قصفتنا معركة كورونا الجارية بسيل عرمرم من الصور، عكست توليفة خلطة سوريالية؛ تجمع بين مختلف تجليات النزوع الإنساني، المنبعثة لحظات الفوبيا المصيرية، وبالطبع كل واحد منا يقف مطولا عند هذه الصورة أو تلك، دون باقي غيرها، بناء على مرجعياته الرؤيوية للعالم.
شخصيا، جذبت انتباهي؛ بل مختلف تلابيب جوارحي، أربع صور أظنها، تختزل بشكل جامع مانع غاية الآن، جل سيناريوهات الحرب الضروس؛ بين الإنسانية والكائن الافتراضي، المسمى علميا بـ كوفيد 19:
*طبيب أمريكي في مستشفيات نيويورك؛ يرتدي أكياس القمامة، احتماء من عدوى مرضى كورونا !…
*حفر مقابر جماعية في نيويورك دائما، لضحايا كورونا.
*انتحار توماس شيفر وزير المالية؛ لولاية هيسن الألمانية، ملقيا بنفسه تحت عجلات قطار بحيث استشعر من الآن، مثلما شرحت بعض التقارير الإعلامية، رعب الكارثة الاقتصادية التي سيخلفها الوباء، ألمانيا وعالميا.
*انتقال الرئيس ماكرون إلى مدينة مارسيليا، وتحديدا المعهد الاستشفائي الجامعي، قصد الإصغاء إلى شروحات البروفيسور راؤول ديديه، الذي دافع منذ الأسابيع الأولى عن إمكانية استخدام الكلوروكين لمعالجة مرضى كورونا.
ربما بدت الصور الثلاث الأولى غارقة في التراجيديا ومن ثمة التشاؤم؛ بينما الأخيرة فقد انطوت أخيرا على قدر من التفاؤل.
دائما وبناء على قناعة شخصية، لم تستهويني في أي وقت من الأوقات لعبة الفصل الكلاسيكية بين التشاؤم والتفاؤل، كأننا أمام تقسيم نهائي؛ تراتبيا، بين إيجابية التفاؤل باعتباره من الغرائز الايروسية المكرسة للحياة، في حين يندرج عدوه اللدود التشاؤم؛ ضمن خانة العقائد التاناتوسية المستحضرة للموت.
تمسك اعتقادي دائما، بأن الاطمئنان دون غيره إلى التفاؤل يعكس أقصى درجات الغباء، منطويا على تبسيط أبله للحياة، في المقابل، التلويح تماما بالتشاؤم يكشف عن جبن فظيع للذات. لذلك، يقتضي التوازن الوجودي المكوث عند حدي جدال تناظري لا يتوقف، لا سلطة لهذا ولا لذاك، ربما على طريقة المتشائل للروائي الفلسطيني إميل حبيبي، ثم وفق أرضية تستند فقط على مرجعية الارتياب و اللايقين والتأهب للطارئ مثلما أوضح ذلك إدغار موران عبر آخر حواراته، بقوله:
“بينما ترسخ حضارتنا مزيدا من الحاجة إلى يقينيات حول المستقبل دائما متعددة، وهمية في الغالب، تافهة أحيانا، هكذا وصفوا لنا حتما على وجه التحديد طبيعة وضعنا سنة 2025! قدوم هذا الفيروس يلزمه تذكيرنا بأن الارتياب يظل عنصرا منيعا بالنسبة للوضع البشري. فمختلف الضمانات المجتمعية التي بوسعنا الرهان عليها لن تكون أبدا قادرة على ضمان عدم إصابتنا بمرض أو الشعور بالابتهاج لحظات تنظيف المنزل! هكذا نتطلع نحو تحصين واقعنا بأقصى التأكيدات الممكنة، في حين، تحيا معناه أن تمخر عباب بحر من التقلبات، وأنت تقتات على جزر من أرخبيلات اليقينيات”.
فمن يتخيل؛ بل مجرد أن يشرد ذهنه لثوان ربما قبل شهر من الآن، أن أمريكا التي تعمم بعجرفة الموت في كل مكان، ستهزمها الموت في عقر دارها بهذه الرعونة، وهي المنظومة الجبارة التي روضت الموت، على امتداد خريطة مناطق الذهب، التي يحرسها تجار العجل الذهبي، منذ أن عرفناها باسم أمريكا، فأذاقت مختلف الشعوب المتطلعة إلى الحياة، على امتداد الزمان، أطباقا من الموت المطبق، بدون مقدمات ومع جحيم كل النهايات، بالجملة وبالتقسيط وبالمباشر وبقفازات حريرية والسريع والبطيء والداكن والمزركش، ثم هلم جرا، أرغمت محمود درويش ذات يوم، من عهود يوميات الثورة، كي لا يتردد في نعتها بالطاعون، والأخير لن يكون سوى أمريكا، حتما من خلال أذرع أخطبوطها السياسي والعسكري والمالي والاستخباراتي :
“وأمريكا على الأسوار
تهدي كل طفل لعبة للموت عنقودية
يا هيروشيما العاشق العربي
أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا”.
أما بخصوص الصورة الرابعة، فيمكن قراءتها بحسبي، وفق المحددين التاليين :
من جهة، استعاد رجل العلم حاليا زمام المبادرة فأضحى سيد المشهد، مادامت أوراش المختبرات وحدها قادرة على تخليص البشرية من فاجعتها، بحيث فتح العلم مجالات للنقاش، جعلت المجتمع يدرك، ضرورة الانفتاح على البعد التناظري للحقائق العلمية، ولم تكن قط ذات خاصية دوغماطيقية، مثلما ساد الاعتقاد دائما. أعود ثانية، بهذا الخصوص لحديث إدغار موران :
“تعيش العلوم وتتطور في كنف النقاش والجدال. بحيث سمحت السجالات حول الكلوروكين، مثلا، بطرح سؤال التناوب بين الطارئ أو الاحتراس. وقد شهد عالم العلوم سابقا جدالات قوية من هذا النوع خلال لحظة ظهور مرض السيدا، سنوات 1980، بالتالي ما أوضحه لنا فلاسفة العلوم، يتمثل تحديدا في الجدالات تشكل جانبا ملازما للعلم ويقتضيه سياق تطوره”.
من ناحية ثانية، يتجلى بوضوح سواء مع ماكرون، أو أيضا ترامب المحاط حاليا بفريق علمي يتقدمه مدير مركز الأوبئة في أمريكا، أن القيادة السياسة أدركت بعد كل شيء، ضرورة انتشال العالم من يد البيروقراطي والمقاولاتي والعسكري والصيرفي والميركانتيلي والانتهازي، وتسليم القيادة إلى أهل العلم والحكمة والتبصر، حتى لا تنهار الأشلاء المتبقية.
النتيجة الحالية حتمية، ولم نخسر أصلا عالما جديرا بالحياة، مادام قد صار في نهاية المطاف؛ مسرحا قذرا لرهانات: مافيات معينة تمسك بمصير ملايير البشر، شركات وبائية عابرة للقارة ومجهولة الاسم ترسم بأرباحها الخريطة الجيوبوليتيكية، أرقام فلكية توجه إلى دعم نزعات الموت، اختلالات إيكولوجية رهيبة، تعميم الحروب، قوافل اللاجئين والمهاجرين اللاشرعيين بلا أوطان، وخلفهم حشد هائل من الأطفال بلا مستقبل أو أمل، تعميم أسواق النخاسة ومواخير الدعارة، إلخ.
بالتالي، تفشي كورونا على طريقة النظرية الفيزيائية المعروفة بنظرية تأثير الفراشة، أسقط آخر أوراق التوت، وكشف بلا رياء عورة الجميع، دون أدنى لبس أو مواربة.