي جعلت القاص يدخل مأزقه الخاص ويتغرب عن عصره منشغلاً بالأساطير، والموروث الحكائي، والتاريخي، والديني، مما أدى إلى تشكيل نماذج قصصية مبتكرة وجديدة على القص العربي، وقد اتجه إلى القص بوصفه نصا معرفيا احتشدت فيه الأسطورة والتاريخ والسياسة والأدب، فابتعد عن الحكاية بنيةً واقترب منها موضوعا. ووظف الطقوس الأسطورية مسارا رمزيا حاول فيه مغادرة الأطر التقليدية، إذ استطاع القاص بهذا التوظيف خلق رموز تتجاوز مقصديتها الذاتية، لابتكار دلالات تتسع مدلولاتها في ترهين الموضوعة وتحديثها، وذلك بواسطة الربط بين ماضي الحكايات ووقائع الحاضر، معتمدا على تقنيات جديدة عبرت عن وعيه بالكتابة والتجريب الفني، فعملت الأسطرة والتناصية على تعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه بواسطة تقنيات مكنته من قول ما يريد، لاسيما اشتغاله على الأسطرة والأرخنة بشكل مكثف وواضح، أي اختراق الأسطورة والتاريخ من جميع جوانبهما (أزمنة وأمكنة وإحداثا، ومعرفة متراكمة، أسسا وأسبابا ونتائج).
على أية حال، نتساءل الآن: ما جماليات التحولات النوعية في مجموعة (أهل الكتاب الأحمر) وهي تشكّل وعيها القصصي المختلف عن غيره من القصص القصيرة؟ من المؤكد أن هذه القراءة لا تجيب مباشرة على سؤالنا المطروح، وإنما ستتمظهر إجابته ضمنيا تنظيرا وإجراء، إجابة تؤكد على أن ((كل نص، وكل بنية، وكل ابتكار، إن لم يقدنا إلى ذائقة مضافة بالضرورة سيخلف إشكالية تخص الحاضر.. فالبعد الجمالي – الروحي كحل دينامي للمثقف يقف كمشروع مغيّر للإبداع من الداخل، دون أن يفقد ذلك المغزى القائل بان الأشكال ذاتها تمتلك قدرة إجراء تعديلات على المضمون. فالحل الجمالي – الروحي بهذا الاتساع يأخذ العملية الإبداعية مأخذ الجد ، كمصير يخص النص، وبعد ذلك، لا ينفصل عن الكينونة الداخلية للمتلقي)).
قبل مقاربة المتن لا بد من المرور على العتبات النصية، ولن نتناولها بالتفصيل، فقد كتب كثيرون ممن تناولوا هذا الكتاب عن العنوان وربطه بالغلاف وما جاء في المقدمة، وعلى الرغم من أن لكل ناقد رؤيته التي تميّزه، لكني سأدع العنوان جانبا، واكتفي بما كتب على الغلاف الخارجي والبيان القصصي:
((بعد أن التهمت حواء التفاحة، وتجشأت، وجد الندم فرصة ليظهر لآدم، ويستعرض أمامه قدراته العجيبة، إذ كان بإمكانه أن يأكل أصابعه العجيبة ولا ينقص منها شيء، مفارقة عجيبة حاول أن يحاكيها آدم، ونجح في ذلك بامتياز، نسي آدم حكاية طرده من الفردوس، وانشغل بأكل أصابعه، وحرص على نقل تلك العادة إلى ذريته)). ص 40.
ولأن القاص التجريبي الذي يسعى إلى الاختلاف عن الآخرين من جهة، والاختلاف عن نفسه من جهة أخرى، ((لابد أن ينطلق من وعي مركب بحقيقة ما يرفض وما يضيف، فهو يعرف أين (يخرق) وأين (يصل) دليله، ووعي بموضع (الشرخ) حيث الجانب الميت أو الراكد الذي ينبغي اختراقه رفضا وهدما، ووعي بموضع (الوصل) حيث الإضافة المقترحة إلى التيار بما يجعله أكثر نضارة وديمومة وخصوبة)). وقد حقق له ذلك تناول الإنسان في بعده الوجودي والثقافي والسياسي والاجتماعي عبر تأثيث تناصي تضمن الأسطورة والتاريخ والدين، وأنسنة المجردات والمحسوسات والحيوانات، في إشارات واضحة إلى هشاشة النفس الإنسانية، والانجرار وراء طغيانها وعبثها بأرواح الناس، كما في قصة (سرد أحمر) على سبيل المثال لا الحصر:
((ثمة مشرط نظّفته أصابع ما من الدم الذي كان يلطخه.
ثمة قلب لا يزال ينبض رغم أنّه نُقل إلى جسد آخر)). الكتاب: ص 92.
في هذه العتبة النصية التي استقاها من قصة (أصابع آدم) يسعى القاص إلى إحداث خلخلة في الفضاء الدلالي. وتوريط القارئ في إيجاد علاقة بين الحدث الأول (أكل التفاحة) والحدث الثاني (أكل الأصابع) وتأويل دوافعهما وأسبابهما. وإذا كان الأول في الموروث الديني خطيئة حدثت في السماء، فإن الثاني خطيئة حدثت على الأرض، عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى من فوضى لحدثين غير مترابطين في شكل منصص. يوظفه القاص ويحفزه على إعادة ترتيب الحكايات على أسس منطقية أو نفسية وإعادة تنصيصها من جديد. أي توريط القارئ في البحث عن تكملة النص المبتور أو المضمر مدفوعا بالحاجة إلى التواصل القسري إن جاز التعبير. فعلى القارئ أن يجد العلاقة بين الحدثين، وماذا يمثل كل حدث، وما الذي يوحّدها، وما الذي يوحّد الدلالة فيهما.
أما (البيان القصصي) الذي عنونه بـ(اتبعيني يا بقرتي، فأنا شخص نباتي) فقد حدد القاص فيه الزمن الذي يسرد فيه حشدا من (المتلازمات) ويصفه بقرن الأمراض النفسية، بعد خروج الإنسان من قرن (المركز) إلى قرن (الهامش)، محرّضا على (السخرية) ثم يبدأ بسرد المتلازمات، متجاوزا المحظورات التي شكلت تلك الأمراض. وفي كل متلازمة يعرّي الواقع عبر قول المسكوت عنه، ويفضح ممارساته اللاإنسانية سواء في الوصول إلى الدلالة المقصودة أو التدليل العائم في فضاء كل قراءة. فالمسكوت عنه في المتلازمة الأولى يتعلق بالـ(عنعنة) و(النقل) بدل (العقل)، وسواء جاورتها متلازمة المسيح المخلّص، أو الخليفة السادس، أو المدينة الموعودة، فإن ظهور (المهدي) لن يتحقق إلا بعد تفشي الظلم والجور والقتل بشكل غير طبيعي. وهنا يكشف القاص عن مدى الجهل المتفشي بين البلهاء والسذج، ويسخر منهم بطريقته المعهودة في كتاباته. ثم تتوالى المتلازمات (متلازمة تشي غيفارا) و (باتمان) و (جلال الدين الرومي) و (دونالد ترامب) و (شارلي شابلن) و ( فان غوغ) و (بوكوفسكي) و (فرويد) و (نيتشة). وكل متلازمة لها خصوصيتها في الافتراق، وعموميتها في الالتقاء.
إن هذا النوع من البيانات غير التقليدية حاكى فيه القاص الديني والتاريخي والثقافي، وشكلهم في النهاية برؤية تهدف في الأساس إلى الانتقاد من جهة، وتقويض النسقي من جهة ثانية. فبدلا من محاولة خلق نظام، فإن أدب ما بعد الحداثة يطبق فوضى الوجود المعاصر على أشكاله ويسعى إلى تفكيك اتفاقيات القصة القصيرة وبناء نص يعتمد المغامرة والاقتحام. وعلى هذا الأساس يفقد النص القصصي استقراره وثبوتيته في عالم الكتابة والقراءة معا؛ لأن القراءة ليست هروبا من عالم فوضوي لا معنى له، إنما إدخال في عالم آخر من الفوضى. انه يعرض على القارئ الذي يخاف من هذه الحياة، طريقة ليعيد رؤيتها كلها من جديد، أسلوب جديد في قراءة العالم.
ويصدّر القاص (الكتاب) بمفارقة اعتمد فيها على قول كارل غوستاف يونغ: (أرني إنسانا واحدا سليم العقل، وأنا سأعالجه) . ثم ندخل فضاء القص في أول تشكيل قصصي بعنوان (تخطيط مغناطيسي لحواء) إذ يتعالق فيه التخيّل مع الأسطوري ، فهو يعرض وقائع اسطورية مشاكسة وفنتازية وهي تتسلل ببطء إلى النص، وتنتزع الاعتراف الثقافي القار بوصفها ظواهر ذات دلالة، وتمنحها بعدا دلاليا جديدا، ويعمل على عرض هشاشة الوجود الإنساني والعشوائية والمفارقة في مواجهة الخلود والسيطرة والعقلانية، ويمكننا أن نلمس هذه الثنائيات متصارعة أو متوافقة في قصصه بوضوح. ومن أهم التحولات المتمظهرة بوضوح في هذا الكتاب القصصي، هو إعادة اكتشاف الأسطورة بوصفها موقفا قابلا للتطبيق في الحاضر من أجل التخفي وراء إيحاءاتها المتعددة، أو من أجل تبعيد الحدث، والاشتغال في مأمن من أي سلطة مهما كان نوعها. ولأن سفيان لا يتناول الأسطورة بوصفها ممارسة كتابية تميل إلى التقديس، فإنه يعيد تجزئتها في شكل جمالي بديل بتضميناتها التي تتعالق مع الواقع في صياغة أدبية، تكتنز نزوعها الجمالي والإبداعي، ولا يدعها في منطقة تمارس وجودا قائما، بل ينقلها إلى منطقة اللعب في حيّز الممكن، فأبولو يصبح زهرة عباد الشمس، وأثينا تعاني من الزهايمر، وارتميس يتخيل نفسه طريدة، وأفروديت أصبحت قبيحة، ودونسيوس اغتم بعد ارتفاع أسعار الخمور، وزيوس طغت أصوات الحروب على أصوات بروقه، وبعل حمون تحوّل رأسه إلى غيمة فارغة، وتانيت انقطعت عنها العادة الشهرية، وأيروس أدمن العادة السرية، وعشتار تعاني من المسالك البولية، أمون أصبح بقرة، وهيدس وهيرا ونيبتون وجايا وكاوس وآبيس وأتوم وأوزيريس وغيرهم من الآلهة أصيبوا بأمراض نفسية، وكل هؤلاء ينتظرون دورهم للدخول إلى عيادة كارل غوستاف يونغ لمعالجتهم من الامراض المتخيّلة والواقعة، ولكن يونغ تركهم وهو يتحدث إلى زوجين بشريين غريبين يفلسفان الوجود القريني إن جاز التعبير لكل منهما، ولكن بصورة معاكسة، ففي داخل المرأة رجل، وفي داخل الرجل إمرأة، ويتوالى هذا الوجود القريني مرة أخرى وهما يتحدثان عن أعماقهما، ولكن حين يرفع يونغ رأسه لا يجدهما، ويدخل عليه رجل بدائي:
(( -ما اسمك؟
آدم.
مم تعاني يا آدم؟
من الوحدة يا دكتور
ليس لديك زوجة وأطفال؟
ليس نساء في الأرض لأتزوج إحداهن، وأخلّف أطفالا)). ص 18.
وقتها أدرك يونغ أن حالة هذا الرجل أعمق من حالة الزوجين اللذين كان يعالجهما.
إن الأسطوري في كل حالاته يشتغل في منطقة الخيال المنطلق بعيدا عن تجاذبات المكان والزمان في إقامة بنية موازية للواقع ليست بديلة عنه داخل هذه البنية الموازية يعاد ترتيب العلاقات بين الشخوص وصياغتها صياغة مغايرة ، بما يكرس غربتها وعزلتها ويئد أحلامها لنقض آليات القهر الاجتماعي والنفسي، والاستسلام للعجز عن مواجهة الواقع لجعله وسيلة تقويض وبناء في الوقت نفسه ومن المؤكد في كل التحولات القصصية، لابد من وجود مغايرة يحدثها مجموعة من القصاصين لتشكل ظاهرة، تسعى إلى مغادرة القار، واقتحام أجواء تجريبية جديدة. ويعد هذا الكتاب القصصي مغايرا للبنى السردية التقليدية، فقد أسهمت نصوصه في ظاهرة التحول القصصي القصير. إذ تخلق ارتباطاتها الأسطورية عن طريق أحداثها وشخصياتها، بعد أن يحرر الأسطورة الأصلية من مرجعياتها، ويدخلها في نصه القصصي. ولم تكن تلك الأسماء الأسطورية مجرد رص من الكلمات، بقدر ما تترابط هذه الأسماء فيما بينها، لتشكل وحدة بنائية قصصية ، تعتمد على قدرة الإيحاء الانفعالية أكثر من اعتمادها على الحافز اللفظي المجرد، وبهذا تغادر الكلمة جمودها الانفعالي الرمزي إلى صيرورتها الترميزية.
وعند قراءتنا للنص الثاني المعنون بـ(تحليل نفسي لآدم) نجد أنفسنا أمام متوالية قصصية محدودة إن جاز التعبير، وهو يستمر القاص إلى توظيف الآلهة: (أبولو وأفروديت، وأيروس……وغيرها.) وفي مكتب الدكتور يونغ أيضا، وبمفارقة تجلت في غضب البشر على الآلهة، يصرخ يونغ: سكوت. فتصمت الآلهة جميعها وتتراجع إلى الوراء. لكن الإلهة (كاوس) تفضح المسكوت عنه وهي تقول:
(( -نعتذر منك دكتور يونغ لكن آهات النشوة التي كانت تخرج من مكتبك أثارت فضولنا.
قال الدكتور يونغ بلهجة صارمة:
-رجاء اخرجوا الآن، واقفلوا الأبواب وراءكم.
خرج الآلهة بصمت منكسة رؤوسها، وكان الدكتور يونغ يقول في سرّه: آلهة مريضة نفسيا وغير مؤدّبة.
نظر الدكتور يونغ إلى آدم وقال له:
-هل شفيت الآن من وحدتك؟.
-لكن يا دكتور كنت أحب زوجة وطفلين لا غير. وها أنت ترى مليارات من ذريتي تتناسل وتتعانق وتتطاعن بالخناجر والكلمات، ردّ لي وحدتي يا دكتور يونغ)). الكتاب: ص 19-20.
فالقاص هنا يرى أن المسلمات بحاجة إلى هزات من حين لآخر حتى لا تتحجر. فيغامر من أجل أن تكون الهزات وسيلتنا إلى فهم مغاير، لا أن تعود الأشياء بعد القلق إلى سالف عهدها. فهو يضع ثقته في قارئ يستطيع أن يفكك هذه النصوص ويعيد بناءها من جديد. وتتكرر الشخوص في هذا الكتاب القصصي لا سيما آدم وحواء وكارل غوستاف يونغ، كما في قصة (ابنة آدم تعاني من اضطرابات نفسية) مما حدا بنا إلى تصنيفها ضمن المتواليات القصصية المحدودة إن جاز التعبير. وتتكرر هذه المتوالية المحدودة في عدة قصص، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قصة (مسخ الآلهة) مع كارل غوستاف يونغ والآلهة.
ويستمر القاص في قلب الحقائق في قصته (اكتشاف كوكب جديد) فالضرير (خورخي بورخيس) يرى صورة الفهد الذي انقضّ على غزالة بعدسة المصور (نجيب محفوظ)، ولأن لا فريسة بدون دم، فبعد أن تأكد نجيب محفوظ من بلاهة وسذاجة بورخيس يتركه لينام:
((حين نام نجيب محفوظ أحسّ أنّه يغرق في قطرة دم عملاقة، وظلّ يحاول الخروج منها، ويتخبّط، بيديه، ويطلب النجدة برجاء، حتى انقطعت أنفاسه وامتلأ فمه دما)).ص 21.
إن التحولات الحادة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية قد أعادت التفكير بالثقافي لا سيما الأدبي، وتوظيفه وتشكيله في رؤى جديدة قادرة على استيعاب الأزمات والنكبات التي يمر بها الإنسان.
وفي قصة (الجنديّ الوحيد الذي لم يشارك في المذبحة) يتخفى القاص خلف التاريخي وأدوات سرده المختلفة، مراوحا بين الوصف والتعليق في نسق جديد يفضي في المحصلة إلى إلقاء تصوير طبيعة الطغاة المتناسلين منذ فجر السلالات وحتى اللحظة الراهنة، فيوظف معطيات الماضي التي وصلت إلينا نصوصا وآثارا وصورا لتفسير الحاضر وتقريبه:
((التقى الجيشان في سفح جبل أرارات، كان الأتراك مسلّحين بالبنادق والسيوف وكان الأرمن مسلّحين بالصبّر والرجاء للمسيح، لذلك فإنّ القتلى لا يحصى عددهم. مات الآلاف ذلك اليوم، وكانت الخسائر من الجانبين، آلاف من الأرمن ماتوا بطعنات الأتراك يومها، ومات تركيّ واحد اسمه ناظم حكمت. مات بعد سنوات من تلك الحادثة متأثرا بجراحه العميقة رغم أنّه كان يراقب الواقعة من بعيد، تحديدا كان ثقب التاريخ الرسميّ لتركيا الحديثة)). ص 23.
تعتمد هذه القصة القصيرة جدا على خلفية تاريخية محددة، وتعمل على انطلاق السرد مستفزا نكهة التاريخ، متناولا جوانب معينة، تتدرج إلى زوايا ما وراء القص التاريخي، لتهيمن الفوضى والغرائبية، ويتورط القارئ في فك الخيوط وإعادة الحبك وتأويل التضمينات؛ لأنه كما هو معروف يفترق الواقع القصصي (المتخيل) عن الواقع الخارجي (المرئي) ويهدف القاص من وراء هذا إلى ((تقديم رؤية للعالم الذي يعيش فيه من خلال خلق عالم كما يتصوره أو يتخيل أن يراه أو كما يراه وفق موقفه منه)). فالمعنى عند سفيان ليس وديعة أحداث تاريخية متعاقبة زمنيا، ولكنها وديعة تأويل القارئ. لأن ما يقوم به القاص هو إعادة تدوير الأحداث التاريخية، وصياغة الفكرة القائلة بأن الإدراك والفن هما إعادة خلق الواقع بصياغة مغايرة. فالتوتر في القصة ربما يعود إلى انتهاك تخوم العوالم المختلفة، أو حتى اختراق عالم ما من قبل عالم آخر. بهويات مختلفة تتداخل فيما بينها لتدلل على عدم يقينية الحواجز بين القص والتاريخ. ومن القصص التي اتخذت من المتخيل تاريخا لها قصة (عدالة الأدريين) إذ يصنع من الـ(أدري) والـ(لا أدري) تاريخا مرويا عبر الشخصيتين، إلى حد اقتناعنا بأن ما يرويه هو التاريخ ذاته. وتتكرر هذه الأرخنة المتخيّلة في قصة (ثلاثة أعياد أضحى في سنة) أيضا.
ويبدو عبر تتبع القص الذي ورد في الكتاب، أن سفيان رجب من الذين اهتموا بأسطرة الواقع، بعدما انعكست على الإنسان المتغيرات الحياتية، ووقع تحت هيمنة الهم الفردي، على الرغم من أن عزل الذاتي عن الموضوعي والاجتماعي، لا يخلو من التجني على تأثر الفرد بالمجتمع، فلا وجود لاستقلال ذهني ذاتي عن العلاقات الاجتماعية، فكلاهما مزدوجان وإن ظهرا بشكل منفرد. وقد تجلت هذه الأسطرة في قصة ( بنّاء الزوايا) التي اتسمت بالمواقف السحرية المدهشة، والمضامين الرومانسية الآسرة، وكيف تحوّل فيها رجل عادي إلى اسطورة عبر حكاياته المعجونة بالأساطير: رفضه الزواج من (لويزة) ابنة البناء المالطي الوحيدة؛ إكراما له على تخليصها من عصابة احتجزتها في كوخ بعيد، فعوّضه المالطي طاقم أسنان من ذهب. ورفضه لابنة أحد شيوخ الجوامع التي أسهم في بنائها، علاقته مع الحمام، ومع المجنونة، ثم موته، وترك طاقم أسنانه لتلك المجنونة التي أوصاها ببيعه، وشراء طعام للحمام:
((- من أين لك هذا يا خالة؟
-هذا تركه لي المرحوم “ابتسامة الذّهب” وأوصاني أن أبيعه وأشتري به ذرة وقمحا للحمام الذي يسكن صومعة الجامع)). الكتاب: ص 33.
والقاص هنا لا يعتمد على نقل الواقع، بل يصنع واقعا نصيا يعرّي فيه الأزمات الإنسانية، ويكشف التناقضات العميقة التي تشكل هذه الأزمات في جدلية الحضور/ الغياب لكل الأشياء المتناقضة (الخير/ الشر، الحب/ الكره، التواصل/ القطيعة….. وغيرها). ويحدث كل هذا عبر التجريب في القص المغاير الذي اعتمد على تحطيم القداسة الاجناسية، التجريب الذي يطمح إلى تحقيق تواصل قرائي مغاير، يتتبع الرؤية الحديثة في القص، لكشف الراهن وإضفاء جمالية معينة على النص. وكل ذلك قد تم عبر تهشيم الاتفاقيات السردية المتعارف عليها، والتحول إلى نوع قصصي جديد.
وفي قصة (مدينة الصراصير الحمراء) يتخذ القاص من المفارقة مهيمنا نصيا أيضا، فهذا الصرصور الذي يتميزز بالخوف والهلع يصبح مجرما وقاتلا وخالقا حركة اقتصادية ثقافية في المدينة، وعلى الرغم من مطاردة الشرطة له لم تتمكن من القبض عليه. اهتم به الروائيون والصحفيون والرسامون، وبعد أن ألقى القبض عليه حارس إحدى العمارات، وجدوا الحارس مقتولا:
((بعد ليلة وجد حارس العمارة الذي ألقى القبض على الصرصور الأحمر مقتولا وقد كان جسده ممزقا بآلاف الطعنات، وفي صدره آلاف من الصراصير الميّتة)). ص 27.
وإذا كان اللعب الترميزي في هذه القصة قد أدى دورا فاعلا في توصيل الدلالة، فإنه يتكرر في قصة (الحب المستحيل) ايضا، ويؤدي الفاعلية ذاتها. ويعاضد كل العجائبي والغرائبي والفنتازي والسحري ذلك اللعب في تأدية الفاعلية ذاتها في كثير من النصوص، إذ تشكل تلك التقانات دهشة وإثارة تتجليان في تجاوز الإطار التقليدي في القص، والانفتاح على تشكيلات متعددة منه، فهي من أبرز التقنيات الجديدة في التعبير، لأن توظيفها يشكل اختلاًقا في تأثيث بنى قصصية جديدة؛ للتعبير عن رؤية مغايرة تقدم تحوًلا في العلائق. كما جاء في قصة (الواقعية الاشتراكية):
((وجاء بعده رجل وادّعى أنه بقي أياما في بطن ديناصور. وجاء رجل مدعيا أنه يلقي بندقية الكلاشنكوف فتتحوّل تمساحا. وجاء رجل آخر وادعى أنه بإمكانه أن يتفسّح في حريق وهو يحتسي قارورة كوكا كولا)). الكتاب: ص 28.
وقد تكررت هذه الألعاب الترميزية في كثير من قصص المجموعة كما في قصة (العائلة البيضاء) على سبيل المثال لا الحصر، كما جاء كثير من القصص في واقعيتها السحرية بما فيها من فنتازيا وغرائبية وعجائبية كما في قصة (كاتب أفلام رعب):
((هو عادة يكتب بلعابي الذي يسيل الى وسادتي الزرقاء والتي بدأت تتحوّل إلى البنفسجي الغامق بفعل العرق والوسخ واللعاب السائل)). ص 38.
ويتكرر هذا التوظيف في قصة (تنويم مغناطيسي لقابيل) وكيف يقلب فيها الحقائق عبر انتقالات زمنية شاسعة وعلامات شخوصية واقعية (قابيل، ورقة بن نوفل، عراف بابلي، رولان بارت، كارل غوستاف يونغ). وفي قصة (نداء العظام) يتكرر التوظيف ذاته، فالرجل الذي يعيش وحدته بقسوة ومرارة شديدتين، يحاول أن يصنع له امرأة من وسخ النساء على شكل هيكل عظمي، يكلمها ويسهر معها، لكن ابنته التي تبناها يوما ما تأخذ هذا الهيكل العظمي لمختبر التشريح بوصفها طبيبة، فينتفض بحرقة قوية ويخاطب ابنته بعد أن ترجّته أن يكف عن البكاء على أمها كما كانت تظن:
((- تريدون أن أظلّ وحيدا. ماذا فعلت لكم يا أولاد الكلب؟ هل اعترضت أنا على زواجك من حبيبك الدكتور؟. تحسدونني حتى على امرأة خلقتها من وسخ النساء؟. حاولي أن تفهميني أنت)) الكتاب: ص 49.
وتشابهها قصة (الفترينة) من حيث أنسنة الجمادات، والتعامل مع تلك الدمية بوصفها امرأة ذات لحم ودم. وقصة (قارورة ماجون) من حيث الاشتغال التقاني ذاته مع الاختلاف في التموضع الصوري لكل من المرأتين. كما تتكرر تمظهرات الفضح السياسي والاجتماعي للواقع العربي ولا سيما التونسي بعد الخريف العربي الذي قلب كثيرا من الموازيين التي كانت تعمل على استقرار الوضع في بلاده. كما جاء في قصتي (ببغاء وقح وصادق) و (الرواية الدادائية) :
((-حبيبتي حوّاء سنلتقي في تونس.
-لكن لم لا نلتقي في برلين؟
-يا ابنة الذين… هل رأيت شابّا يقتل أخاه لأجل فتاة في ألمانيا؟. قلت لك اذهبي إلى تونس.
-عمّ تتحدّث حبيبي آدم؟
وانقطعت المكالمة بين آدم وحوّاء)). ص 30.
وتماثلها قصة (الحرام كذلك هو ابن الحلال) في السفر إلى تونس، والموت هناك.
ويستمر القاص في اللعب على الشكل والمضمون عبر تقويض مسلمات القصة التقليدية، وقلب الدلالات للوصول إلى المقصدية التي لا يمكننا الوقوف عندها فحسب، وإنما تجاوزها إلى فضاء التدليل كما في قصة (لو عبست البقرة التي تضحك؟) والمفارقات التي احتشدت فيها، فضلا عن السخرية من الواقع العالمي والديمقراطية المزيفة، وسيطرة الدول الكبرى على الدول العربية والافريقية وحلبها كما تحلب الأبقار، بسبب وضعها الانبطاحي أمام تلك الدول. كما يوظف اللعب الترميزي الذي يصل إلى حد الإدهاش عبر الشخوص الحيوانية:
((التفت ثور البيسون وسأل بقرة هولندية كانت تجترّ جنبه، وتستمع بانتباه إلى كلمة الأمين العام:
-ما لون حليبنا سيّدتي؟
-الحقيقة لا انتبه إلى هذه التفاصيل فأمثالنا يتمّ حلبها بماكينات مصّاصة. يمكنك أن تسأل بقرة عربيّة أو افريقيّة فأمثالهنّ يتم حلبهنّ يدويّا)). ص 43.
ونستنتج من كل ما تقدم أن القاص سفيان رجب قد اعتمد في كتابه القصصي (أهل الكتاب الأحمر) على التجريب في التحولات التشكيلية والدلالية عبر تجاوز ما هو سائد، والانحياز إلى ما هو مغاير، متخذا من التوظيف الأسطوري والأسطرة، والتوظيف التاريخي والأرخنة، والمفارقة والواقع السحري بغرائبيته وعجائبيته، والسخرية، متكآت استطاع عبرها خلق قطيعة نصية مع المنمط والتقليدي، فضلا عن خلق محفزات لتفكيك الوعي الجمعي، وبنائه مرة أخرى، بلغة قصصية سلسة وشفافة، بعيدة عن التعقيد والاصطناع. وقد وجدناه متفردا في أسلوبه القصصي، متمردا على المسلمات والعقائد والأعراف القارة، وصانعا ماهرا لبدايات قصصه ونهاياتها، وهذا ما دعا الكاتب حسونة المصباحي إلى اقتباس قول للكاتب الأمريكي اللاتيني ادواردو غالينو في وصف سفيان رجب ((يكتب مثل لاعب كرة القدم الذي يمرر طوال القصة الكلمات كالكرة لكي ينهي عمله بهدف جميل)).
وفي ختام المقاربة نقول: للأمانة العلمية قد تجاوزنا في هذه القراءة كثيرا من المهيمنات دون تناولها، منها: المتوالية القصصية والتوسع فيها، اللحظات المدهشة التي ينهي بها القصة، الشخوص الحيوانية (البقر، الخنازير، الحمام، النمل، القرود….. وغيرها). والسبب يعود إلى أن كل مهيمن يحتاج إلى دراسة مستقلة بذاتها.