من كتابي النقدي الثاني بعنوان “أدب الحرب و الثورات العربي الراهن”
تحت عنوان: حكاية، و علامات، و سؤال كتابة.
1 ـ حيثيات منهجية:
“بشرى” عمل روائي أدبي؛ هكذا قدّمته مُؤلِّفته للمتلقّي العربي. لكن لقارئ زمن الرواية في تسلسل أحداثها عبر صيرورتها الكرونولوجية، وللعارف بتاريخ لبنان المعاصر من بداية سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، قد تتراءى له بوادر تسمية هذه الرواية ب “كتاب الخمسينية” بامتياز رغم كل ما قد نقوله عن هيمنة الخيال (وهو من صميم الإبداع الأدبي) على اختيار الفضاء الروائي، والشخصيات، و الأحداث. قد نقرأ رواية “بشرى” كرواية تاريخية تؤرخ أدبيا لمحطة من تاريخ لبنان (الحرب الأهلية بداية سنة 1975)، كما قرأنا رواية “الحرب و السلم” لتولستوي، لكن الروائية لمّحت في أكثر من موضع من روايتها بأن مقاربة الواقع المعني بالأحداث تتجاوز منهجيا القراءة الأدبية الصرفة من حيث تحليل الخطاب لغويا و بلاغيا؛ الذات الساردة بضمير المتكلم “أنا” مدرسة و طالبة جامعية تخصص علوم سياسية و إدارية، مثلها مثل شخصية “بشرى” المتصدرة لعنوان الرواية، إضافة لشخصية “سامي” كبطل محوري و هو طالب تخصص فلسفة (رغم انخراطه في المدرسة الحربية)، و شخصية “فارس” تخصص “أدب عربي” و يتابع دراسته بكلية الحقوق… على سبيل المثال لا الحصر، معطيات توحي للقارئ أن “تعدد الأصوات” في الرواية من وجهات نظر مختلفة يروم ربما دعوة من الكاتبة (وهي أستاذة متخصصة في علم الاجتماع) إلى نظرة مجهرية من القارئ المتخصص، تستحضر عدة مقاربات غير المقاربة التاريخية؛ من بينها: المقاربة الأدبية، و المقاربة السيميولوجية، و مقاربة علم الاجتماع السياسي، و المقاربة الابستمولوجية… لِكلِّ مقاربة مرجعياتها و قاموسها و أهل التخصص فيها. لذا اخترتُ أن تكون هذه القراءة منهجيا على شكل “تعليق مُرَكّب”(Commentaire composé) يُسائل أوْجُها (و لو بالمختصر الشديد لضيق الحيّز) من هذا الخطاب المتعدد التمثلات و القناعات و التجليات.
2 ـ مقاربة الرواية:
2 ـ 1 ـ الحكاية:
كما أسلفت الذكر، كتاب “بشرى” عمل أدبي ينتمي لجنس الرواية. و منْ تستهويه “متعة القراءة” لتذوّق بديع الحرف، و جمالية الصورة، و تشابك الأفكار، و جموح الوجدان، و سلطة الحبكة، و رائحة الأمكنة، و انفعالات الشخصيات، و تدافع الأحداث الدرامية، سيجد في رواية “بشرى” ضالته. تحت سماء لبنان، بداية سبعينيات القرن الماضي، في مركز العاصمة بيروت (بكل ما لبيروت من دلالات في المخيال العربي و الكوني كعاصمة، و كمدينة، و كمركز إشعاعي ثقافي و علمي و فني و حضاري و سياحي دولي…)، و على بعد كيلومترات منها في قرى شبه “كرتونية” (كفضاءات روائية) مثل قرى “الدال” و “الدّوارة” و “ستّار” و غيرها، نعيش الأحداث مع “بشرى”، و “سليم”، و “سلمى”، و “رواد”، و”ستار”، و “سامية”، و البطلة/ الذات الساردة “لينا”، و أقاربهم، و ذويهم، و معارفهم؛ شباب في قلب متاهة ظرفية تاريخية و سياسية و اجتماعية عاشها لبنان بداية من سنة 1995، (الحرب الأهلية)، و لا زال يعيشها لليوم بإيقاعات مختلفة و متقاربة. قصص حب كما في الأفلام الرومانسية تصطدم بواقع يجهض أحلامها، تتحكم فيه أعراف الكنيسة و العشيرة و القبيلة و الطائفة و الحزب. و طموح شباب جامعيين يُنتَظَرُ منهم هندسة و بناء مستقبل لبنان وسط تطاحنات و صراعات سياسية و قبلية و دينية و طائفية و مذهبية. شباب يعيشون جحيما يوميا اسمه الحرب: حرب داخل مؤسسات منوط بها ضمان استقرار البلد و ازدهاره و رفاهيته؛ مؤسسات مثل الأسرة، و الكنيسة، و الجامع، و البيعة، و المدرسة، و الجامعة، و الجيش، و الحكومة… مؤسسات فقدت كليا أو نسبيا أهليتها بسبب الصراع على المواقع و الامتيازات و السلطة و إكراهات تقاليد و عادات بالية عقيمة.
2 ـ 2 ـ علامات:
أ ـ شجرة الزيتون:
قد يتساءل قارئ رواية “بشرى” لماذا خصصت الكاتبة صفحات عدة في القسم الأول من الرواية لطقوس جني فاكهة الزيتون؟ دراسة سيميولوجية لدلالات “شجرة الزيتون” من خلفيات دينية و اجتماعية و اقتصادية و ثقافية في كل بلاد الشام، و في لبنان خاصة كما جاء في رواية “بشرى” تحيل على حقيقة بديهية كما المسَلّمات؛ انه في كذا موسم فلاحي تترجم طقوس جني الزيتون مبدأ التعدد داخل الوحدة؛ تعددية من حيث الانتماء الطبقي، و الديني المذهبي و الطائفي، و الحزبي السياسي، و الإيديولوجي إلخ.. تعدد داخل وحدة اسمها البلد الواحد: لبنان. و كأن هذه الشجرة “المباركة” في الكتب السماوية ترمز للأرض باعتبارها أمّا للجميع.
نقرأ: “تكاد القرية تخلو من ناسها في هذا الموسم المبارك و من لا يستطيعون أن يشاركوا في القطاف تحسروا على ضياع العمر (ص. 18) (…) ـ الإنسان عندما يموت لا يأخذ معه إلا نقطة الزيت التي يمشحه بها الكاهن… عبارة يرددها الكبار في الكثير من المناسبات وهم يتحدثون عن شجرة الزيتون” (ص. 19).
ب ـ زهرة “حلق المحبوب”:
إن كانت شجرة الزيتون ترمز للمحبة و التضامن و السلم، ف زهرة “حلق المحبوب” علامة فارقة في رواية “بشرى”؛ لما اختارت الكاتبة تخصيص فقرة لها، ربما أرادت اختزال عواطف الشباب و علاقاتهم الغرامية المتذبذبة (علاقة “سامي” ب “بشرى” و “سلمى، و علاقة “لينا” ب “فارس” و ب “رواد”) من خلال مدلولات هذه الزهرة التي تجعل من هذه النبتة عنوانا للجمال بألوانها و بأشكالها، كما وسيلة خرافية للخيانة و الخداع و الانتقام، أو لاتقاء شر أو مكروه، و كأن الحرب الأهلية كان لها وقعها السيكولوجي السلبي على مشاعر الشباب الذين كانوا يعيشون حالة عدم الاستقرار و الخوف من المجهول: نقرأ:
“نتذكر أسماء الأزهار في قريتنا، و لا سيما “حلق المحبوب” النبتة البرية التي تتدلى منها صيفا بلوطة خضراء، و قد علقت النبتة بجذع صغير و معقوف، حيث كنا نقطفها و نضع الجذع وراء أذنينا لتتدلى البلوطة و كأنها حلقة في أذن، من غير أن ننسى ما كنا نفعله بهذا الحلق، إذ نعصره بشدة و قد وجهنا فتحته بعد نزعنا الجذع، في وجه من أغاظنا لنرشّ عليه بزراً أخضر لزجاً، مُرّا، و مقرفا، أهكذا يكون المحبوب؟” (ص. 66 و 67).
ج ـ بيروت:
تتجاوز بيروت كفضاء لرواية “بشرى” وظيفتها كحاضرة حاضنة للشباب الوافدين إليها من مختلف القرى و الأرياف للتحصيل الدراسي و العلمي و الشغل، هي بالنسبة للكثيرين ملجأ و ملاذ للفارين من الحرب، أو من استبداد الأعراف و التقاليد البالية؛ هي بالنسبة ل “فارس” مثلا: منفى اختياري يقيه شر احتمال تعرضه للتعذيب أو القتل في قريته “الدوارة”؛ نقرأ في حوار بين “لينا” و “فارس”:
“ـ لا أستطيع أن أبقى هكذا، أشعر بأن وجودي مهدد. إن الأحداث تطوقنا من كل مكان فلا نكاد نصحو إلا على واقع أقسى من الكوابيس، و ماذا أفعل، و بالأمس حُرقت قرية و وقعت مذبحة في أخرى…
ـ و لكن الحرب أيضا في بيروت؟
ـ هذه ليست بالحرب، إنها غرائز فالتة، فمن لم يقتتل لأسباب طائفية أوجد أسبابا حزبية أو عقائدية أو شخصية أو جغرافية أو تاريخية للجريمة.
ـ و ماذا ستجني من بيروت بما أن الغرائز “فالتة” في كل مكان؟
ـ في بيروت هناك العمل أيضا، و من بيروت هناك الباب الواسع للهجرة… أعذريني لينا فقط أنا محبط، فإما أن أبقى هنا و أجترّ ما يحدث لأجن، و إما أن أهرب…” (ص. 93 و 94).
أما بالنسبة ل”لينا”، فَلِ”بيروت” من وجهة نظر أهلها وظيفة أخرى لا تقل دلالة كمهْرَب من تصوّر “فارس”؛ نقرأ:
“روحي يا بنتي و كوني شاطرة، خلي فارس يأخذ بيت ببيروت و الله يهنيك، يا بنتي هناك في بيروت أنت مثلك مثل غيرك، و لكن لا سمح الله، إذا أحدهم، و قد يكون من تلاميذك، خطفك أو تعدى عليك هنا فأبوك سوف يموت و أخوتك سوف يضعون رؤوسهم في الأرض…” (ص. 98).
2 ـ 3 ـ سؤال الكتابة:
سؤال الكتابة في رواية “بشرى” لا يهدف إلى دغدغة حواس المُتلقّي بجمالية حرف و أسلوب و صورة، رغم كل هذا الفيض الابداعي الجميل و الهادف الذي يجعل القارئ لا يكاد ينهي السطر و هو يترقب الآتي في السطر الموالي بمتعة؛ سؤال الكتابة في هذه الرواية “إبيستيمولوجي” بامتياز يعتمد المرجعية الفلسفية عامة، و مرجعية “علم الاجتماع السياسي خاصة (الكاتبة متخصصة أصلا في علم الاجتماع). سؤال نقدي ثائر يعيد النظر في نشأة و وظيفة “المؤسسة” بمفهوم علم الاجتماع، و العلوم السياسية:
أ ـ مؤسسة الأسرة و الزواج: بين إكراهات التقاليد و إرادة تحقيق الذات بالثورة على المتوارث العتيق:
نقرأ: “أولئك النساء، نساء البيوت، يعرفن و من غير كثير من الفلسفة، أنهن ربات بيوت و أرباب الرجل (…) أولئك النساء، نساء البيوت، قادرات على جلب الرجل، و إنجاب الرجال وقد توازنّ بذلك منذ دهور…” (ص. 60).
و تعلق “لينا”؛ نقرأ: “لا أكذب عليكم، إني في تلك اللحظة كنت قد نسيت كل ما كنت قد سمعته و حفظته عن شرف “البنت” إظهارا لعفتها يوم الزواج، أو عن جملة أمور تجعل الشاب عندنا “يضحك” على البنت التي تستسلم له، أو عن التي تتزوج و هي امرأة لتحمل خطيئتها و تتناسل بها، لقد فرغ رأسي حتى أحسست بأن عليّ الاختيار بين الانتصار لذاتي و زواجي الآن من فارس، أو الانهزام أمام هذه الذات و الهروب سريعا إلى بيت أهلي…” (ص. 96)
ب ـ مؤسسة التربية و التعليم (الجامعة):
الدراسات العليا بالعاصمة بيروت بالنسبة للطلاب المنحدرين من أوساط ريفية قروية كما “بشرى”، و “سليم”، و “لينا”، و “رواد” و غيرهم هي بمثابة “مهرب” (كما عبّر عن ذلك “فارس”) أو ملاذ، أو جسر ليس فقط للتحصيل الأكاديمي و العلمي و المعرفي فحسب، بل أيضا لتحقيق الذات بعيدا “طابوهات” العشيرة أو القبيلة أو الطائفة في العالم القروي. لكن كل حسب منظوره الشخصي. فبينما ترى بعض شخصيات الرواية من الطلاب مثل “فارس” بأن المواظبة على ارتياد الجامعة بشكل يومي “مضيعة للوقت”، و ترى “بشرى” و غيرها بأن الجامعة للتحصيل الدراسي فقط، هناك الكثير من الطلاب الذين ينقلون الصراعات السياسية (الحزبية)، و الإيديولوجية، و الدينية، و المذهبية إلى حرم الجامعة، و كأن هذه المؤسسة صورة مصغرة تختزل ما يحدث في كل أرجاء الوطن؛ صراعات صورتها الذات الساردة في الرواية بشكل كاريكاتوري؛ نقرأ: “حركة غريبة أحسستها في حرم الجامعة و هم يتحدثون عن المظاهرات طورا و عن الانتخابات الطلابية تارة (…)
ـ يصلون إلى الجامعة من قرب بيوتهم، و لا يهمهم إن تعلموا أم لا؟ المشكلة لا في الطبقات و صراعها و إنما في المركز و الأطراف و أدوارهما (ص. 88) (…)
و قد علق “فارس” بنبرة أكثر تهكما لما قال ل “لينا” واصفا حالة الصراعات في الجامعة قائلا: “أصحابي من كل الألوان و الأشكال، من المدن و من الأرياف، من اليمين و من اليسار، من الإسلام و من المسيحية و هم يختلفون كثيرا و يرفعون أصواتهم غالبا و لكنهم يتفقون في ثلاث: ـ لعب الورق، و كأس العرق، و الحلو… الحلو (المرأة الحلوة) إذا مرق…” (ص. 92).
و تبقى الجامعة كمؤسسة في نظر “لينا” الذات الساردة الرئيسة (التي تنوب غالبا عن الكاتبة بآرائها): “في الجامعة تكون الصداقات متطرفة، فهي إما سطحية جدا، أو عميقة جدا، أي أنها محددة الأبعاد و واعية الاختيار، و قد تمر حياتك الجامعية، فلا يبقى لك إلا شهاداتك…” (ص. 62).
ج ـ مؤسسة الكنيسة: حامية أم محميّة؟
سر اختيار الكنيسة بدل مؤسسة دينية أخرى يعود إلى كون جل أبطال رواية “بشرى” مسيحيين. و رغم تأثر الشخصيات الجامعية منها بمختلف الأفكار و الإيديولوجيات، فهم في قراهم، و داخل أسرهم يعيشون تحت سلطة وصاية الكنيسة بإحياء كل طقوسها في الأفراح و الأحزان. و لم نلاحظ عبر ربوع الرواية اختلافا كبيرا بين سلطة الجامع (الإسلامي) و سلطة الكنيسة (المسيحية) في العديد من أمورالتدبير اليومي للحياة و المعتقدات منها ما يتعلق بمؤسسة الأسرة التقليدية (الزواج، الشرف، الحب، التربية الجنسية، الإنجاب، الخيانة، الشعوذة و الخرافة…).
و الغريب في الأمر (حسب منطوق رواية “بشرى”)، فرغم كل هذه السلطة المعنوية التي تتمتع بها هذه المؤسسة الدينية، و رغم مساهمتها بشكل أو آخر في تأجيج الصراعات المذهبية و الطائفية، نراها غائبة عن ساحة المعارك، و يتحول وقتها و دورها من قوة توفر الحماية إلى ضحية تحتاج لمن يحميها؛ نقرأ:
“وما كدنا نخرج من القرية حتى ظهرت لنا مجموعة من شباب قريتنا و هم يدورون حول الكنيسة لحمايتها، و خاصة أن الرجال إلى أمٍّ تهتم بهم و تترأف بأحوالهم و تستجيب لدعائهم نهارا، و هم يحمونها بقوتهم ليلا. و كدت أقول لهم (الكلام ل “لينا”) ـ إتركوها لتحمينا و تحمي نفسها و هي أقدر منكم على المناورة و المحاورة.” (ص. 99).
هكذا يجد قارئ رواية “بشرى” للكاتبة اللبنانية المبدعة لوريس الراعي يرى نفسه كما في مرآة تعكسه، أو تعكس صورة يألفها؛ صورة واقع شباب بدون آفاق حقيقية، و من خلالها صورة بلد عبر علامات و مؤسسات متخلفة عن الركب؛ أمّة واحدة تطعن أحشاءها خناجر فلذات أكبادها: إخوة أعداء (كما في رواية الإخوة كرامازوف للكاتب الروسي العالمي دوستويفسكي)… و كأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه، و حتى خارج لبنان، يتبادر إلى ذهننا أننا نعيد كتابة نفس الرواية مع لوريس الراعي في أكثر من بلد عربي (اليمن، و سوريا، و فلسطين، و العراق، و السودان، و ليبيا… و غيرها من البلدان).
مع تحيات نافذة النقد.