توفيت الفنانة المصرية العربية شادية، بوسع قبائل اللامبالاة والاستخفاف أن تضحك وتقول وماذا يعني موت فنانة؟؟! وماذا يعني موتها أمام ارقام الموتى وأرصدة بورصات القتل والذبح اليومي العربي والعالمي، بالطبع لا شيء يرادف تحديق الأم وهي واقفة أمام قبر ابنها، لا شيء يرادف تحجر دموع زوجة عندما سمعت بقتل زوجها، ولا شيء يرادف ملامح والد يتأمل صورة ابنه الراحل المعلقة على جدار بارد، لا شيء يرادف أفواهنا المزروعة بأعشاب الغضب والقهر والحزن، لكن موت الفنانة شادية ذكرني بأمي التي حققت امنيتها برؤية الفنانة شادية عندما حضرت مسرحية “ريا وسكينة” عام 1984، والتقت بها في القاهرة.
“صباح الخير أيها الحزن” رددتها اليوم صباحاً.. وانتبهت أنني لم أجد أمامي سوى عنوان رواية الكاتبة الفرنسية “فرانسوا ساغان” “صباح الخير أيها الحزن” التي أطلقتها في أواسط سنوات الخمسينات، فكانت الرواية – القنبلة – التي تأثرت بها الكاتبات العربيات والغربيات، لا سرقات أدبية في عالم الحزن الواحد، موت الفنانة شادية أجج داخل عقلي صوراً كانت نائمة في زوايا الغياب، لكن الآن هذه الصور جالسة على عتبة التسول، تتسول أيامي وتريد الافراج عنها، من يقول أن صور الذكريات لا تتسول؟! من يقول صور الذكريات لا تباع يومياً على رصيف شهقاتنا ودهشتنا وحزننا..! تُباع حين نشتريها بحاضرنا الذي يسخر أحياناً منا.
من الصور النائمة التي خرجت تتجول في صباح الحزن، صورة الفنانة شادية برقتها و نعومتها وشقاوتها وصوتها العذب وحيويتها التي هدأت مع السنوات وتحولت الى فنانة تقرع أبواب الالتزام بقضايا المرأة كما جاء في فلم “امرأتي مدير عام” و “معبودة الجماهير” ولا تسألني من أنا ” و “الشك يا حبيبي”.. وغيرها
أحبت أمي – رحمها الله – الفنانة شادية لدرجة معرفة تفاصيل حياتها، كنت أراها تجلس عدة ساعات الى جانب الراديو وتستمع الى برنامج كان يُبث من إذاعة القاهرة بعنوان “من الشاشة الى الميكرفون” حيث يبثون الفلم والمستمع يسمعه ولا يراه، يسمع الأصوات ويتابعها، يستبدل الأذن بدلاً من العين، وتكون متعة الخيال وارتقاء المشاعر، وعندما يكون الفلم لشادية، كانت تفرض على البيت منع تجول، وتمنعنا نحن الأطفال من التحرك وتجبرنا على الانصات مثلها، ثم مع دخول التلفزيون الأبيض والأسود كانت الأفلام القديمة تغسل ساعات فراغها بمسحوق الفرح، وإذا كان الفلم للفنانة شادية كانت تفك أزرار اليوم لتنشر ثياب طفولتنا على فضاء احتضاننا، حيث نجلس بهدوء الى جانبها، نعرف توقيت متعتها الروحية.
في إحدى المرات وكان الفلم للفنانة شادية، نظرت إلي امي وقالت الله يرحمو سيدك حسن – جد أبي – وتنهدت..! لم أعرف لماذا ترحمت على جد أبي الآن..! لكن قالت لي عندما ولدتك سميتك شادية، لكن جدك جن جنونه، قال بنتنا تكون على اسم فنانة..!! وحرض الجميع، حيث كان يسكن جميع أفراد العائلة في بيت واحد يسمى “الحوش الكبير” جدتي أم والدي – الحماة – وجدتها فرصة مواتية للانقضاض على أمي الآتية من المدينة، وتريد فرض عادات المدن عليهم، قال بنتنا تكون على اسم فنانة، هذا اللي ناقصنا..!!! قال بناتنا على اسامي الفنانات..!! وكانت تصفر وتحمر وترعد وتبرق ولم تترك أقارب وحبايب وجيران الا وكانت تقول له عن اسم شادية الذي أصبح عنواناً للتمرد، والخروج عن نطاق العائلة.
حاولت أمي اقناعهم أنها هي الأم، ومن حقها أن تسمي الاسم الذي تريده، لكنهم أصروا على تغيير الاسم، وخسرت أمي معركتها الأولى، وكانت ما زالت صغيرة لا تتقن فن المناقشات والمماحكات النسوية، وكان أول سلب لحرية قرار أمي، وسلبا لتفكيرها، وكان أبي خاضعاً لوالده ووالده خاضعاً لوالده – جدي حسن – الذي أراد أن يفرض نفوذه على كتلة لحم لا تتجاوز الكيلو ونصف، و ترقد في سرير حديدي في المستشفى الفرنسي في الناصرة.
و تنازلت أمي عن قرارها بتسمية شادية، وبقيت تناديني بالسر شادية، حتى أصبح لي اسمان، واحد في السر فقط بيني وبين أمي شادية، أما في العلن فقد كان اسمي شوقية، و الذي اعترف بعدها جد والدي – حسن – أن اسم شوقية كان الاسم الفني لمغنية عراقية قدمت يوماً الى مدينة حيفا للغناء في احدى الحفلات التي كانت منتشرة في سنوات الاربعينات، وقد حضر جدي حفلتها بالسر بعيداً عن زوجته التي كانت مميزة بقوتها وسيطرتها وغيرتها عليه.