تنامت في السنوات الأخيرة ظاهرة لافتة في مجتمعاتنا العربية عموما، وضمنها المغرب، تتعلق بما يعرف في التشريعات القانونية بـ “العنف ضد الأصول”، وهو ما يجعل المشرع يتساءل عن محددات الظاهرة وعن الأسباب الكامنة وراء استفحالها.
وإذا كان العنف ضد الأصول ظاهرة كونية عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ القديم، فإن حدة تأثيرها تختلف حسب خصوصية كل مجتمع، وحسب الطرق التي يعتمدها هذا المجتمع أو ذاك في التصدي لهذه الظاهرة.
في حوار مع أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء، توقفنا عند تشخيص الظاهرة والأسباب المؤدية إلى ارتفاع معدلاتها.
ما المقصود بالعنف الموجه ضد الأصول تحديدا؟
يعتبر الاعتداء على الأصول، إلى جانب أشكال الاعتداء الأخرى، مثل العنف الممارس ضد الأطفال والعنف بين الأزواج، أحد أبرز تجليات العنف الأسري، وأكثرها تأثيرا على استقرار الحياة النفسية والاجتماعية للأسر.
ما هو موقف المشرع من الظاهرة؟
تطلق لفظة الأصول شرعا وقانونا، على الوالدين. فأصول الإنسان من لهم عليه ولادة، وهم تحديدا الآباء والأمهات والأجداد والجدات. وحدد القانون الجنائي المغربي في العديد من فصوله، جملة من العقوبات الزجرية في حق المعتدين على الأصول، تتراوح بين السجن أو الحبس لتصل إلى حد الإعدام، وبحسب طبيعة الجرم المرتكب. غير أن الملاحظ أن المشرع قد شدد في العقوبة المتعلقة بالجرائم المرتكبة، إذا كان الضحية أحد الأصول.
والملاحظ أن التعريف القانوني يحصر العنف في مستواه الجسدي، أما شرعا، فالقرآن نهى عن العنف ضد الوالدين بالإهانة والتحقير والشتم، “ولا تقل لهما أف ولاتنهرهما”، واعتبر الإساءة إلى أحد الأصول من الكبائر، فما بالك بالعنف الجسدي.
ويتراوح التعنيف الممارس ضد الأصول حدة، بين العنف اللفظي والجسدي. فالعنف اللفظي قد يتخذ صيغا متعددة، مثل السب والشتم والنهر والتعريض للإهانة والتحقير، وأقلها درجة التأفف، وعادة ما لا يجري التبليغ عنها، وهو ما يجعل أغلب القضايا المعروضة على العدالة، تلك التي تتعلق عادة بالعنف الجسدي ضد الأصول.
بعيدا عن التعريف القانوني، كيف يمكن تشخيص الظاهرة؟
بعيدا عن التعريف القانوني، نعتبر أن الظاهرة جد معقدة، وتتداخل في تحديدها عوامل كثيرة ومتعددة اقتصادية واجتماعية ونفسية بالدرجة الأولى. ولعل معاينة بسيطة لبعض ما ينشر من أخبار المحاكم، في غياب إحصائيات رسمية دقيقة حول الظاهرة، تبرز أن تدني الوضع الاقتصادي للأسر، يشكل أحد أهم العوامل، التي تكمن وراء الظاهرة، علما أن القضايا الرائجة في ردهات المحاكم لا تعكس حجم الاعتداءات الموجهة ضد الأصول، لأن الموضوع ما زال من الطابوهات، ويحاط في الغالب بنوع من التكتم من طرف الأسر، وهو ما يجعل معظم الآباء المعنفين يحجمون عن التبليغ، عما يمكن أن يتعرضوا له من اعتداءات من قبل أبنائهم، لاعتبارات اجتماعية أساسا. وحتى في حالة التبليغ، فإنهم سرعان ما يتراجعون عن متابعتهم قانونيا.
دراسات وشروحات حددت أن فئة الشباب والقاصرين هي المتابعة بالأساس في جرائم الأصول
من حيث الفئة العمرية، نجد أن الجناة هم في أغلبهم من الشباب والمراهقين، الذين يجدون صعوبات كبيرة في التكيف والتطبيع مع المجتمع. وحسب التقطيع الجغرافي، يلاحظ أن الظاهرة تنتشر بقوة في الأوساط المدينية مقارنة بالوسط القروي، وهذا راجع بالأساس إلى الصعوبات والضغوطات الاجتماعية والنفسية، التي تخلقها الحياة داخل المدينة.
وأبرزت العديد من الدراسات في هذا المجال، أن تعاطي الشباب للمخدرات يأتي في الدرجة الأولى من حيث الأهمية، إذ يضطر المدمن تحت تأثير المخدرات والأقراص المهلوسة إلى ارتكاب أفعال مشينة، تدفع بهم إلى التصرف بعدوانية مفرطة تجاه الآخرين. هذا إلى جانب عوامل أخرى مثل انتشار البطالة في الأوساط الفقيرة خاصة، وعدم قدرة الأسر على تلبية احتياجات الأبناء، والهدر المدرسي، والتفكك العائلي.
ماذا عن الوازع الأخلاقي؟
إن اختلال منظومة القيم، وتراجع الوازع الأخلاقي، يشكل في نظري أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الظاهرة واستفحالها. فقد أصبح مجتمعنا بفعل هيمنة قيم السوق المتوحشة، وتغليب المصلحة الذاتية، يعيش نوعا من اختلال المعايير، وتراجع العديد من القيم الاجتماعية، كالتضامن والتكافل وتفشي الفردية، وغياب التواصل بين مكونات الأسرة.
أما عن الانعكاسات النفسية لهذه الاعتداءات على الوالدين، فهي جد خطيرة على استقرارهم النفسي، إذ تبرز العديد من الدراسات في هذا المجال، أن الأشخاص المعنفين يتولد لديهم شعور حاد بالانقباض والإحباط، وعدم القدرة على العيش بشكل طبيعي وفقدان الثقة في المستقبل.
كما أن عنف الإبن ينبغي التعامل معه، باعتباره رد فعل نفسي تجاه محيطه الأسري والاجتماعي عموما. ففي غياب آليات الحوار داخل الأسرة وانعدام التواصل وعدم القدرة على حل المشاكل، تسود لغة العنف، ويحل معها فقدان الثقة بين مختلف أعضاء الأسرة، وهو ما قد ينعكس سلبا على العلاقة مع المجتمع، مما يخلق لدى الابن إحساسا بالضياع والقلق، ويدفعه من ثم، إلى الإدمان على المخدرات، واعتماد العنف تجاه ذاته وتجاه الآخرين.
هل هناك حلول للتخفيف من الظاهرة؟
للتخفيف من حدة الظاهرة، أعتقد أن لا مفر من توفير الرعاية النفسية لهؤلاء الشباب، ومن خلق مراكز للاستماع خاصة بهم، حتى يستعيدوا الثقة بأنفسهم وبذويهم، ويصبحوا أكثر قدرة على التكيف مع المجتمع، مع إيجاد صيغ معقولة وسريعة التطبيق، لامتصاص الضغط الذي يولده الضغط الاجتماعي.